“هل عدتِ للتو من المعبد؟”
“أجل، هناك مهرجان كبير قريب، ذهبتُ للصلاة من أجل بركته.”
كان الحرير الأبيض على كتفيها يلمع بضوءٍ سماوي،
والزخارف الفضية حولها كأنها هالة من القداسة.
كانت الدوقة في زيّ الكاهنات الكبار،
يليق بها تمامًا لقب القديسة ليونورا—
امرأة قيل إنها تلقت بعضًا من بركة الحاكم نفسه.
“في بعض الأحيان، يمنّ علينا الرب بإجابةٍ مباشرة.”
“هاه… هاها.”
“أماه، لا تبالغي. هذا لأنكِ أنتِ *أمي* فحسب.”
قالت الابنة الكبرى وهي تحتسي الشاي بابتسامة صغيرة.
“حتى بين الكهنة، من بتواصل مع الحاكم نادر للغاية.”
“كنتُ أظن أن إحدى بناتي سترث قوتي… يُقال إن القوة العظمى تنتقل بالدم.”
“من أي جيلٍ تتحدثين؟ ثم، هل تشعرين بالأسف لذلك؟”
“ولِمَ أندم؟ أنتنّ جميعًا بصحةٍ وسعادة، ماذا أريد أكثر من هذا؟”
ضحكت بخفةٍ ثم دفعت إليّ قطعة كعك.
“دعينا نقضي بعض الوقت كنساءٍ معًا اليوم.”
“آه، بالطبع.”
“أما أسوان، فكان لديها عمل خارج القصر، لكنها تأسفت كثيرًا لغيابها.”
“حقًا؟”
“يبدو أنها أُعجبت بكِ.”
قالت أليشيا، الابنة الكبرى، بنبرةٍ ودّية لا تخلو من طبعها الحادّ:
“تلك الفتاة تخاف مني قليلًا.”
“ومع ذلك، تعتمد عليكِ كثيرًا.”
كان الجو غريبًا.
كلتاهما عاملتاني بلطفٍ واضح،
لكن من الصعب أن أرتاح مع أشخاصٍ يكرهون الشخص الذي أحبّه.
ومع ذلك، لم أنكر أن اللقاء كان دافئًا في ظاهره.
امتدت الحديقة أمامنا، والأشجار تتمايل ببهاء أخضر،
والهواء العليل يعبق برائحة الصيف القصير في الشمال.
“صيف إيودرانكا قصير، لكنه في غاية الجمال.”
“بالفعل، إنه رائع.”
“أتمنى أن تستمتعي بهذه اللحظة يا آنسة سونِت.”
أشعة الشمس البيضاء انعكست على أوراق الشجر،
نسيمٌ خفيف داعب عنقي، وأحسست بأن كتفيّ المتشنجين يرخوان أخيرًا.
حتى طعم الكعك، الذي أكلته بلا تفكير، بدا فجأة لذيذًا وحلوًا حقًا.
لكن عندما وصلتُ إلى منتصف اللقمة التالية، توقفت فجأة.
طنينُ سقوط الشوكة على الطبق قطع كلامي.
العيون الحمراء التي تواجهني برداء الكاهنة أظلمت ببطء.
“استمعي إليّ يا آنسة سونِت.”
ابتسامتها كانت مهذبة… أكثر مما يجب،
تلك الابتسامة المصنوعة التي تفضح كل تكلّفها.
وضعت يدها البيضاء الرقيقة على كتفي وقالت بصوتٍ منخفضٍ وثابت:
“بصفتي أمًا، يصعب عليّ قول هذا، لكن أرجوكِ لا تفهميني خطأ.”
“تفضلي.”
“احذري من يوت.”
كانت نبرتها حاسمة، كأنها تذكر حقيقةً مقدسة.
خلافًا لعادتها، لم تنظر حولها قبل الكلام، بل نظرت إليّ مباشرة.
“إنه ليس بالطيب البريء الذي تظنينه.”
“أجل، ربما… لكن ألا يملك كل إنسانٍ جانبه المعقّد؟”
قلتُها بابتسامةٍ ثابتة،
لكن في داخلي كان السؤال يصرخ:
‘لماذا تتحدثين عن ابنكِ وكأنه خطرٌ يجب الحذر منه؟’
‘لو كان طيبًا فقط كما تقولون، فهل كان سيرشّ مسحوقًا يُفقد الوعي؟’
قالت وهي تتكئ بكسلٍ على المقعد:
“ما تعنيه أمي هو أنه يعاني من نقصٍ شديد. مثل نقص في العاطفة.”
ثم أضافت بنفاد صبرٍ واضح:
“يتلاعب بالناس بطريقةٍ غريبة.”
“……”
“منذ صغره، لديه عادة سيئة.”
“أي عادة؟”
“يوهم الآخرين بأنه يمنحهم قلبه كله، كأنه يهبهم روحه،
لكن ما إن يتعلّقوا به حقًا، يدير ظهره بكل بساطة.”
“……”
“وليس مرة أو مرتين. يخدع تلك الفتاة وذلك الشاب،
ثم يدّعي أنه لم يكن يقصد شيئًا منذ البداية.
وعندما تهدأ الأمور، يجد شخصًا آخر ليتسلى به.”
يوت بيلفيت… يتلاعب بالناس؟
لم تستوعب رأسي كيف يمكن أن يجتمع هذان الوصفان في جملةٍ واحدة.
“لم يكن الأمر صعبًا عليه. أمي أنجبته بوجهٍ جميل للغاية.
وصوته ناعم، رقيق، بعكس صوتي أو صوت والدي.”
“عذرًا، ولكن—”
“يلهو ثم يرمي، يلهو ثم يرمي.
لا أحد في الإقليم يجهل عاداته تلك،
لكن لا أحد يتجرأ على الكلام، فالعار كبير.”
“سيدتي…”
“هو فقط يستمتع بتلك اللعبة. شعور السيطرة.
إنه… منحرف في أعماقه.”
“إذن! عندما تقولين ‘يلهو ثم يرمي’…
ماذا تقصدين بالضبط؟ ماذا كان يفعل؟”
“كما قلتُ.
يتظاهر بأنه يعد بالمستقبل، يتحدث كما لو أن الطرف الآخر هو الوحيد في العالم.
يقول كل شيءٍ ليكسب الثقة،
وحين يقع الآخر في الحب… يسخر منه ويمضي.”
“يوت؟ يفعل هذا؟”
“هو يستخفّ بمشاعر الناس،
ويتظاهر في النهاية بأنه الضحية.
لا تنخدعي بذلك العرض.
رغم أنه أخي، لكنه لا يختلف كثيرًا عن محتال.”
يوت… يعد بالمستقبل؟
‘هذا مستحيل.’
صحيح أنه يتحدث كثيرًا عندما يُحاصَر،
لكن لم أسمعه يومًا يرمي وعودًا فارغة.
ولم يكن يومًا قاسيًا لدرجة أن يسخر من إنسانٍ يحبه.
“هل قال لكِ بنفسه تلك الكلمات؟
وعدكِ بالمستقبل؟”
“بالطبع لا. يقول دائمًا إنه لم يقصد شيئًا.
يدّعي أنهم كانوا ‘أصدقاء فقط’.
أتظنينه سيعترف؟”
“……”
“كنتُ أظن أنه تعلّم الدرس بعد طرده من القصر…
لكنه عاد مجددًا، وهذه المرة ومعه ‘صديقة جديدة’.”
“أنتِ مخطئة.”
نظرت إليّ بعينيها الحمراوين كما لو كانت تشفق عليّ.
تلك النظرة وحدها جعلتني أغلي من الداخل.
“أنا حقًا صديقة يوت. لم يستغلني،
ولم نتبادل وعودًا بالمستقبل.”
حتى إن كنتُ أخفي بعض الأشياء،
كنت دائمًا صادقة معه.
ولم يسخر مني يومًا، لا مرة واحدة.
“كم تعرفينه أصلًا؟”
“……”
“أنا رأيته على مدى عشرين عامًا.”
“وفي تلك العشرين سنة، هل رأيته حقًا؟ ولو مرة واحدة؟”
“ماذا؟”
“هل نظرتِ إلى عينيه مباشرة؟
حقًا؟”
تشابكت أيدينا، ربما بقوةٍ زائدة،
حتى تركت أظافرها علاماتٍ على جلدي.
‘لا، يجب أن أتمالك نفسي.’
‘لا يجوز هذا.’
هي من النبلاء، وأنا… مجرد خادمة ضيفة.
لا ينبغي أن أرفع صوتي، لا ينبغي أن أجادل.
“لو كنتِ تعرفينه حقًا،
لما قلتِ هذا عنه.”
لكن لساني لم يتوقف.
“لا يمكن أن تتحدثي عنه بهذه الطريقة…”
كانت السماء صافية،
والنسيم باردًا،
والشمس تلفح كتفيّ بحرارةٍ لطيفة،
وأوراق الأشجار تتراقص بضوءٍ بديع.
كل ذلك الجمال أحالني إلى ذكرى واحدة—
ذلك الفتى الذي كان يليق به الصيف أكثر من أي شيءٍ آخر.
الذي كان يبتلع ريقه بتوترٍ كلما عاد إلى البيت،
ويعترف بخجلٍ كم كان وحيدًا طوال تلك السنوات.
“أنتم لا تعرفون شيئًا. لا الآن، ولا في الماضي، ولن تعرفوا أبدًا.”
“ماذا تقصدين؟”
“أقصد أنه مؤسف…
أنكم لا تعرفون كم هو شخص رائع.”
‘وأنا… أعرف ذلك جيدًا.’
ارتفع صوت الكرسي وهي تنهض بغضب،
أما أنا، فقد استدرت وركضت مبتعدة.
ركضت عبر الحديقة الصيفية المبهرة،
بكل ما فيّ من ألمٍ وغصّة.
كنت أبكي دون صوت.
—
وبمحض الصدفة، كان هناك شخصٌ في الممرّ لم أره منذ أيام.
“لماذا أنتِ هنا في الخارج؟ ادخلي، الجو حار.”
“لا يليق أن أبقى بالداخل وصاحب البيت غير موجود.”
“لكنّك لستِ غريبة… ما الأمر؟”
“هذا.”
بمجرد أن رأيت ما في يده،
لم أستطع التماسك.
أمسكت بذراعيه برفقٍ وارتجاف،
اقتربتُ حتى كادت مقدمة حذائي تلامس حذاءه،
لكنني لم أستطع رفع رأسي لأراه.
التعليقات لهذا الفصل "78"