“اليوم، شكرًا لكِ على المساعدة.”
“أي شكر؟ ما زال عليك أن تدفع ما عليك، يا أبي.”
كلمة ‘أبي’ التي كانت تجعل وجهي يحمر في البداية، أصبحت تخرج من فمي بسهولة بعد أن رددتها عشرات المرات.
‘أحسنتِ، أديتِ الدور بشكل ممتاز.’
لم أخطئ في المناداة مرة، وأتممت دوري كمساعدة في البازار بإتقان.
بل إن بعض الناس أثنوا على علاقتنا قائلين إننا ‘أب وابنة متفاهمان جدًّا’.
صحيح أنني لا أملك براعة ذلك التاجر العجوز، لكنني لم أكن سيئة إطلاقًا.
كل شيء سار على ما يرام، غير أن……
“أبي، نعم، أبي، أبي…”
‘ما خطب هذا الرجل؟’
منذ أن بدأنا في ترتيب الطاولة، وحتى الآن ونحن في العربة، بدا كمن فقد نصف عقله.
‘كان يتحدث مع الناس من حوله بكل نشاط قبل قليل.’
ربما هو الفارق في الطباع؟ ففي الوقت الذي تركته فيه لبرهة، كان قد تحدث مع ستة أو سبعة أشخاص لا يعرفهم أصلًا.
وكانت أجواء الحديث من البهجة بحيث شعرت بحرارتها حتى من بعيد……
‘فلماذا هذا البرود الآن بعد أن انتهى كل شيء؟’
‘هل هو من النوع الذي يُستنزف بين الناس؟’
راقبته للحظة، وجهه خالٍ من أي ابتسامة، ثم صرفت نظري.
‘ليس من شأني أن أقلق عليه.’
صحيح أن رؤيته صامتًا بعد يوم كامل من البشاشة كان غريبًا بعض الشيء، لكن لم يكن لدي أي سبب لأكسر الصمت.
“اسمعي يا ابنتي.”
“ألم ننتهِ من لعبة الأدوار هذه بعد؟”
“لا تكوني قاسية، يا ابنتي. لدي سؤال يراودني.”
“تفضل، قل ما لديك.”
“منذ متى أصبحتِ هكذا–”
كاد يكمل جملته، لكنني قاطعته عندما رأيت من النافذة شارعًا مألوفًا.
“آه، أرجوك، توقف هنا.”
“لكننا ما زلنا بعيدين عن التاون هاوس.”
“سأتوقف هنا لأشتري بعض الحلوى. لا تقلق، يمكنك أن تسبقني. سأستقل عربة أخرى لاحقًا.”
“مهلًا، أعني أنـ—”
“شكرًا لك على تعبك اليوم.”
قفزت من العربة قبل أن أرى يده المكسوة بالقفاز ترتفع بتردد.
تظاهرت بعدم رؤيتها، ومضيت أعبر الشارع.
كانت الشمس تميل إلى الغروب، ترسل خيوطها الطويلة فوق المباني العالية والمنخفضة.
‘هل ستكون الحلوى أفضل ليوت؟ لأنها تُحفظ لوقت أطول… أما البودينغ، فيمكنني صنعه بنفسي.’
حين استبعدت ما يمكنني صنعه أو الحصول عليه من المطبخ، لم يتبقَّ سوى بضعة خيارات.
كنت أحسب ما لدي من النقود المعدنية وأنا أدخل المتجر،
لكن دفعةً دافئة وثقيلة أحاطت خصري فجأة.
“أخيرًا وجدتكِ.”
……‘هاه؟’
“زوجتي.”
“مـ… من أنت؟!”
لم أفعل في حياتي ما يجعل أحدًا يناديني بـ”زوجتي”!
تسارعت دقات قلبي، وشعرت بقشعريرة تسري في ظهري.
استدرت، فرأيت رجلًا غريبًا يقف خلفي بثبات.
“……يبدو أنني أخطأت.”
كانت ملامحه قاتمة، والهالات السوداء تحت عينيه بارزة.
بشرته شاحبة خشنة، وبياض عينيه يميل إلى الحمرة مثل قزحيته.
هيئة رجل لم ينم أو يأكل منذ أيام.
“أخطأت، تمامًا… هاها…”
غطى وجهه بيديه، وارتجف كتفاه كمن فقد عقله.
حاولت أن أبتسم بتكلف وأنا أتراجع ببطء خطوة بعد خطوة.
“لكن… من أين حصلتِ على هذا؟”
لو لم تمسك أصابعه الطويلة بعنقي في تلك اللحظة.
كانت أنامله باردة وجافة كأنها ستغرس قوتها في أي لحظة،
ثم التفتت تلك اليد مثل الأفعى، وأمسكت شعري تشدّه للأعلى.
“هذا الشريط… من أين حصلتِ عليه؟”
‘الشريط؟’
‘ما شأنه بالشريط؟’
تقلصت عيناه بعنف، وارتجفت شفتاه اليابستان حتى ظهرت عند أطرافها رغوة بيضاء.
“هذا الشريط… لا يوجد مثله في العالم.”
“لا يوجد مثله؟!”
“نعم. لن أكرر السؤال. من أين حصلتِ عليه؟”
“هاها… الأمر هو أنـ…”
حاولت جاهدًة أن أفلت من قبضته، لكن لم أستطع.
أدرت عيني بسرعة باحثة عن مخرج، لكن الشارع الذي كنا فيه كان سكنيًا،
ولا أحد يمر أو ينظر نحونا.
كان من السهل إنهاء الموقف بقول الحقيقة عن الشخص الذي أعطاني الشريط.
لكن… كان هناك إحساس قوي يخبرني أن عليّ ألا أفعل.
تذكرت صديقتي التي أعطتني الشريط وهي تتمنى لي الحظ.
‘آيريس…!’
‘ما الذي كنتِ تفعلينه قبل أن تلتقيني؟’
“توقفي عن التفكير و أجيبي.”
“…….”
“وإلا فسوف–”
“تمهّل.”
صوت جديد، فيه نبرة مميزة، تسللت إليه حرارة دافئة غمرت كتفي.
“ما هذا الآن؟”
“ما الذي يريده هذا الرجل الرفيع الشأن من ابنتي؟”
الشخص الذي كنت قد افترقت معه لتوي، عاد ووقف خلفي كما لو أنه لم يغب لحظة واحدة.
“تلكـ…”
“آه يا إلهي، انظري إلى ابنتي كم تمشي بسرعة. لقد وبّخت أباها لأنه تبعها.”
كانت لعبة الأدوار قد انتهت، غير أن الابتسامة الساخرة التي كانت مرسومة على شفتيّ سرعان ما اختفت لتترك مكانها لبرود قاسٍ حين واجهت الرجل الغريب.
“في وضح النهار هذا، ما الذي كنت تنوي فعله بابنتي الثمينة؟”
“حالما أنهي ما جئت لأجله، لن يكون لي شأنٌ آخر.”
“هاها، شأن تقول؟ تمسك بشعر فتاة عابرة من غير مقدمات، وتدّعي أن لك شأنًا؟”
“ليس لدي وقت لأتجادل مع أمثالك. الشخص الذي يجب أن يجيبني هو غيرك.”
“وابنتي ليست مُلزمة بالإجابة على أي شيء. أولًا، إن كنت تريد الحديث، ألا يجدر بك أن تُفلت شعرها؟”
“يا له من حديث تافه…”
بناءً على طلب “ريجيت دال”، ترك الرجل شعري. ثم أمسك بمقبض سيفه.
‘لقد علقتُ في ورطة.’
كانت طريقته في سحب السيف تدل على خبرة. بلا شك، مهارته تفوق ما تعلمته أنا في بضعة أسابيع من التدريب.
الشخص الذي يقف بجانبي – والذي قد يكون أبي أو لا يكون – وقف أمامي ببطء، محاولًا أن يحجبني عنه.
‘هل ينوي القتال بدلاً عني؟’
ولكن كيف؟ وهو بلا سلاح! وإن كان كلام الرجل الآخر صحيحًا، وإن كان هذا بالفعل “رجلاً رفيع المقام”، فهل سيتخذ أحدهم أي إجراء لو حدث شيء؟
كل هذا من أجل ربطة شعر؟ هذا محض…
“أأ، أأ، وجدتها!”
الكذب سيكون حلاً.
“…ماذا؟”
“قلتُ إنني وجدتها!”
“لكنك قبل قليل قلتِ إنك استلمتها.”
“نعم، استلمتها من الأرض، لأنها منحتني إياها.”
شبكتُ يديّ فوق عظمة الترقوة وقلت:
“يُسمّى هذا أيضًا ‘هدية من الأرض’.”
“أتريدين مني أن أصدق هذا الهراء؟”
“صدق أو لا تصدق. وجدتها وقلت إنني وجدتها، فلماذا أكذب بشأن شيء كهذا؟”
“في القطار! القطار المتجه جنوبًا، وجدتها هناك!”
“أحقًا؟ لا تعرفين صاحب ربطة الشعر هذه؟”
“لا أعرف. أقسم بأبي الوحيد.”
“إن كنتِ وجدتها، فلا بد أنها ليست شيئًا ذا أهمية.”
“…”
“أعطيني إياها، ولن أكون بخيلاً في المقابل.”
“لا، لا حاجة لي.”
الأشياء المجهولة المصدر لا تجلب سوى المتاعب.
تراجعت خطوة إلى الخلف وهززت رأسي.
“من يتخلص من أشيائه بلا تفكير، يصيبه سوء. وأنا متعلقة بأشيائي نوعًا ما.”
“أعطيني إياها.”
“قلت لا.”
“هل ترفضين طلبي؟”
كان بريق عينيه الأحمر باعثًا على القشعريرة. أمسكت يده التي حاولت القبض على يدي، وأطلقت نظرة متوترة.
“ابتعد عني فورًا–”
“دوقي، أأنت هنا؟”
اقترب رجل من العدم، يقف كالظل خلف “الدوق”، وقال بنبرة خالية من المشاعر:
“سيبدأ الناس بملاحظتك قريبًا، من الأفضل أن نعود.”
“اصمت.”
“وصلتنا أنباء بأن شخصًا ما قد شوهد في الغرب، يا سيدي.”
كانت كلماته الأخيرة خافتة، لكنها وصلت إلى أذني بوضوح.
تبدّد التوتر الذي كان يملأ الجو وكأن الرجل كان على وشك إنهاء كل شيء.
عيناه ما زالتا مثبتتين عليّ – أو بالأحرى، على شعري – لكنه لم ينبس بعد ذلك بكلمة عن ربطة الشعر، وتبع مساعده مبتعدًا.
لم أتنفس بارتياح إلا بعد أن اختفى تمامًا عن الأنظار.
“واو… كنت على وشك أن أموت.”
“هل أنتِ بخير يا ابنتي؟”
كانت أشعة الغروب تلمس الأرض بلونٍ أحمر كأنها الدم، مما جعلني أشعر بعدم الارتياح.
الرجل الذي ظهر فجأة – مرشح الأب الثاني – عبس وسأل بنبرة متوترة:
“ما علاقتك بالدوق؟”
“الدوق؟ لا أعرفه، هذه أول مرة أراه فيها.”
“إذن لماذا… ذلك الرجل الذي لا يغادر قصره عادة، ما الذي يفعله هنا؟”
“هل تعرفه أنت؟”
“من من النبلاء لا يعرفه؟ حتى نحن التجار سمعنا باسمه. كان لسنوات يحكم المملكة من وراء الستار. لكنه لم يظهر علنًا منذ عدة سنوات.”
“ولماذا؟”
“ذلك… يا إلهي، لون شعرك جميل جدًا يا ابنتي.”
“ماذا؟”
“حين يلامسه الغروب، يبدو زهريًّا. كانت ‘ميريلين’ كذلك أيضًا.”
كان وجهه قبل لحظات مشدودًا، أما الآن فقد تلألأت عيناه الزرقاوان بالعاطفة.
مدّ يده السمراء ولم يتردد في لمس شعري.
“لقد أصبح شعرك فوضويًا جدًا. على كل حال، لا تتورطي مع أناس مثل ذلك الرجل. عيناه حمراء كالدم، إن رأيته من بعيد فابتعدي فورًا. وإن حدث أي شيء، تعالي إلى أبيك.”
‘لكن لعبة الأدوار انتهت بالفعل.’
كنت أود قول ذلك، لكن لسبب ما لم أستطع أن أنطق.
التعليقات لهذا الفصل "74"