بدت الآنسة في غاية الارتباك، فسحبت معصمي نحوها وهمست قرب أذني:
“من هذا الشخص؟”
“ألَا تتذكرينه؟”
‘كيف يمكن نسيان وجه كهذا؟ حتى لو كانت تعيش في عالمٍ آخر، أليس هذا الجمال كافيًا ليُحفر في الذاكرة؟’
حين طال صمتي، أخطأت الآنسة في التخمين تمامًا.
“يبدو وجهه مألوفًا… أهو أحد الشخصيات الرئيسة- آه!”
“إنه طبيبكِ الخاص. عالجكِ مرةً عندما أُصبتِ بالحمّى بسبب الإفراط في الشرب.”
“آه… هكذا إذًا. لكنه موثوق حقًا؟”
“تخرّج من الأكاديمية بمرتبة الشرف. كان ذلك في العام الذي دُمج فيه قسما الطب والصيدلة.”
“ولمَ دمجوها أصلًا؟”
“بعد تخرّجي أعادوها إلى فصلٍ جديد، لأن كثيرًا من الطلاب تأخروا عن التخرج، ومعدل النجاح في الحصول على الرخصة الطبية انخفض كثيرًا.”
“فلننتقل إلى صلب الموضوع الآن، أليس كذلك؟”
“انتظر، انتظر! هناك شيء يجب أن أتأكد منه أولًا.”
“تفضلي، آنستي.”
“هل… يمكنكما أن تتركاني وحدي قليلًا؟”
رفعت يدها لتجذب الانتباه، وحدجتني بنظرةٍ مباشرة.
فعبس يوت قليلًا، وقد ضيّق حاجبيه ببطء.
“أريد أن أسأل هذا الطبيب شيئًا على انفراد. وسيكون ذلك أفضل لك أيضًا، أليس كذلك؟”
“ما الذي تودين سؤاله بالضبط…….”
“إذن نادِني عندما تنتهي، يا آنسة.”
لابد أنها تريد الحديث عن تلك الأمور المتعلقة بـ”الأصل” أو ما شابه.
‘لا داعي لوجودي في مثل هذا الحديث أصلاً.’
فثنيتُ ركبتيّ ثم نهضت، وغادرت إلى الممر.
ولم يمضِ وقت طويل بعد خروجي حتى دوّى صراخ وضحك في الوقت نفسه تقريبًا.
“يا ترى، ما الذي تتحدثان عنه هناك-”
كنت أهمّ بالابتعاد حتى لا أسمع خطأً شيئًا حين لمحت وجهًا مألوفًا.
اقتربت تلك الظلال الواقفة في نهاية الممر سريعًا حتى صارت أمامي مباشرة.
“ما الذي جاء بك إلى هنا؟ هل جئت لمقابلة الآنسة؟ الآن الوقت غير مناسب-”
“أبدًا لا.”
لوّح لابيس بيده كما لو أنه يطرد ذبابة مزعجة.
‘أجواؤه مختلفة عن المعتاد.’
ولم أحتج إلى وقت طويل لأعرف السبب.
“جئتُ لأراكِ أنتِ، يا سونِت. هل يمكن أن تفرغي لي قليلًا من الوقت؟”
كانت عيناه، اللتان اعتادتا أن تنعطفا بلطف، مفتوحتين الآن بوضوح على حالتهما الأصلية.
وجه حادّ القسمات، يحمل ملامح أخته القاسية والحساسة.
‘ما بال وجهه هكذا؟’
—
كان البستان المليء بالزهور غارقًا في بقايا الربيع.
كان لابيس يمشي أمامي بخطوة واحدة، ملتزمًا الصمت طوال الوقت.
‘ما الذي يريد أن يقوله حتى يهيّئ الجوّ بهذا الشكل؟’
هل أدعه وشأنه، أم أبدأ الحديث؟
لم يستمر التردد طويلًا.
“لافيس.”
“…….”
“لافيس! إن لم يكن الأمر عاجلًا فأنا سأ-”
“قلتُ إنني سأقولها، أليس كذلك؟”
استدار ظهره المستقيم نحوي.
وجنتاه اليافعتان كانتا شبيهتين بعجينٍ وقع في بئر ماء.
وعيناه المرفوعتان كانتا منحرفتين مثل خطّ رُسم بقلمٍ مرتجف، أما شفتاه فـ…
لماذا برزتا بهذا الشكل؟
“قلتِ إنك ستخبرينني إن حدث شيء.”
“آه، نعم؟”
“كاذبة.”
“أقصد، ذاك…”
“قالت أختي إنه إن حدث أمرٌ ما فعليكِ أن تخبريني، وقلتِ إنك فهمتِ، أليس كذلك؟”
آه.
أخيرًا فهمتُ سبب غضبه.
‘هل هذا يستحق كل هذا الانفعال؟’
لم أفهم تمامًا، لكن…
قال بصوت مرتجف وهو يعضّ شفته:
“هل أنا بهذه الدرجة من عدم الثقة عندك؟”
“ليس الأمر كذلك.”
“هل تعلمين كم فزعتُ يومها؟ كاد قلبي يسقط من مكانه!”
“…….”
“لو كنتُ أعلم أن الأمور ستسير هكذا، لتعلّمتُ الطب بدلًا من السحر. على الأقل كنتُ تعلمت التمريض.”
“لكنّك من نوابغ الأكاديمية.”
“وهل هذا مهم الآن؟”
‘إذًا ليس مهمًا…….’
رغم أن الموهبة والميول مؤشرات بالغة الأهمية في اختيار المستقبل،
لكني كنت أعلم أن هذا ليس وقت قول مثل تلك الجملة.
“هل تعرفين كم كنتُ قلقًا؟ قالوا لي إنك بحاجة إلى راحةٍ تامّة، فلم أستطع حتى زيارتك.”
“كان يمكنك الزيارة. لم أكن عاجزة عن الكلام.”
“ظننت أني إن رأيت وجهك فسأغضب أكثر…….”
مرّر يده الكبيرة على وجهه.
“كان هناك الكثير من الدماء.”
“…….”
“أعني، الكثير فعلًا. حتى إن المنديل صار أحمر قانيًا.”
“يبدو أنك فزعت كثيرًا. آسفة.”
“لا، لست أقولها لذلك! آه، بحق السماء…….”
تشعث شعره الذهبي المبلّل بالشمس.
وكانت عيناه المحمرّتان تمسحان الدموع بعنف.
“لا تفعلي ذلك مجددًا.”
“لا أفعل ماذا؟”
“إن ضايقك أحد، أخبريني فورًا. أو حتى…… رغم أني لا أطيقه، أخبري ذلك الرجل على الأقل.”
لم أشعر بالراحة وأنا أرى صبيًا صغيرًا يتحدث بهذه الجدية.
‘كان يوت هكذا أيضًا.’
كلاهما خائفان للغاية.
يفزعان من حشرة، ويصدّقان الأشباح، ومن جرحٍ صغير فقط……
“لا تحاولي احتمال الأمر وحدك مجددًا.”
‘تحزن أيضًا.’
“همم، من المبكر أن أعدك بهذا-”
“لن تفعلي ذلك مجددًا، أليس كذلك؟”
“…….”
“هاه؟”
“حسنًا، حسنًا. لن أكرّر ذلك.”
“وعدتِ!”
انقشعت ملامح البكاء عن وجهه فجأة، وصار الجو مشرقًا كما لو لم يحدث شيء.
وبينما كنا نسير بخطوات هادئة أمام المبنى، جاءنا صوتٌ قوي من الأعلى.
رفعت رأسي فرأيت رجلًا يلوّح عاليًا بيده تحت أشعة الشمس.
“سونِت!”
—
“اصعدي الآن! علينا أن نناقش أمرًا!”
“حسنًا!”
كانت بشرة سونت تتلألأ تحت ضوء الشمس.
أما لابيس فكان متجهمًا، لكن ذلك لم يكن مهمًا.
جلس يوت في مكانه بعدما رأى سونت تركض نحو المبنى.
التعليقات لهذا الفصل "70"