66
ركضت.
لكي أمسك بالشخص الذي مرّ بجانبي دون أن يتعرف إليّ.
الشخص الذي كان يفتح ذراعيه في كل لقاء ليحتضنني.
الشخص الذي لم أره منذ أسابيع. الشخص الذي كان يربت على رأسي ويعطيني الحلوى.
مددت يدي نحوه.
نظر إليّ، ثم أبعد يدي عنه بعنف.
تراجعت مترددة، غير قادرة على فهم ما يحدث. تمتم بشيءٍ ما ثم أطلق تنهيدة طويلة…
‘يا للبراءة. ألهذا الحد لا تفهمين كيف يعمل هذا العالم؟’
لم تكن هناك تحية دافئة، ولا عناق مليء بالقوة.
وقف مكتوف الذراعين وهو يحدق بي بهدوء. كانت نظرته باردة.
‘لو لم تكوني ابنةَ… لما عاملتُكِ بلطفٍ من الأصل.’
تفاجأت الطفلة بداخلي بشدة.
لكنه لم يبدُ مهتمًا.
‘ما دمتُ لم أعد…، فما الفائدة منك الآن؟’
“لكنك قلت إنك تحبني… إنك تحبني كثيرًا.”
“كل ذلك كان…”
تواصل شرحه، وأنا وقفت صامتة أحدّق فيه.
لم أستطع سدّ أذنيّ، ولا مقاطعته.
ثم قال بصوتٍ هادئ وكأنه يمنّ عليّ بآخر قدر من اللطف:
‘هل تظنين أن هناك في هذا العالم لطفًا بلا مقابل؟’
“…”
‘كل شيء قائم على الأخذ والعطاء. سونت، لم يعد لديّ أي سبب لأكون طيبًا معك.’
—
رائحة أعشاب باردة. عبير مطهّرٍ لاذع.
رمشتت بعينيّ، فتلاشت العتمة تدريجيًا، وبدأت الملامح الباهتة تتضح.
“سونت.”
مرة، مرتين، ثلاث.
الوجه المرهق استعاد شيئًا من الهدوء مع كل رمشة.
شفاه مشدودة إلى الأسفل، ورموش فضية طويلة أغلقت عينيه بلطف.
قال يوت وهو يرتدي نظارته المعلقة على جيب معطفه الطبي:
“سيبقى بعض الألم.”
“آه…”
وضعت يدي على عنقي، فناولني كوب ماءٍ فاتر في الحال.
كانت النافذة محجوبة بالستائر، فلم أستطع معرفة الوقت.
“الوقت مساء.”
“والآنسة-”
“لا تفكري في ذلك. أنتِ مريضة الآن.”
“كيف لا أفكر؟”
‘الغياب المفاجئ، حتى لو كان مبررًا، يمكن أن يكون قاتلًا في تقييم الأداء.’
‘حين يتغيب أحد، يتحمل الآخرون عبئًا مضاعفًا.’
‘حتى لو كانت لديكِ حجة، لن يرحموك.’
“قال مدير الخدم إنه سيتصرف بالأمر. لذا استريحي الآن.”
“إذن…”
أعدت جسدي إلى الفراش بعد أن حاولت النهوض بلا وعي.
ثمّة إبرة مغروزة في يدي جعلت الحركة صعبة.
“أجرينا بعض الفحوص البسيطة. ولحسن الحظ، لا حاجة لفحوص إضافية.”
“فحوص؟”
“هل كنتِ تتوقعين أن أترك رأسكِ بعد أن انشق وتورم هكذا؟”
كان صوته غاضبًا على نحوٍ غريب.
عضّ يوت شفته السفلى بقوة.
“خيطت الجرح في الرأس، تعالي بعد أسبوع لفك الغرز. سأصف لكِ دواءً، تناوليْه بانتظام.”
“حسنًا.”
“يدك أيضًا كانت مصابة، فضمّدناها. يبدو أنها مجرد خدوش…”
“آه، نعم.”
“هل لديك أي سؤال؟”
“لا… شكرًا لك.”
“الآن، هل ستخبرينني بما حدث؟”
وضع ملفّ الفحص الطبي بإهمال على الطاولة.
خلع نظارته ومسح وجهه بكلتا يديه. من بين أصابعه، رأيت عينيه وقد احمرّتا.
“ليس بالأمر الكبير.”
“ليس بالأمر الكبي… حسناً، تكلّمي.”
في ظروف أخرى ربما كنت لأصمت،
لكنني كنت الآن مريضة، والطبيب يطالب بالإجابة.
“لم يحدث شيء خطير. الآنسة كانت مخمورة وبدأت تثير الفوضى.”
“ثم؟”
“همم.”
“ماذا فعلت بالضبط؟”
“فقط… لوّحت بشمعدان قليلاً.”
“ماذا؟ الشمعدان… آسف، تابعي.”
“هذا كل ما في الأمر. أصابتني به مرتين أو ثلاث.”
“… ويدك؟”
“أظنها تأذت وأنا أحاول دعمها. لست متأكدة تمامًا.”
ظل يوت صامتًا لوقت طويل.
فتح فمه ليقول شيئًا، ثم أغلقه مرات عدة.
كانت عيناه الخضراوان ترتجفان كما لو كان يوبّخني بنظراته.
“يوت؟”
“أنتِ…”
تحرك حلقه بوضوح وهو يبتلع ريقه.
“ماذا كنتِ ستفعلين لو لم أكن هناك؟”
“هاه…؟”
“لقد كدتِ تتعرضين لشيء خطير فعلًا. هل يجب أن أشرح لكِ مدى أهمية الرأس؟”
انكمشت عيناه الهادئتان من الغضب،
ومسح خصلات شعره إلى الخلف بعصبية.
“صحيح، الخطأ منّي منذ البداية. كان عليّ أن أتعامل مع الأمر بحذر أكثر.”
“خطؤك؟ ما علاقتك بالخطأ في كل هذا-”
“لنتوقف قليلًا.”
قالها بصرامة وهو يضرب الأرض بقدمه.
“خذي إجازة. لا تعودي للعمل حتى تستعيدي عافيتك.”
“هل من الضروري؟”
“ضروري؟ سونت، كدتِ تموتين!”
“هيه، لا أحد يموت من جرح في الرأس فقط-”
“يموتون. هل تعلمين كم هو سهل أن يموت الإنسان؟”
“ليس *بتلك* السهولة، البشر عادةً…”
“نعم.”
من الطبيعي أن يعرف الطبيب أكثر عن مسألة الحياة والموت.
‘لا أفهم كيف توصّل إلى ذلك الاستنتاج بهذه السرعة.’
تقلّبت عيناه الخضراوان بمشاعر يصعب قراءتها.
غطّى يوت وجهه بكلتا يديه، وزفر تنهيدة طويلة قائلاً:
“سونت، أنتِ حقًا… لا تشعرين بأي خوف من الخطر.”
“…”
“لم أكن أعلم أن روبي جيفرايت إنسانة مفعمة إلى هذا الحد بالخبث. هذا خطئي، أعترف بذلك. لذلك، دعينا نتراجع قليلًا.”
“لكننا اتفقنا أن نأخذ مواقعنا قبل أن تزداد فوضى عائلة المركيز.”
“صحيح، لكن الوضع تغيّر-”
“هل قررت هذا وحدك؟”
“…”
“يوت، لقد كان هذا قرارًا مشتركًا بيننا، وكنت أنا من وافق عليه أيضًا.”
لماذا يُصرّ دائمًا على تحمّل كل المسؤولية وحده؟
‘صحيح أننا وقّعنا عقدًا، لكن هل أبدو له بتلك السذاجة؟’
لو كنت أرفض، لما فعلت ذلك حتى لو كلفني حياتي.
العقد لم يكن سوى ذريعة في النهاية…
أمسكت بيد الرجل الذي أحببته دون خطة مسبقة.
“لماذا تلوم نفسك وحدك؟ قلت لك من قبل، أنت-”
“قلتِ ألا أعتذر… أتذكر.”
“بالضبط! فلماذا هذا الوجه الحزين؟ هل ضربتني؟ هل أمرت الآنسة الحقيرة بضربي؟”
“ليس هذا ما أقصده…”
“حين تعمل عند الناس، يحدث مثل هذا كثيرًا.”
“…”
“حدث لي أكثر من مرة، لذا لا داعي للقلق-”
“لكنني أكره ذلك.”
خفض رأسه بشدة حتى لم أرَ سوى قمة رأسه الكثيفة.
“لماذا تظلين تتأذين، وتتألمين، ثم تقولين إن الأمر لا بأس به؟”
قال يوت بصوت منخفض، وهو يقف على بعد خطوة لا تسمح لي بلمس وجهه.
“أنتِ صديقتي، سونت. أيّ صديق يفرح حين يرى صديقه يعتاد على الأذى؟”
“يوت…”
“كل مرة تقولين إنك بخير، أنا… قلبي…”
لسببٍ غريب،
رغم أنني لم أرتكب خطأ، شعرت وكأنني مذنبة بشيء فادح.
وإلا، فلماذا يجفّ حلقي بهذه الطريقة؟
“سونت.”
رفع نظره من الأرض والتقت عيناه بعينيّ.
وفي اللحظة التي حاولت فيها النهوض لأشرب الماء، مال نحوي فجأة وكأنه يريد معانقتي.
ذراعاه الدافئتان أحاطتا بي بلطف.
‘هل تظنين أن هناك في هذا العالم لطفًا بلا مقابل؟’
ترددت في رأسي كلمات سمعتها منذ كنت صغيرة.
اشتدت قوّته في احتضاني شيئًا فشيئًا، فوضعت يدي على عظم كتفه الحاد وأخذت أنفاسي ببطء.
ارتجف كتفه قليلًا.
كان قلبي يخفق بسرعة مرعبة.
‘ماذا لو لاحظ أحد؟’
لم أستطع دفعه بعيدًا، ومع ذلك، لم أفكر سوى في هذا القلق الغريب.
—
“ارتاحي أربعة أيام.”
“هل تريدني أن أطرد؟ مستحيل.”
“ثلاثة أيام على الأقل.”
“قلت لا.”
“ثلاثة.”
“…”
“ثلاثة.”
لكن الحل أتى من جهة غير متوقعة.
“اجعلوها أربعة أيام.”
قال كبير الخدم بهدوء حين زار الجناح. كانت الهالات السوداء تحت عينيه أعمق من ذي قبل.
“عائلة جيفرايت ليست منعدمة الضمير لدرجة أن تجعل خادمتها الجريحة تعمل.”
مع أن سبب إصابتي أصلاً كان أحد أفراد تلك العائلة.
‘لكن الذنب ليس ذنبه.’
بل إنه يحاول مساعدتي قدر المستطاع ضمن صلاحياته.
“إن رغبتِ في زيارة مسقط رأسك، يمكنكِ ذلك.”
“لا داعي.”
“إن كانت المدة لا تكفي، يمكننا التمديد قليلاً.”
“حقًا، لا داعي.”
وبعد عدة محاولات لإقناعي، غادر وهو يقول إنه فهم.
‘ما به اليوم؟’
كانت علاقتي بكبير الخدم قد انتهت منذ تعييني في منزل التاونهاوس.
‘لم يعد هناك ما يمكن أن ينتفع به مني، وأنا أيضًا لم أعد أرغب في أي ارتباط.’
ومع ذلك، أن يُبدي كل هذا الاهتمام بخادمة جديدة لم تعمل سوى بضعة أيام…
‘هل يحاول التظاهر بعدم المبالاة بينما يسعى لربط علاقة بأمي؟ أم أنه يختبرني؟’
حتى لو قال المدير “ارتاحي”، فكم من الراحة يمكن أن تنالها خادمة حقًا؟
انتهت مدة إجازتي المحددة، وعدت إلى العمل فورًا.
—
‘لا بأس.’
غرفة النوم التي لم أدخلها منذ أربعة أيام.
دخلت بخطوات مرتجفة وأنا أشبك يديّ المتوترة.
“آنستي، حان وقت الاستيقاظ.”
ارتعشت حاجباها الغاضبان مرة، ثم مرتين.
“آنستي، لديكِ موعد هذا الصباح-”
فُتحت جفونها المغلقة فجأة.
تراجعت خطوة من الدهشة، ثم اقتربت مرة أخرى.
“بما أنكِ استيقظتِ، سأساعدكِ في التحضير حالًا—”
“من أنتِ؟”
التعليقات لهذا الفصل "66"