“ذلك لأنني أعبّر عن الاحترام والمودة. ألا يعجبك هذا؟”
“لا بأس إن كان هذا يريحك، لكن… ربما من الأفضل الحذر داخل القصر.”
“لا بأس، لا بأس، لا أحد يهتم بذلك.”
‘كل العاملين غيرك سيفعلون بالتأكيد.’
إذا بدا أحدهم مقرّبًا جدًا من ابن النبلاء، فستكون الهمسات حتمية…
‘لكن، لا بأس، لن يضرّ أن أحظى بحماية السيد الشاب.’
داعب شعري على رقبتي بخفة.
“ربما والدي في المقاطعة الآن، وأخي الأكبر يعمل في القصر الملكي.”
“وأختك؟”
“على الأرجح في مكانٍ ما… تشرب.”
انطفأت عيناه البراقتان مجددًا.
‘أخبار السيدة جيفرايت ظهرت في مجلات النميمة غير مرة…’
ولو بقيت في تلك المجلات فقط لكان خيرًا،
لكنها ظهرت أيضًا في صفحات الأخبار الرسمية مرتين على الأقل،
حتى صار الخدم لا يتحدثون إلا عنها متى اجتمعوا.
‘كلما ذُكرت أخته، صار هكذا.’
لم أرتح لرؤية الحزن على وجهه الهزيل.
“هل يمكنك أن تربتي على رأسي؟ أرجوك؟”
“رأسك؟”
“نعم. لم أضع أي شمعٍ عليه اليوم.”
تدلّت خصلات شعره الذهبي الناعمة بانسيابٍ مستقيم.
لم يسبق لي أن لمست شعر أحد إلا لغرضٍ تجميلي.
“ناعم، أليس كذلك؟”
“بالفعل.”
“حتى أنا شعري ناعم.”
انحنى يوت الذي كان جالسًا في المقابل فجأة،
وامتلأت رؤيتي بقمة رأسه المليئة بالشعر الكثيف بلا فراغٍ واحد.
“المسيه أنتِ أيضاً.”
“هـه؟ ماذا؟ أها؟”
“نعم؟”
‘ما باله الآن؟’
لكن يدي تحركت بسرعةٍ على عكس رأسي المربك.
شعره الفضي الذي تموّجت أطرافه قليلًا، انساب ناعمًا بلا أيّ عقدة.
تذكرتُ لحظةً وجيزة حين تلألأ لونه الحقيقي قبل أن يغطيه الشَّيب المستعار—
بنيٌّ فاتح يغمره وهج الخريف، بلون القمح المضيء…
“ما رأيك؟”
ارتفع جفناه قليلاً من تحت ظلّ رمشه الطويل،
وكانت عيناه الخضراوان تتألقان ببراءةٍ صادقة مليئة بالمودة.
‘ما رأيي؟’
كلما يفعل هذا… ‘حقاً… أشعر برغبة في البكاء.’
—
كان منزل آل جيفرايت في المدينة الكبرى قصرًا وكأنه مرسوم بريشة فنان.
‘حتى قصر إيدويل لم يكن بهذا الفخامة.’
من البوابة إلى المدخل مسافة طويلة.
وما إن دخلنا حتى اصطفّ الخدم على جانبي البهو، ينحنون في وقتٍ واحد.
“أهلاً بعودتك، يا سيدي الشاب.”
“أهلاً بعودتك، يا سيدي الشاب!”
‘عدد الخادمات قليل جدًا.’
ومن بين الصفوف، خرج رجل بدا في منتصف العمر.
تألقت عين لابيس الذهبية للحظةٍ قصيرة.
“كنت في انتظارك، يا سيدي الشاب.”
“سايج.”
“كنت أعلم أنك قادم اليوم، لكنك لم تبلغنا بالوقت أو المكان،
فلم أتمكّن من استقبالك كما يليق. أرجو الصفح.”
“لم أُخبرك لأن ذلك كان مزعجًا لا أكثر.”
ظننت أن العائلة نبذته تمامًا، لكن يبدو أن الأمر لم يبلغ هذا الحد.
وبينما انتهى اللقاء الهادئ، التفتت نظرات الرجل نحونا.
“آه، صحيح.”
فهم لابيس الإشارة فخطا خطوة إلى الجانب.
“هذا هو كبير الخدم المسؤول عن المنزل، وهو قريبٌ بعيدٌ لنا.”
“سايج ويدن. سيدي الشاب، آنستي.”
“وهذه رفيقتي في الجيش، اسمها—”
“سونِت فوسا.”
“وأنا يوت بيلفيت.”
“سيقيمان هنا من الآن فصاعدًا. سنتحدث بتفصيلٍ أكثر في الداخل.”
“أمركم، سيدي. لكن قبل ذلك، لي سؤال واحد فقط…”
“تفضل.”
اهتزّت عيناه الزرقاوان بعنفٍ مفاجئ،
وكان في نظرته توترٌ مبالغ فيه، أكثر من مجرد حذر تجاه غرباء.
“أستميح العذر، لكن… هل هما فعلًا ضيفاك يا سيدي الشاب؟”
“ولِمَ لا؟”
“وهذا الرجل أيضًا؟”
“نعم، حدث الأمر هكذا فحسب.”
“يا إلهي…”
جاءت تنهيدة من مكانٍ آخر.
بسبب السكون الذي عمّ المكان، سُمعت همسات الخدم بوضوح.
“واو…”
“الجيش حقًا مكانٌ مخيف…”
حتى كبير الخدم المتمرّس بدا مشوشًا.
“حقًا؟ هل هما ضيفاك، لا مجرد حمّالةٍ متنكّرة أو فتاةٍ متنكرة بزي رجل؟”
“قلت لك ليس كذلك! بحق السماء، هل أنا بهذا القدر من عدم الموثوقية؟”
“نعم.”
ظلّ كبير الخدم يرمقني أنا ويوت بطرف عينه ونحن نسير نحو غرفة الاستقبال.
وهذا… كان خطأ لابيس بلا شك.
—
بعد أن قدّمنا طلبات العمل بأيامٍ قليلة،
كنا أنا ويوت نُعامل كضيوفٍ مكرّمين، لا كموظفين جدد.
لدرجة أن أحد الخدم كان يرافقنا أينما ذهبنا.
واليوم، كان المرافق هو كبير الخدم نفسه.
‘هذا لم يحدث من قبل أبداً.’
كبير الخدم هذا يتولى معظم القرارات الإدارية في غياب الماركيز ،
وكان بالكاد يخصص خادمًا مبتدئًا لمرافقة أحد، فكيف بنفسه؟
“هل إقامتكِ مريحة، آنسة؟”
“تمامًا. أنا ممتنة دائمًا لحسن ضيافتك.”
معاملة لا تليق بمن جاءت للعمل.
“سمعت أنك قضيتِ عامًا كاملًا مع السيد الشاب في الجيش،
كيف كانت الخدمة؟”
“بسلامٍ ودون مشاكل. كان يتعامل جيدًا مع الجميع… خاصة الفتيات.”
“يبدو أنه كان يثق بك كثيرًا.”
“آه…”
“لأنه عادة لا يفتح قلبه بسهولة… فوجئت بعض الشيء.”
استمرّ كبير الخدم في الحديث بينما كان يراقبني بطرف عينه.
“لم تزوري مسقط رأسك؟ أعلم أن الجنوب بعيد، لكن القطار مباشر.”
“الظروف لم تسمح بذلك.”
“لابد أن والدتك حزينة إذًا.”
“…”
“اطلعت على سيرتك الذاتية ورسائل التوصية بعناية.”
وأخيرًا وصل إلى الموضوع المهم.
“لديكِ خبرات عديدة، ونتائجك الأكاديمية ممتازة.
رسالة التوصية كانت مميزة جدًا.
ليس من السهل أن يكتب الشخص المخدوم بنفسه رسالة توصية لخادمته…”
“…”
“يبدو أنك عشتِ بجدٍ واجتهاد.”
“أشكرك.”
توقفنا أمام باب قاعة الطعام،
ونظر الرجل إليّ بعينين جادتين وقال:
التعليقات لهذا الفصل "62"