أغمضت الجفون البيضاء ببطء، ثم انفتحت من جديد. الانعكاس في العينين الخضراوين بقي كما هو.
نظرة جادة، شفتان بلا ابتسامة، إصبع مستقيم يشير نحو الأمام.
‘مهما فعلتُ…’
تمتمت يوت بالكلمات التي سمعتها للتو، تدحرجها في فمها ببطء.
من المئة إلى العشرة، ومن العشرة إلى الواحد.
كان يمكن اعتبارها مزحة أو وعدًا مبالغًا فيه، ولم يكن أحد ليلومها على ذلك، لكن سونِت فوسا كانت حذرة حتى في هذه اللحظات.
‘إنها لا تقول كلامًا فارغًا أبدًا.’
حين تتعامل مع من هم أعلى منها مقامًا، كانت تخفي الحقائق بذلك الوجه الهادئ لتتجاوز المواقف الحرجة،
لكن في الحالات العادية، لم تكن سونِت تُكثر من الكلام الخالي من المعنى.
برغم أنها كانت شخصًا وقع على عقدٍ مريبٍ وغير واقعي، إلا أنها كانت واقعية للغاية.
لذلك كانت كلمات سونِت صادقة.
ويوْت لم يشكّ بها لحظة، بل صدقها كما هي.
‘لستُ بحاجة إلى غفران هذا العالم.’
بل فكّر لوهلة أن الذي ينبغي أن يعتذر هو العالم نفسه.
وإن كان هناك من يستحق أن تطلب منه المغفرة…
‘لا تعتذر.’
لكنها، تلك الفتاة، كانت تقول ذلك دائمًا.
وكأنها لا تستطيع أن تفهم لِمَ يعتذر أحد على شيء ليس خطأه.
كما لو كانت تلتقط غرزةً خاطئة في قطعة حياكة وتصححها بهدوء.
كانت سونِت فوسا تصرّ في كل مرة على أن ما حدث ليس ذنبه.
لم يكن ذلك مجرد تعزية أو محاولة للهروب من موقف محرج،
بل لأنها كانت تعتقد ذلك بصدق، ولذلك قالتها بصدق،
ويوْت، في مواجهة ذلك العفو الصافي، كان يشعر أحيانًا بأنها…
‘لم أفعل شيئًا خاطئًا.’
ومع ذلك، كان أحيانًا يشعر بالأسف تجاهها.
‘أنا أيضًا لم أكن من النوع الذي يعتذر بهذه السهولة.’
لكن “يوْت الأصلي” أصبح الآن ذكرى بعيدة، غائمة لا يمكن تمييزها.
الروح التي جاءت من عالمٍ آخر توقفت عن محاولة استرجاع ما كان عليه في الماضي.
تسلّل عبير الكحول الفاخر من بين أنفاسه،
بينما كانت كمّات الثوب السميكة تلامس ذراعه برفق وتبتعد.
الفتاة التي جلست بجواره بشكل طبيعي كانت تشرب دون تعبيرٍ يُذكر، تُفرغ الكأس بعد الكأس بخفة.
يوْت تبعها، يُفرغ كأسه بنظافةٍ تامة.
لم يكن الشراب مرًا، ولا حلوًا، ولا قويًّا على نحوٍ خاص.
لم يشعر بالسكر على الإطلاق،
ومع ذلك… كان قلبه يضطرب بطريقةٍ غريبة.
‘أنتَ… أنتَ من جعلني هكذا! لقد خدعتني!’
‘عار العائلة! مقرف! ألا تخجل من والديك؟’
‘كنت أحاول أن أصدقك رغم كل شيء… لكن هذا… لقد تجاوزتَ الحدود.’
‘لا شيء آخر أقوله لك.’
اشتدّ القبض على الكأس بين أصابعه.
ذكرياتٌ مثل العفن الذي لم يُنزع في وقته تسللت فجأة إلى رأس يوت،
كما لو كانت عادةً سيئة التصقت به دون وعي.
لكن،
‘هل تثق بي يا سونِت؟’
“نعم.”
كانت مختلفة عن تلك الأيام التي كان فيها عاجزًا، ممزقًا من الداخل.
الآن، كان يعرف صوتًا لا يتزعزع، لا يسمح لأي سوء فهم بالاقتراب.
صديقته الوحيدة كانت دائمًا تناديه بذلك الصوت الثابت، وتنظر إليه بالحرارة ذاتها.
وأحيانًا، من شدة تلك الثقة البسيطة، كان يوت يشعر بوخزٍ في حلقه كأنه سيعطس.
‘لأننا صديقان…’
تذكّر اللحظة التي أمسك فيها بتلك اليد المليئة بالندوب.
وتذكّر وجهها الجاد وهي تراجع عقدًا قانونيًا وكأنه أمرٌ مصيري.
‘لو لم تكن سونِت هنا، لما كنت كما أنا الآن.’
ذكية، مخلصة، وعاجزة عن القسوة… يا صديقتي.
‘ماذا لو أخبرتها بكل شيء؟’
لماذا يصرّ يوت بيلفيت بهذا الشكل على قطع قصص الحب من حوله؟
‘لو أخبرتها من أين جئت حقًا…’
أي شخصٍ آخر كان سيرى ذلك مزاحًا سخيفًا،
لكن سونِت فوسا ربما كانت ستكتفي بالقول:
‘همم، حسنًا، فهمتُ.’
أو ربما كانت ستنظر إليه كعادتها بعينين تقولان:
‘ها هو يبدأ هراءً جديدًا، فلنسمع.’
ثم في النهاية تهز رأسها قائلة: “إذن هكذا كان الأمر.”
‘سونِت لا تنكرني.’
لم يكن ذلك يقينًا، بل أقرب إلى أمنية.
لكن يوت لم يتراجع عن تفكيره.
ربما، لو قيل له بصدق:
“ألستَ سئمتَ من أن تُستغلَّ في قصص الآخرين؟”
لكان وافق بلا تردد.
‘استغلال…؟ إن فكّرتُ بها هكذا، فأنا أيضًا استغليتُها.’
أبعد يُوت نظره عن الكأس التي كان يعبث بها، ثم رمقني بطرف عينه.
لكن هدفه الحقيقي لم يكن مجرد الحديث عن “السلام في المملكة” أو أي قضية كبرى،
بل أمرٌ شخصي للغاية.
‘يجب أن أقولها لكِ… مهما كان.’
وما إن تلاقت أعيننا، حتى أسرعتُ أنا بتحويل نظري نحو زجاجة الخمر.
الكأس امتلأت حدّ الفيضان، فشربتُها دفعة واحدة.
ضحك يُوت بخفوت، فرفعتُ طرف عيني وطرقتُ على الكأس الفارغة بأصابعي.
طن… طن…
رنّ صوت الزجاج الرقيق،
والنظرات التي كانت تائهةً قبل لحظاتٍ التقت ببطءٍ شديد.
—
شربت ما تبقى من الخمر حتى آخر قطرة، لكنني لم أسكر أبداً.
اضطررت لمواجهة يُوت بعقلٍ صافٍ تمامًا.
‘ذلك الوجه الغريب مجددًا.’
لم أرَ من قبل جوهرةً تتلألأ بجمال عينيه.
عينا يُوت كانتا تملآنني كما لو كانتا تريان فيّ كل شيءٍ في هذا العالم، بعظمة لا تقل عن عيون الملوك.
“…شكرًا.”
“تقول هذا مجددًا؟”
“نعم، شكرًا لك.”
لم يبدُ أنه ينوي أن يشرح على ماذا يشكرني.
لكني اكتفيت بالصمت، أستقبل نظرته الممتلئة بالثقة.
طرق خفيف على الزجاج، ثم مال يُوت نحوي فجأة.
“أفكر دائمًا أن وجودك إلى جانبي… حقًا نعمة.”
“…”
التعليقات لهذا الفصل "59"