45
“لابد أنه حبيب أمي السابق.”
“حبيب… ماذا؟”
“ألستَ كذلك؟”
لا يمكن أن يكون غير ذلك.
هيئته الوسيمة التي توحي بأنه كان محط إعجاب في شبابه، وشعره الأحمر الكثيف، وحتى مناداته لي باسمٍ غريب مثل ‘ليلي’ خطأً…
‘وجهه تماماً على ذوق أمي.’
في الحقيقة، لم يكن لأمي ذوق محدد؛ فطالما كان الشخص جميلاً، كانت على الأقل تتوقف لتتأمله.
“حبيب سابق… لا، إن دققتِ، ربما يمكن قول ذلك، لكن كيف…”
تمتم الرجل لنفسه، ثم سأل بوجه تملؤه بقايا الأمل:
“هل ذكرتني ليلي لكِ من قبل…؟!”
“أتظن أن أشخاصاً مثلك نادرون؟”
أمي تحب العلاقات العاطفية.
منذ أولى ذكرياتي وحتى الآن، لم يحدث أن مرت فترة لم تكن فيها على علاقة عاطفية.
كانت تنفصل سريعاً فقط، هذا كل ما في الأمر.
تقع في الحب بسهولة وتملّ بسهولة.
أقصر علاقة دامت ثلاثة أيام، وأطولها ثلاثمئة يوم.
وبالمتوسط، كانت علاقاتها تدور في دورة مدتها مئة يوم تقريباً.
أما الرجال في منتصف العمر الذين يسقطون في سحرها، فكانوا يدقون باب منزلنا بين حين وآخر كما لو كان الأمر فعالية موسمية.
‘ربما عليّ أن أجد طريقة أخرى الآن.’
خلال أربعٍ وعشرين سنة من الملاحظة، لم يأتِ خير من التعامل مع حبيبٍ سابق لأمي.
بعضهم لاحقني ليعطيني رسائل أو هدايا كي أوصلها إليها،
وبعضهم حاول استمالتي أثناء ذهابي وإيابي إلى المدرسة لكسب ودها،
وآخرون أزعجوني بمقارنة أنفسهم مع عشاقها الجدد وسؤالهم من الأفضل.
‘ولِمَ عليّ أن أرى حبيب أمي السابق هنا في العاصمة بالذات!’
يا له من ماضٍ مزعج لا ينتهي.
“حقاً… أنتِ ابنة ماريلين؟”
اهتزّت عيناه الزرقاوان الصافيتان بخفة. بدا عليه التأثر والصدمة في آنٍ واحد.
“هل التقطتَ الأمر صدفة؟”
“كنتُ أظن ذلك… كم عمرك الآن؟”
“سأبلغ الخامسة والعشرين هذا الربيع.”
اتسعت عيناه أكثر واهتزت بشدة.
“في ذلك الوقت، هل يعقل…؟ لا، لكن إن كانت ليلي، فربما…”
بدأ يعدّ بأصابعه السمراء، وكلما تقدّم في العدّ، ازداد وجهه زرقة.
“لماذا أنا… لا، ربما لا يكون الأمر كما أظن…”
“هل صُدمت لأن حبيبتك الأولى لديها ابنة؟”
“حبيبة أولى…؟”
“ألستَ كذلك؟ كل أولئك الذين تمسّكوا بها كانوا يقولون إنها حبهم الأول.”
“إذن… ماذا عن أبيكِ؟”
تجعد جبينه الأملس في توتر.
‘هل يحاول معرفة ما إذا كان له منافس؟’
تفكير منطقي.
فمن يحلم بلقاء رومانسي مع حبيبته الأولى لن يسعد إن كانت متزوجة الآن.
هممتُ بالإجابة بعفوية، لكنني توقفت.
‘انتظر لحظة…’
إذا كان موضوع زوج أمي بهذه الأهمية له، فلم لا أستفيد منه قليلاً؟
“أخبرك إذا وجدتَ لي شيئاً… ‘ما يُوقظ الشتاء في قلب الصيف’.”
“ألم تقولي إنكِ ستتدبرين أمرك بنفسك؟”
“وهذا ما أفعله الآن، أليس كذلك؟”
ارتفع حاجبه الأيسر بانزعاج.
ماليتُ برأسي وقلت بنبرة ماكرة:
“وإلا، يمكنك تجاهل قضية زوج الحبيبة السابقة والعودة إلى حياتك الأصلية.”
“…”
“من خبرتي، الفضول لا يدوم طويلاً. ثلاث أو أربع سنوات بالكثير؟”
كنت جادة في ذلك.
فأطول من استمر في إرسال الرسائل المبللة بالدموع بعد انفصاله عن أمي لم يتجاوز ثلاث سنوات ونصف.
“ليس أمراً مصيرياً، أليس كذلك؟ من زوج أمي؟ أو من أبي أنا؟”
“…”
“ربما سيبقى فضولاً بسيطاً، تفكر به قبل النوم أو تتذكره صباحاً وتقول: ‘آه، من تكون ابنتها فعلاً؟'”
“…”
“لهذا يمكنك أن تنساه ببساطة. إنه ليس مهماً حقاً.”
“بل هو مهم!”
انفجرت كلماته بصوت متصدّع.
بدأ يعضّ شفته السفلى الحمراء بعصبية وقال:
“أعني… قد يكون هذا أهم شيء في حياتي.”
“إذن، ستجد لي ما أردته؟ ذلك الشيء الذي قلتَ إنه نفد؟”
“سأجده! مهما كلفني الأمر، سأحضر لك ما طلبتِ!”
“حسناً، أبي هو…”
غصّ بصعوبة، وارتفع حنجرته ببطء شديد، فيما عيناه الزرقاوان لم تتحركا قيد أنملة.
ابتسمتُ بخبث.
“سأخبرك عندما أحصل على الشيء!”
“لكنّكِ وعدتِ أن تخبريني!”
“لم أقل إنني سأفعل الآن.”
“هاه… ما هذا، أيّ طفلةٍ أنتِ…”
“لو أخبرتك الآن ثم أنكرتُ لاحقاً، من سيتحمل المسؤولية؟”
“ها… هاها…”
غطّى الرجل وجهه بيده وتمتم بصوت خافت:
“كيف عرفَتْ ذلك…؟”
—
بعد أيام قليلة.
“سيدتي، أتمنى لكِ وقتاً ممتعاً مع السيد.”
“يا لك من فتاة، مجرد وجبة طعام ومع ذلك تثيرين كل هذا الضجيج في كل مرة.”
“الشيء الجيد يستحق الحماس يا سيدتي.”
لم يمضِ عام واحد منذ تبدلت الخادمات والمطبخ بأكمله لأن السيدة رفضت الطعام، على أية حال.
ابتسمتُ برقة وأنا أرافق السيدة إلى غرفة الطعام.
“سأنصرف الآن.”
“حسناً، سونِت. أراكِ لاحقاً.”
بقيت لي ساعة ونصف من الحرية.
عادةً كنت لأتناول عشاءً متأخراً في قاعة الخدم، لكن اليوم كان مختلفاً.
نظرتُ حولي بحذر وأسرعتُ في خطاي.
كان الممر المؤدي إلى الباب الخلفي المخصص للخدم شبه خالٍ من الناس.
عندما فتحت الباب الخشبي العتيق، رفع الرجل الذي كان متكئاً على الجدار رأسه.
“تماماً في الموعد.”
“هل كنت تنظر إلى الساعة طوال الوقت؟”
“بالنسبة لتاجر مثلي، الوقت من ذهب.”
خفض يده التي كان يرتدي فيها ساعةً أنيقة، ثم مدّ نحوي صندوقاً خشبياً مصقولاً بعناية.
“هذا هو…”
“نعم، الشيء الذي طلبتِه. تأكدي بنفسك.”
عندما فتحت الصندوق، ظهرت أمامي الأشياء التي كنت أنتظرها بترتيب أنيق.
“إنها حقاً هي.”
مددت يدي لآخذ الصندوق، لكنه سحب جسده إلى الخلف بخفة.
كانت عيناه الضاحكتان تلمعان بمكر.
“يجب أن تفي بوعدك أولاً، يا أميرة.”
“أي أميرة…”
لكن الوعد وعد.
بما أنه جلب البضاعة، كان عليّ أن أجيب عن أسئلته.
تأكدت من خلوّ المكان من الناس ثم أومأت.
“اسأل.”
سمحت له بثلاثة أسئلة فقط.
انخفضت زرقة عينيه الفاتحتين إلى عمقٍ داكن.
“من هو والدك؟”
“لا أعرف.”
“أهكذا تكون البداية غير متعاونة؟”
“حقاً لا أعرف. لم أسمع به قط.”
“همم؟”
“أمي لم تتحدث عنه أبداً. لا أعرفه فعلاً. لم يكن هناك أب أصلاً.”
لو كنت أعرف من هو، لكنت بحثت عنه منذ أيام دراستي.
‘لأقابله… مهما كان الثمن.’
تذكرت المبلغ الذي كدت أفقد الأمل في استعادته، وضغطت شفتيّ.
ربما شعر الرجل بصدق كلامي، إذ خفّ التوتر في ملامحه قليلاً.
“وكيف حال ماريلين؟”
“بخير. تدير متجراً صغيراً للأدوات المنزلية، لا يزدهر كثيراً لكنه لم يُفلس بعد.”
كانت قد تولت رئاسة اتحاد التجار المحليين، ثم حولته إلى ساحة لمعركة عاطفية.
‘ما كان ينبغي أن تتولى المنصب أصلاً بعد أن واعدت كل من في السوق ثم افترقت عنهم واحداً تلو الآخر.’
بدا الرجل مندهشاً حقاً.
لكن لم أهتم، فقد كان ذلك سؤاله الثاني فقط.
بقي له الأخير.
‘بماذا سيسأل الآن؟’
عن مكان سكنها؟ إن كانت على علاقة جديدة؟ ما تحب؟ إن كنت أستطيع أن أصل بينهما؟
أسئلة معتادة من عشاق أمي السابقين.
لكن سؤاله الأخير كان خارج كل الإحصاءات التي جمعتها في أربعةٍ وعشرين عاماً.
“لماذا تعملين هنا؟”
“ماذا تقصد؟”
“المنطقة التي تعملين بها، إدْدِيوِل، مشهورة… ليست سمعتها طيبة بالضبط.”
لم أفهم مقصده.
لكنه تابع بجدية، بنبرةٍ فيها أسف حقيقي:
“ليست وظيفة واعدة أبداً. لا تستحق أن تستهلكي شبابك من أجلها. وأنتِ بلا عائلة تساعدك، تعانين وحدك في أرضٍ غريبة… لماذا هذا العناء؟”
“…”
“ألا تودين رؤية والدك؟”
“سأنصرف الآن.”
“انتظري-“
لكن لم يكن هناك ما يستحق الاستماع إليه أكثر.
احتضنتُ الصندوق الخشبي اللامع وانطلقتُ نحو غرفة الفحص.
‘لماذا أعمل هنا، قال…’
هنا… لماذا حقاً…
“ألديك شيء أقوى من هذا؟”
“هل ترغب بإتلاف كبدك من أجل إنقاذ معدتك؟”
فتحْتُ الباب، فاستقبلتني نبرة مألوفة ناعمة:
“بطني تؤلمني منذ أستيقظ حتى أنام، ماذا أفعل؟”
“هذا كثير عليك أيضاً.”
في غرفة الفحص، كان يوت والمساعد يجلسان متقابلين يتجادلان.
“جئتِ في الوقت المناسب.”
“سونِت!”
“هذا لك.”
“ما هذا؟”
تقلّصت عيناه البنيتان وهو ينظر إلى الصندوق.
فتحتُ الغطاء وشرحتُ بإيجاز:
“ربما لا نستطيع أن نجعل الثلج يهطل فعلاً، لكن… يمكننا أن نصنع شيئاً مشابهاً له. ليس ثلجاً حقيقياً، لذا إن لم يعجبك-“
“هذا مثالي!”
تصافقت الأيدي بصوتٍ مبهج.
“لماذا لم يخطر لي هذا؟ الرومانسية في النهاية هي مسألة خيال!”
ارتسمت على وجنتي يوت ابتسامة مشرقة.
“كل ما نحتاجه الآن هو المكان المناسب.”
“سأتولى ذلك.”
رفع المساعد يده متطوعاً، وقد احمرّت عيناه تأثراً.
“أخيراً تخلصنا من ذلك المشروع السخيف المستحيل…”
تكوّرت دمعة على الجانب الداخلي من عدساته الشفافة وسقطت.
ثم غادر لينشغل بالبحث عن المكان، ناسياً حتى الوصفة الطبية التي كتبها.
كنتُ أهمّ بالمغادرة حين أوقفني صوت ناعم خلفي:
“هل حدث شيء؟”
التعليقات لهذا الفصل " 45"