42
راح “يوت” يسرد خططه بحماسٍ طفولي، بصوتٍ يفيض حيوية.
أما أنا، فلم يكن لي سوى تعليقٍ واحد:
“كنتُ أنوي أخيراً أن أقضي العطلة مستلقية في القصر دون أن أتحرك كثيراً.”
“آه…….”
تدلت حاجباه المنسقان بأسى واضح.
‘ملاكٌ محبط… علناً… ملاك حزين أمامي…’
رفعتُ يديّ وصَفَعتُ خديّ بقوة.
طعـاخ!
“سونِت! ماذا تفعلين—”
“حسناً، فلنذهب! البقاء في السرير طوال اليوم يجلب الأمراض!”
—
كانت أجواء العام الجديد مفعمة بالحيوية من حولنا.
كان “يوت” يبتسم بوجهٍ مشرق ويُلقي نظراته في كل اتجاه بحماسٍ صبياني.
كلما تحرك رأسه، تلوّن شعره الفضي بين الأبيض والرمادي تبعاً للضوء.
“هذه أول مرة أشعر فيها بسعادةٍ كهذه في يوم رأس السنة.”
“…….”
“كنت دوماً وحيداً. حتى عندما أكون بين الناس، كنتُ أشعر وكأنني غريب عنهم. لكن هذا العام مختلف، بفضلك.”
“…….”
“وجودكِ يجعل كل شيء ألطف. ……همم، لكنني أتحدث كثيراً وحدي. ألا تريدين قول شيءٍ أنتِ أيضاً، سونِت؟”
“هل يمكننا فقط… أن نمشي أبطأ قليلاً؟”
شدَدتُ عضلات فخذي وسحبتُ ساقي الأخرى بصعوبة.
كانت الرياح الباردة تصفر بين الأعمدة، تلفح وجهي.
‘لماذا بحق السماء أنا هنا في أول يوم من العام؟’
توقف “يوت” عن السير والتفت إليّ، بينما كنت ألهث وأحاول ترتيب شعري المتناثر.
“هف… هف… هف…”
مرّ بجانبنا بين الحين والآخر بعض الأشخاص الذين يواصلون الصعود بخفة.
‘هل فقدوا عقولهم جميعاً؟’
لماذا يصعد الناس برج الساعة في يومٍ كهذا، يومٍ يفترض أن يكون للراحة والسلام؟!
‘إنه أطول مبنى في العاصمة يا إلهي!’
كل هذا بسبب عينيّ “يوت بيلفيت” الجميلتين!
‘يقولون إن الناس في العاصمة يصعدون منصة برج الساعة كل عام جديد.’
لو لم يرمقني بتلك النظرة الزمردية الخاطفة التي تضعف قلبي، لما وجدت نفسي هنا!
‘لكن ما الذي يمكن رؤيته هناك أصلاً؟ مجرد منصةٍ مفتوحة بلا سقف.’
‘لكنه قال إن الجميع يذهبون، فقلت لنجرّب…’
بطلبٍ مني خفّف “يوت” سرعته. لم أعد ألهث كما في البداية، لكن قلبي ظل يخفق بعنف.
“هل هذه أول مرة تصعدين فيها برج الساعة؟”
“نعم. لطالما تساءلتُ عنه، لكنني لم أزره. وأنت؟”
“أنا أيضاً أول مرة.”
“إذن نحن نخوض التجربة الأولى معاً؟”
ضاقت عيناه بلطفٍ حتى كاد بريقهما يختفي، مبتسماً بابتسامة هادئة.
لم يكن السبب أنني لم أزره سابقاً، بل لأنني كنت مشغولة أو متكاسلة.
لكن فجأة بدا الأمر وكأنه كان ترتيباً مناسباً لهذا اليوم بالذات.
“هناك شيء، *هففف*، أودّ أن أسأله.”
“نعم؟”
“لماذا… نمشي؟ أعني، هناك مصعدٌ زجاجي، أليس كذلك؟”
وبينما أنطق ذلك، ارتفع المصعد وسط البرج ببطءٍ أمامنا.
ضحك “يوت” ضحكة قصيرة وقال:
“أوه، تسألين هذا بعد ساعة من الصعود؟”
“كنتُ أتحمل فحسب.”
“والآن؟”
“برأيك؟”
على الرغم من أننا صعدنا المسافة نفسها، إلا أن تنفس “يوت بيلفيت” كان ثابتاً تماماً.
‘ليس ذا بنية ضخمة… فكيف يصعد بهذه السهولة؟’
“ألستَ متعباً؟”
هزّ كتفيه وكأنه لا يفهم السؤال.
“السلالم مرتبة جيداً، وارتفاعها ثابت، والخطوات واسعة.”
“لا أفهمك إطلاقاً.”
“مقارنةً بأكاديمية تخرّجتُ منها، هذا نزهة!”
“قلتَ إنك من الشمال، أليس كذلك؟”
“نعم، من أقصى الشمال تماماً.”
نظر نحو الخارج من خلال فجوةٍ في الجدار الحجري.
كنا في منتصف البرج تقريباً، وكل المباني الأخرى بدت صغيرة كعلبٍ من اللعب.
“هناك، في موطني، الطريق من السكن إلى المبنى الرئيسي صاعدٌ كالجدار تقريباً.”
“ذلك ليس تلاً، بل جبلٌ فعلاً.”
“هل أنتِ متعبة جداً؟”
رفع نفسه درجةً للأعلى، ونظر إليّ ملياً.
“ظننتُ أنكِ تملكين لياقة جيدة.”
“أنا؟”
“هكذا قال الجميع. حتى الطهاة في المطبخ يقولون إنكِ تعملين بثلاثة أضعاف جهد الآخرين دون تعب.”
“لياقتي جيدة فعلاً، لكن هذا الأمر مختلف… بسبب البيئة فحسب.”
“البيئة؟”
“لو كنا في الماء، لما شعرتُ بهذا العناء.”
“قلتِ إنكِ من الجنوب، بالقرب من البحر؟”
“نوعاً ما.”
“هل أحمِلك على ظهري؟”
“ماذا؟ لا، طبعاً لا، أعني، هـ… ها؟”
“إن كنتِ متعبة، يمكنني حملك.”
توقف فجأة وانحنى، مهيئاً ظهره أمامي.
‘كيف يمكنني أن أكون بهذا القدر من الوقاحة وأعتلي ظهره؟’
لكن، تمهلي…
‘هل هو فعلاً نحيف كما ظننت؟’
قستُ المسافة بين كتفيه بعينيّ. كانت أعرض مما توقعت.
ومع ذلك…
“لا داعي! لستُ متعبة إطلاقاً! هذا سهل جداً بالنسبة لي!”
‘لا يمكنني تلويث الملاك، حتى لو كانت فرصة العمر!’
‘لديَّ كرامةٌ كامرأة!’
عضضتُ على أسناني وواصلتُ الصعود حتى وصلتُ أخيراً إلى قمة برج الساعة دون أن أنهار.
ما إن وصلتُ حتى أخذ فكي يرتجف من الإرهاق.
“الناس كُثر هنا…….”
تطلع “يوت” حوله بوجهٍ متعبٍ بعض الشيء.
“إنه يوم رأس السنة. أتعرف تلك الخرافة، أليس كذلك؟”
“آه، نعم، إنها مشهورة.”
“هل لديك أمنيةٌ تريد أن تدعو بها؟”
“لا.”
كنتُ أظن أنه سيطلب شيئاً على الأقل، بما أنه أصرّ على المجيء إلى هنا، لكن نظرته لم تحمل سوى بهجةٍ بسيطةٍ وهو يتأمل المشهد.
“وأنتِ يا سونِت؟”
“أنا أيضاً لا شيء.”
كان المكان يعجُّ بالناس: عائلات، عشّاق، أصدقاء، الجميع يحتفل مع أحدٍ ما.
‘لهذا السبب أراد أن يأتي مع صديقٍ إذن.’
حرصتُ على ألا أبتعد كثيراً عن “يوت” وسط هذا الحشد الهائل.
“أما في الشمال، ألا تفعلون شيئاً كهذا كل عام؟ التمنّي أو الاحتفال؟”
“كنا نفعل، وبشكلٍ كبير. كانت تُقام مأدبة في القصر، وبدلاً من برج الساعة، كنا نتمنى الأمنيات أمام شجرةٍ ضخمة.”
“ولم تتمنَّ أنت شيئاً معهم؟”
“أنا… لم أشارك كثيراً.”
كانت نبرته هادئة، لكنها حملت معنى واضحاً.
فآثرتُ ألا أُكمل في الموضوع وغيّرتُ الحديث.
“أما في المكان الذي عشتُ فيه، فالأمر بسيط. كنا فقط نشاهد شروق الشمس ونتمنى أمنية صغيرة.”
“وماذا كنتِ تتمنين؟”
“قبل التخرج، كنتُ أتمنى أن ألتقي بأبي.”
“…….”
“لأطالبه بنفقةٍ متأخرة.”
“هاه؟”
“كنتُ أريد أن أستردّ كل قرشٍ يفترض أنه كان لي، حتى آخر عملة.”
لم أعرف من يكون ذلك الرجل أصلاً، لكن إن التقيتُ به يوماً، كنتُ سأستعيد كل ما يمكنني بالقانون.
“لكنني تخلّيتُ عن ذلك الآن.”
“لماذا؟”
“أمي لا تذكر شيئاً عنه، أبداً. أظن أنه ما زال حيّاً، لكن…….”
كان التفكير في شخصٍ كهذا مضيعةً للجهد في أيامٍ بالكاد أتمكن فيها من تدبير معيشتي.
سرنا ببطءٍ وسط الحشد، إلى أن لَمَحْتُ ألواناً زاهيةً بين الخُضر.
“كمٌّ هائل من الشرائط المربوطة!”
“أهذه أول مرة ترينها؟ يُكتب في داخلها الاسم والأمنية ثم تُربط هنا.”
كانت الشرائط الملوّنة تتمايل على السياج، حتى بدا كأنه لوحةٌ ضخمة منسوجة بالخيوط.
“لكنني لم أُحضِر واحدة.”
تقلص جبينه الأبيض بخيبةٍ خفيفة.
في تلك اللحظة دوّى صوتٌ صاخب في المكان:
“شرائط مصنوعة من أفخر أقمشة إيودرانكا! ويمكنكم الكتابة عليها بحبرٍ ذهبيٍّ رائع!”
“سونِت، لحظة واحدة.”
“ماذا؟ لا تقل لي أنك— تلك مجرد حيلةٍ تجارية……!”
لكن الوقت فات.
انطلق “يوت” قبل أن أوقفه نحو البائع المتجول الذي نصب طاولته هناك.
تنافس الباعة في رفع أصواتهم لجذب المشترين:
“هل ترغب في نقش أمنيتك على سماء الليل؟”
“هل تريد أن تستدعي دفءَ الصيف في قلب الشتاء؟”
أخذ “يوت” يفحص الشرائط واحدةً تلو الأخرى، ثم أخرج محفظته دون تردد.
‘أحقاً اشتراها……؟’
شرائطٌ عادية مغالى في سعرها فقط لأنها تُباع في موقعٍ سياحي.
‘حسناً، فلنعتبره سائحاً ليومٍ واحد لا أكثر…’
“مهلاً، لستُ بحاجة لواحدة! لا تشتَرِ لي شيئاً!”
ابتسم لي ابتسامةً جميلةً جعلتني أختنق بالكلمات.
‘لماذا تبتسم هكذا أيها اللعين؟!’
ركضتُ نحوه قبل أن يُخرج المال ثانيةً.
“حقاً، لا داعي لشراء واحدةٍ لي، أرجوك!”
“لكن الأمر محبطٌ بدونك.”
“لا! لستُ محبطةً أبداً! بتلك النقود يمكنك—”
“ليلي؟”
الذي نطق بالاسم الغريب كان البائع.
رجلٌ يبيع بخمس عملاتٍ ما يمكن شراؤه بعملةٍ واحدة في الخارج.
“……أتقصدني أنا؟”
ارتجّت عيناه الزرقاوان تناقضاً مع شعره الأحمر الكثيف.
‘هل هو في عمر أمي تقريباً؟’
حدّقتُ في ذلك الرجل المجهول، ثم أمسكتُ بمعصم “يوت” بسرعة.
“ليلي! لم أتوقع أن أراكِ مجدداً. لم تتغيري أبداً!”
“لستُ هي.”
ثم استدرتُ وهربتُ من المكان.
منذ القدم قيل إن من الحكمة ألا تتورطي مع أشخاصٍ مشبوهين.
“انتظري، سونِت، سونِت؟”
“آسفة، سأشرح لاحقاً—”
“ليلي! انتظري قليلاً، ليلي!”
“آه! لماذا تُلاحقني!”
هل ترك متجره ليلحق بي؟!
ركضتُ نحو المصعد، لكن الصف الطويل أمامه أحبطني تماماً.
لم يكن هناك حلٌّ سوى واحد.
حين هممتُ بالتوجه نحو الدرج، سمعتُ “يوت” يطلق صرخةً غريبة:
“آآاه!”
“ماذا؟ ماذا هناك؟!”
“حشرة! ب، با… لا، إنها فراشة! ولها خمس أرجل! يا إلهي، ما هذا الشيء؟!”
“إنه مبنى قديم، طبيعي أن توجد حشرات! هيا بنا بسرعة!”
“ل، لا أستطيع… حتى لو اضطررتُ للعيش هنا، لن أتحرك خطوة!”
ظننتها مزحة، لكنه كان جادّاً لدرجةٍ مدهشة.
وفي تلك الأثناء كان ذلك المحتال يقترب منا بثلاث خطواتٍ كل مرة.
لم يكن أمامي وقتٌ لأفكر.
انحنيت فجأة.
“تسلّق ظهري!”
“لا، سونِت، هذا غير—”
“قلتُ تسلّق!”
“حاضر…….”
ربما لم يكن “يوت بيلفيت” بطلاً لروايةٍ رومانسيةٍ لأن شعره بنيّ… بل لأنه يخاف من الحشرات.
مرّت الفكرة في خاطري للحظةٍ وأنا أركض هابطةً الدرج بكل قوتي.
التعليقات لهذا الفصل " 42"