41
كانت عيناه الخضراوان نصفَ مغمضتين تحملان نظرةً ذات مغزى غامض.
جلس الرجل الذي أنهى ترتيب الأطباق إلى جانبي بطريقة طبيعية.
ابتلع ريقه ببطء، فارتفعت تفاحة آدم في عنقه وهبطت، وكان تحت عينيه احمرارٌ خفيف.
الغريب في الأمر أنه بدا متوتراً بعض الشيء.
‘ليس بقدر توتّري أنا، طبعاً!’
مسحتُ يدي المبللتين على فخذيّ، بينما التصق قميصي المبتلّ بظهري منذ وقت طويل.
‘هل أدرك الأمر؟’
لابد أنه أدرك! لم يستطع أن يرفع عينيه عني طوال الوقت!
كنت قد وعدت نفسي بإخفاء مشاعري نحوه، لكنني لم أتمكن من ذلك حقاً.
كيف لي أن أفعل؟! ذلك الوجه أمامي مباشرة، كيف يمكن مقاومته؟
‘أتُراه سيعتبر هذا إخلالاً بالعقد؟’
حرّكتُ عيني فقط نحو “يوت بيلفيت” أراقبه.
لم أكن واثقة بنفسي تماماً، لكنني كنت قد أصبحت جزءاً مهماً من مشروعه.
‘حسناً، فلأكن واثقة بنفسي.’
لم أرتكب خطأ، ثم إنني كنت أنوي إخباره عاجلاً أم آجلاً.
‘ما دمتُ لا أطمح إلى علاقة، فليس في الأمر ضرر، أليس كذلك؟’
رفعت رأسي واعتدلت في جلستي، فالتقت نظراتنا، وانفرجت شفتاه قائلاً:
“إذن، هل تعتبرينني صديقاً؟”
“… عفواً؟ صديقاً؟”
جفّ حلقي من المفاجأة.
استدار “يوت” نحوي تماماً وسأل بنبرة مرتفعة قليلاً:
“أعني، نحن صديقان، أليس كذلك؟ أنتِ ترينني صديقاً؟”
“أه، نـ، نعم؟”
“في البداية لم أكن متأكداً، بل ظننتُ أنكِ لا تحبينني في الحقيقة.”
“هاه؟ ولماذا تظن ذلك؟”
كانت هذه الجملة أغرب حتى من حديثه عن الصداقة.
‘من ذا الذي يمكنه أن يكره ملاكاً؟’
أيّ شيطانٍ أحمقٍ قد يتخذ مثل هذا القرار؟
قطبت جبيني ونطقتُ بوضوح:
“أنا لا أكرهك يا يوت.”
إلا إذا سرق كل مالي وهرب،
فحتى الملائكة لا يجعلونني أتنازل عن كل ما أملك.
لذا، من المستحيل أن أكرهه.
“لم أكرهك في الماضي، ولن أكرهك في المستقبل أيضاً.”
“لم أظن أبداً أنكِ تكرهينني أو تحتقرينني بجدية.”
قال ذلك بشفاهٍ حمراء رسمت قوساً رقيقاً.
وفي عينيه الخضراوين رأيتُ نفسي تنعكس بوضوح.
“لكنني كنت أظن أيضاً أنكِ لا تحبينني كثيراً.”
“……”
“أعني، لا يوجد سبب لتُعجبي بي. لم يكن هناك دافع خاص لذلك.”
‘هل يحتاج أحد إلى سبب ليحب ملاكاً؟’
لم أستطع مجاراة وتيرة تفكيره، فكل ما استطعت فعله هو رمش عينيّ في حيرة، محاوِلةً ألا أبدو مرتبكة.
“طبعاً، قلتِ إنكِ تثقين بي، لكن الثقة شيء، والمودة شيء آخر.”
“هذا صحيح…”
لكن في الحقيقة، كانت ثقتي به نابعة من مودةٍ دفينة.
فـ”يوت بيلفيت” كما عرفته لم يكن من النوع الذي يضرب أحداً أو يخدع أحداً.
‘رغم أن بديهته جيدة نوعاً ما.’
لكن، لو دقّقنا قليلاً، لوجدنا أن تمثيله كان دوماً متكلفاً بعض الشيء.
لم ينتبه الناس لذلك لأنهم انشغلوا بالظروف آنذاك، لكن من يركّز عليه يمكنه ملاحظة ذلك بسهولة.
“في البداية، كانت علاقتنا مجرد علاقة مالية، هكذا بدأت الأمور.”
‘لكنني لم أكن أراه مجرد محفظةٍ تمشي على قدمين…’
هززت رأسي في استسلامٍ خفيف.
“أمسكتِ بيدي لأنكِ رأيتِ فيها المال… المال المستقبلي، أقصد.”
“……”
“امتلاك منزلٍ خاص حلمٌ عالمي، لذا ظننتُ أنكِ تساعدينني فقط من أجل ذلك الحلم.”
“تساعدك؟ لقد وقّعنا عقداً رسمياً يا يوت.”
“صحيح، عقدٌ مكتوب، بل ودمويّ أيضاً، لا يمكن فسخه بسهولة.”
نظرتُ إلى يديّ المليئتين بالشقوق الصغيرة.
ذلك العقد الذي وُقّع بقطرات من الدم كان يختلف في ثقله عن أي عقدٍ آخر.
“لكن لو كان الأمر مجرد عقد، لما بقيتِ هنا من أجلي، أليس كذلك؟”
“هذا لأن…”
“الأبطال ذهبوا إلى القصر، وليس لدينا ما نفعله اليوم. إنه يوم عطلة نادر حقاً.”
“صحيح.”
“أن تمضي يوم عطلتك في مكان العمل بسبب شخصٍ ما… أليس ذلك أمراً مذهلاً؟”
لم يُكمل كلامه، بل ابتسم ابتسامة مشرقة.
كانت مختلفة عن تلك التي يظهرها عندما يفحص مريضاً أو يتعامل مع الزبائن في المتجر.
بدت كأن خيوط شمس صغيرة انسابت إلى أطراف عينيه.
“أنتِ دائماً تؤمنين بي دون مقابل، وتساعدينني بلا تردد.”
“ومن قال إنه بلا مقابل؟ لقد حصلتُ على كل ما أريد.”
“الشيء الذي منحتِني إياه يا سونِت، كان ثميناً جداً. أما ما أعطيتُكِ إياه أنا فليس بشيء يُذكر.”
كم كان المال الذي تلقيتُه منه تحت مسمى المكافأة؟
‘ما الذي يقوله هذا الآن؟’
في عالمٍ تُشترى فيه الألقاب بالمال، كيف يمكنه أن يقلل من شأن المبلغ الذي دفعه!
أما أنا، فلا أذكر أنني قدمتُ ليوت بيلفيت شيئاً يُعد ثميناً على الإطلاق.
لم أدرِ إن كان عليّ أن أصحح له هذا الوهم أم ألتزم الصمت.
“لم تلومي قطّ على تقصيري أو أخطائي.”
“ذلك لأن–”
“حتى بقاؤكِ اليوم… كان بدافع أنكِ خشيتِ أن أشعر بالوحدة، صحيح؟”
لم يكن دافعي نبيلاً إلى هذا الحدّ…!
راقبتُه دون أن أؤكد أو أنفي كلامه، فكانت أطراف عينيه المبتسمة تبدو اليوم أكثر إشراقاً من المعتاد.
“تغفرين الزلات، وتقضين يوم العطلة معي، وتقضين أكثر أوقاتكِ معي.”
“……”
“عادةً ما يُسمّى مثل هذا النوع من العلاقة… صداقة، أليس كذلك؟”
عيناه كانتا تلمعان كحبات الزمرد، وكان قربه مني يجعل التفكير السليم شبه مستحيل.
“صحيح؟ نحن صديقان، أليس كذلك؟”
‘هل نحن حقاً… صديقان؟’
حين يسألك ملاك بعينيه اللامعتين، ما العذر الذي يمكن أن تقدميه لتقولي لا؟
“آه، أقصد، حسناً… هذا…”
‘تماسكي يا سونِت فوسا.’
خفضت رأسي محاوِلةً عزل أفكاري، لكن يديه وركبتيه ظلّتا تتراقصان أمام ناظري.
‘لقد وُقّعت بيننا عقود، وصحيح أن مشاعري نحوه… غير بريئة تماماً.’
هل يمكن أن تُسمّى علاقةً كهذه صداقة؟
أليس من المؤسف أن تكون صداقات الملائكة بهذه البراءة؟
‘الصديق الحقيقي يجب أن يكون…’
استحضرتُ في ذهني صورة صديقتي الوحيدة “آيريس”.
‘صحيح، لم نكن صديقتين منذ البداية.’
بدأت صداقتنا حين أنقذتها ذات مرة، كانت مرهقة وهاربة من مكان ما، فساعدتها وقدّمت لها عملاً.
لم تكن ماهرة، لكنها كانت لطيفة، ولأننا كنا نقضي أيام العطلة في القصر ذاته، تقرّبنا سريعاً.
‘والآن حين أفكر… الموقف متشابه.’
لطيف، نقضي الإجازات معاً…
‘لا، لا، الصداقة تختلف، لا بد أن هناك شيئاً آخر يميزها…’
لكن حين كنت ألتقي آيريس، كنا نتناول الطعام، نشرب الشاي، وأحياناً نتجول في المتاجر الجديدة…
‘مهلاً، كل هذا فعلته مع يوت أيضاً!’
بل والأسوأ… خلال بضعة أشهر فقط، التقيتُ بيوت أكثر مما التقيتُ بآيريس خلال سنوات.
‘مع أن آيريس نادراً ما تخرج من المنزل!’
في القصر، هو ثاني أكثر شخص أتحدث معه بعد سيدتي، نخرج معاً أحياناً، والآن نقضي أول يوم في السنة سوياً…
أومأت ببطء.
“صحيح، نعم… أعتقد أننا فعلاً… صديقان.”
في تلك اللحظة، أشرق وجه يوت بيلفيت كما لو أُضيئت مئة مصباح دفعة واحدة.
اتسعت عيناه أكثر، وابتسم ابتسامة كبيرة إلى حد ظهرت معها حنجرته، ثم قال بحماسٍ غامر:
“نحن أصدقاء!”
“آه!”
امتدت ذراعاه الطويلتان فجأة وأحاطتا كتفيّ.
وفي لحظة، هوى جسده نحوي كما لو أنه دومينو انقلب فوقي.
بعبارةٍ أخرى—
‘يا أمي، يا إلهي، يا للعالم…!’
لقد عانقني يوت بيلفيت فجأة!
شعرتُ بحرارةٍ تلسع عينيّ. أغمضتهما بإحكام وأخذت أستعيد في ذهني قواعد السلوك التي تعلمتها في الأكاديمية:
*لا تتكبري، لا تستخفي بنفسك، كوني لطيفة في كل حين…*
هل كان هذا جزاء اللطف المستمر؟
أن أدفن وجهي في صدر الرجل الذي أحبّه؟ لو انتهت حياتي الآن، لرضيتُ تماماً.
‘يبدو أن الصداقة… أمرٌ رائع حقاً.’
داعب عطْرُ الأعشاب المنعش أنفي وأثار حلقي قليلاً.
ولحسن الحظ، فكّ يوت ذراعيه عني قبل أن أفقد وعيي فعلاً.
ثم ابتسم ابتسامة واسعة وقال:
“سونِت!”
‘حسناً، سأغشى عليّ الآن…’
إن وسامة هذا الرجل خطر على القلب! أمسكتُ ركبتيّ بقوة كي أمنع نفسي من السقوط.
“سونِت، يا سونِت…”
“نادِني يوت فقط. وتحدثي إليّ بحرية أيضاً! نحن صديقان، أليس كذلك؟”
الوتيرة سريعة جداً…
لكن كيف لي أن أرفض يوت بيلفيت، ووجهه يفيض توقاً وتوقعاً؟
مررتُ لساني على شفتيّ المرتجفتين وقلت بصوتٍ خافت:
“يـ… يوت.”
“نعم، سونِت!”
‘أريد البكاء…’
حينها فقط فهمتُ أولئك الذين يبكون أمام النار المقدسة.
فحين يكون المرء سعيداً إلى حد الألم… لا يجد سوى الدموع وسيلةً للتعبير.
“هناك شيء كنت أريد فعله عندما أحصل على صديق!”
“ما هو؟ أقصد، ما هو ذاك الشيء؟”
التعليقات لهذا الفصل " 41"