37
تذبذبت العينان البنفسجيتان الداكنتان في اضطرابٍ واضح.
كانت المرأة تعبث بمقبض الفنجان بين أصابعها، ثم تنفست بعمق وهزّت رأسها بثبات.
“سأفعل. أيًّا يكن الأمر.”
“حتى وأنتِ لا تعرفين ما الذي سأطلبه منك؟”
“مهما يكن، ما أهمية ذلك الآن؟”
لم يكن في صوتها ادّعاء ولا رياء.
ابتسمت ايفانجلين مينيس بصدق لم يظهر على وجهها من قبل.
“إن أخرجتِني من هذا المستنقع الكريه، فسألعق حذاءك من مكاني هذا.”
“ماذا؟”
تلاقت نظرتان لامعتان نحوي في اللحظة نفسها.
أسرعتُ أضع يدي على فمي وانحنيت في خجلٍ شديد.
“آه… أعتذر، لقد تجاوزت حدودي.”
فالخدم لا يتدخلون في حديث أصحابهم.
‘حتى عندما كنت مبتدئة، لم أرتكب خطأ كهذا.’
حتى لو دخلت عنكبوتة فمي، عليّ أن أبقى صامتة.
“رجاءً، سامحيني يا سيدتي.”
“لا، سونِت. قولي ما لديكِ.”
“ليس هناك ما يقال، سيدتي. تابعي حديثكِ من فضلكِ.”
“يبدو أن شيئًا يضايقك، أليس كذلك؟ ما هو؟”
“ليس بالأمر المهم حقًا…”
“مهما كان، أريد أن أسمعه. ارفعي رأسكِ.”
ارتسم قوسٌ ناعم من الرموش البيضاء الكثيفة كما تفعل دائمًا.
وتحتها كانت عينا سيدتي هادئتين، ودودتين إلى حدٍ مؤلم.
“حقًا ليس شيئًا كبيرًا…”
نظرتُ إلى الضيفة الجالسة أمام سيدتي مطولًا.
وحين التقت نظراتنا، ارتجف كتفها المستقيم.
“قبل أيام فقط، كنتِ تعتبرين الكرامة أمرًا بالغ الأهمية.”
“…….”
“تغيّرتِ بسرعة غريبة، أليس كذلك؟”
لقد كانت تلك الكرامة نفسها التي دفعتها للحديث عن ’الحب الحقيقي‘ بينما كانت على وشك تدمير بيت الكونت.
احتدّت ملامح ايفانجلين وهي تردّ بعجلة:
“لا يمكنني أن أراهن على الكبرياء في مواجهة احتمالٍ غامض.”
“آه، فهمت…”
“عرضُ السيدة أكيد، واضح، ليس مجرد أملٍ غامض.”
“…….”
“أما اللورد كارلايل فلن يساعدني حتى لو توسلتُ إليه.”
“لكنك قلتِ إنه صديق طفولتك. لو شرحتِ له جيدًا منذ البداية، ربما كان سيساعدك.”
“بصراحة… لم نكن مقربين إلى ذلك الحد.”
أمالت سيدتي رأسها قليلًا، متأملةً.
تابعت ايفانجلين بصوتٍ رصين:
“صحيح أننا كنا مقربين في الصغر، وكان هناك حديث بين العائلتين عن زواجٍ محتمل… لكن هذا كل ما في الأمر.”
“ألَم تقولي إنه كان حبكِ الأول؟”
“همم… الذكريات تُزيَّف أحيانًا، كما تعلمين.”
“لكن قلتِ بنفسك إنكما كنتما أقرب صديقين!”
“أكره أن أقول هذا، لكنه لم يكن يملك أصدقاء أصلًا…”
بمعنى آخر، كانت ايفانجلين الأولى والوحيدة في صفٍّ بلا طلاب.
هبط كتفا سيدتي بعد أن كانا مرفوعين قليلًا.
“إذًا كان الأمر كله… من أجل المال فقط؟”
“نعم. خالٍ من أي نية أخرى، صافيًا تمامًا. اقتربتُ منه فقط من أجل المال. أعلم أن هذا يجرحكِ، سيدتي، لكنني كنت يائسة بالفعل.”
“ولم يساوركِ شعور آخر نحوه؟ ولو لمرة واحدة؟”
“إنه رجل جيد، لا أنكر، لكن منذ ورث اللقب تغيّر كثيرًا.”
ارتبكت نظرتها المتأنقة للحظة وهي تضيف:
“ثم إن ذوقه يميل أكثر إلى الفتيات الريفيات اللطيفات من النساء الصارمات في العاصمة.”
“ليدي ايفانجلين ، هل تلمّحين إلى أنني…”
“روندا ليست ريفًا، أليس كذلك؟ ثم إنه لا يعبث مع النساء المتزوجات.”
أما الرجال المتزوجون… فقد كانوا استثناءً.
عضَضتُ باطن فمي كي لا تفرّ كلماتي منّي كما حدث من قبل.
“هاه… لا تعلمين كم آلمني ذلك…”
“لكنني أؤكد لكِ هذا: اللورد لم ينظر إليّ يومًا كما ينظر إليكِ. لم يعاملني قط بالمودة التي يعاملكِ بها.”
“كفى… لا داعي لمتابعة هذا الحديث.”
كان صوت سيدتي غريبًا، خافتًا، يختلط فيه التعب بالفتور.
سارعتُ إلى تقطيع قطعة الكعك ووضعها أمامها.
انتفخت وجنتاها الممتلئتان وهي تمضغ لقمةً من كعكة الجبن بالكريمة والفراولة حتى أنهتها تمامًا قبل أن تتكلم مجددًا.
“فلننتقل إلى صلب الموضوع.”
“…….”
“لن أسدد الدين كاملًا.”
“نعم.”
“سأدفع فقط المبلغ الذي عرفته سونِت في البداية. ذلك يكفي لإطفاء الحريق العاجل على الأقل.”
“حتى ذلك القدر يكفي لـ—”
“بالإضافة إلى ذلك، سأشتري جميع السندات التي تملكها عائلة ليوبورا.”
اتسعت العينان البنفسجيتان في دهشة.
تابعت سيدتي حديثها بنبرةٍ ثابتة:
“لن أضغط عليكِ كما يفعل البنك، يا ليدي ايفانجلين .”
“إذن…”
“لديكِ عشر سنوات.”
“…….”
“سأمدّ فترة السداد عشر سنوات من دون فائدة. لكن عليكِ أن تفي بالمبلغ كاملًا قبل انقضاءها.”
كان عرضًا استثنائيًا بحق.
‘لو كنتُ مكانها، لأوقعتُ خَتمي على عقد عبودية لعشرين عامًا بلا تردد.’
فحتى موظف في البلاط الملكي، لو عمل بصمت لعشرين عامًا، لما جمع مثل هذا المبلغ.
أن تمنحها هذا المال بلا فائدة؟
‘حتى العائلة لا تفعل مثل هذا.’
ظلت ايفانجلين مذهولة لحظة، ثم أسرعت تهز رأسها بحزم.
“سأفي بالدين.”
“حقًا؟”
“سأوفي الدين، أعدك على شرف عائلة مينيس.”
“…….”
“ماذا عليّ أن أفعل؟”
“أولاً…….”
من هنا بدأ الحديث الجوهري فعلاً.
أمالت السيدة رأسها قليلاً، وتبادلت معي نظرة سريعة، فشدّدت شفتي بإيماءة خفيفة.
قالت السيدة وهي تعقد ذراعيها بوقار:
“اعتذري لسونِت.”
“ماذا…….”
“سيدتي؟”
انحنيتُ قليلًا وهمستُ في أذن السيدة.
“سيدتي، لم يكن هذا ضمن الاتفاق.”
فماذا عن كل ما خططنا له حتى الأمس؟
لكن السيدة لم تلتفت نحوي، وأعادت كلامها بثبات:
“هذا هو الشرط الأول، يا آنسة.”
“لكنها ليست مطالبة بالاعتذار لي.”
ولم أكن الوحيدة المتفاجئة.
نظرت ايفانجلين نحونا بعينين حائرتين، تنتقل بنظرها بيني وبين السيدة.
‘أنا أيضًا لا أفهم ما الذي يحدث الآن…….’
رغم أنها قالت إنها ستفعل أي شيء، لم يسهل على شفتيها النطق بكلمة واحدة.
‘وهذا طبيعي.’
فالناس ذوو المكانة العالية يظنون أن السماء ستنشق إن هم اعتذروا أو شكروا أحد خدمهم.
وكلما طال الصمت، ازدادت برودة نظرات السيدة الوردية العينين.
“هل طلبتُ منك شيئًا صعبًا إلى هذا الحد؟”
“سيدتي، أنا حقًا لا بأس بي.”
ولم يكن هناك في الحقيقة ما يجعلني بخير أو غير بخير.
لكن في اللحظة التالية، أصبحت نظرات السيدة الحانية حادة كحد السيف.
أمسكت بمعصمي براحة يدها الناعمة بإحكام وقالت:
“لقد ازدريتها، وحرضت الخادمات على تجاهلها، بل ودبرتِ مشهدًا زائفًا لتضايقينها.”
“…….”
“اعتذري، حالًا. وبطريقة لائقة.”
“…….”
“وإن لم تفعلي، فلن يكون بيننا حديث آخر.”
كانت نبرتها حازمة لا تقبل النقاش.
‘لكن، لمَ الاعتذار؟’
هذا ليس شيئًا يُستغل في التفاوض مع مدينة غارقة في الديون.
‘فالناس دائمًا ما يستخفون بالخدم، أليس هذا مألوفًا؟’
لم يكن أمرًا يستحق أن يُدرج على طاولة المساومة.
ومع ذلك، تصرفت السيدة وكأن هذا هو أهم أمر في العالم.
“حقًا، سيدتي، هل أنتِ جادة؟”
“أتظنين أنني أمزح معك، يا آنسة؟”
“لكن هذا كثير…….”
“قلتِ إنكِ تستطيعين لعق حذائي، ولكنكِ لا تستطيعين أن تنحني لسونِت؟”
“…….”
“افعلِي كما تشائين. فالغارقة في الديون لست أنا.”
تقلص وجهها المصقول كأنما طُوي بورق رقيق.
وارتجفت شفتاها الحمراوان ببطء.
“أ… أ… آسفة. على تصرفي الطائش… الذي جعلك في موقف صعب.”
انحنى رأسها البلاتيني ببطء شديد.
واحمرّت أذناها بخجلٍ واضح.
‘من أجل هذا فقط.’
“هل تقبلين اعتذارها؟”
نظرتُ إلى قمة رأسها الكثيفة الشعر، ثم حوّلت بصري نحو السيدة.
رفعت كتفيها إشارة إلى أن القرار لي.
“……سأقبل.”
الشخص الذي كان يحتقرني اعتذر لي.
ولم تنشق السماء، بطبيعة الحال.
—
“ما هذا الذي على وجهك؟”
أطبقت يد صغيرة على خدي فجأة.
كانت عيناها البنيتان تلمعان بقلقٍ واضح.
“عيناك حمراوان جدًا!”
“أهذا أول ما تقولينه بعد شهور؟”
“هل يبدو لي أنني أمزح؟ ألم أقل لك ألا تكتمي كل شيء بداخلك؟!”
عبست آيريس وهي تُنزل حاجبيها المستقيمين غاضبة.
‘لم تكن هكذا في البداية.’
حين كنا نعمل في القصر نفسه، لم تكن قادرة حتى على طلب خدمة بسيطة دون أن تتلعثم.
‘الآن وقد فكرت في الأمر، فهي تشبه السيدة قليلًا.’
وجه مشرق، تصرفات رقيقة، وصوت كحبات الفضة المتدحرجة.
بعد سيلٍ من التوبيخ، تنهدت وأخرجت شيئًا من جيبها.
“ها هو. ما طلبتِه مسبقًا.”
“شكرًا.”
كانت أوراقًا سميكة مليئة بالمعلومات عن طبقة النبلاء العاملين في العاصمة.
الأسماء، المظاهر، الملاحظات الدقيقة—كل شيء مكتوب بإتقان.
نظرتُ إلى صديقتي التي جمعت كل هذا في غضون أسبوعين فقط.
“ماذا؟ لِم تنظرين إلي هكذا؟”
“أتساءل فقط، من أين تعرفين كل هذا؟”
“م- من أين؟ أسمع الناس يتحدثون فحسب!”
“لكن ليست لك خبرة طويلة، ولم تتولّي خدمة أحد النبلاء مباشرة من قبل، أليس كذلك؟”
دارت عيناها البنيتان بخفة مع عقارب الساعة.
“هل يمكن أن تكوني…….”
“أوه، أظن أن عليّ الذهاب الآن! ألم تقولي إنك مستعجلة أيضًا؟!”
“……صحيح.”
نهضت آيريس بسرعة، ومدّت لي ظرفًا على عجل.
“الشخص الذي طلبتِ مقابلته، ستجدينه هناك.”
التعليقات لهذا الفصل "37"