36
“……قلتِ ليس الأمر كذلك؟”
تقلصت عيناها المائلة قليلاً.
“ومع ذلك، لديك هذا القدر، وهذا القدر، وهذا القَدْر من الديون؟”
“هل تتهكمين عليّ؟”
“أنا مندهشة حقاً، صدقيني.”
لكن نبرتها البريئة بدت كأنها تسخر أكثر مما تبرر.
ذلك الأسلوب الهادئ المتصنع أشعل النار في صدر ايفانجلين.
“لم يعرف حتى بيت مينيس بعد، فكيف علمتِ؟”
هل يمكن أن تكون من جهة ليوبورا؟
عضّت ايفانجلين شفتها السفلى وتراجعت خطوة.
‘ظننتها خادمة عادية فحسب.’
وبمجرد أن أدركت ذلك، شعرت بعدم الارتياح.
‘الآن تذكرت، لقد حدث هذا من قبل.’
حين جثت على ركبتيها عند قدمي الكونت وتوسلت بحرارة!
كان أداؤها آنذاك يفوق بكثير حيل ايفانجلين الساذجة.
‘لا يمكنني أن أسمح لنفسي بالتراجع الآن.’
لو تراخت لحظة واحدة، فستكون مجرد خادمة هي من تلعب بها.
‘هذه المرة ليست مهزلة صغيرة كما كانت سابقاً.’
أخذت ايفانجلين نفساً خفيفاً كي لا يبدو توترها واضحاً.
ورغم وقوفها بلا حراك، تَكوَّنت قطرات عرق على عنقها.
“كيف اكتشفتِ الأمر؟”
“تجسستُ عليكِ.”
“ماذا، ماذا قلتِ؟!”
بأي جرأة تقول ذلك…
ارتعشت شفتاها الحمراوان.
“خادمة تتجسس على رسائل ضيوفها! أي وقاحة هذه؟!”
“هل لديكِ دليل؟”
كان ردها الهادئ كصفعة قطعت أنفاس ايفانجلين .
‘إنها خادمة بملامح عادية، ومع ذلك…’
كان في ملامحها ما يوحي بخبرة السنين، فشعرت بالانكماش أمامها.
“الرسالة الآن في طريقها إلى مينيس بأمان.”
“لـ، لا تقولي إنكِ تجرأتِ على العبث بها؟!”
“لم ألمس الرسالة.”
“…….”
“ثم، لو كنتُ قد قرأتها فعلاً، من تعتقدين سيتعرض للخطر أكثر إن كُشف الأمر؟ أنا؟ أم آنستي؟”
كانت محقة تماماً.
وفي الوقت نفسه، كانت وقحة إلى حد لا يُصدق.
مررت سونِت أصابعها في شعرها الطويل ذي اللون البنفسجي الفاتح وقالت بحدّة:
“إن كنتِ في ضائقة مالية، فابحثي عن عمل. ما حاجتكِ لإشعال النار في بيت غيرك؟”
“إن كان أحدهم ضعيفاً لدرجة أن يقع، فالذنب ذنبه هو!”
“وجهة نظر مثيرة للاهتمام. لكنها لا تليق بفتاة مثلك يا آنسة.”
لامست أطراف أظافرها القصيرة شعر ايفانجلين برفق.
انتزعت سونت خيطاً رفيعاً من شعرها وهمست بلا مبالاة:
“حتى لو بعتِ أعضاءك، فلن يكفي هذا المبلغ.”
“…….”
“إذًا، كنتِ تنوين سداد الدين بالزواج من رجل لا تحبينه؟”
“لا أحبه؟ أنا فقط…”
“هيا، لسنا في مسرحية، لا تتصنّعي أكثر من هذا.”
يا لأسلوبها البغيض!
‘حتى مُقرضو المال لم يكونوا يتحدثون معي بهذه الطريقة.’
كانت لغتها غريبة تماماً عما اعتادت سماعه، فأمسكت ايفانجلين صدغها في ضيق.
‘هل أثير الفوضى؟’
لو صرخت الآن، سيأتي أحد بالتأكيد.
“خادمة الكونتيسة الخاصة أهانت الليدي ايفانجلين !” لو اشتكت بهذا الشكل…
‘لا، لا يصلح.’
تراجعت الفكرة بسرعة.
‘قد تكون قد أحكمت سيطرتها على باقي الخادمات بالفعل.’
وإن كان الأمر كذلك، فلن يكون لصراخها أي جدوى.
وحتى إن لم يكن كذلك…
‘لو تشاجرتُ معها الآن، فسأكون أنا الخاسرة.’
لم تكن ايفانجلين مينيس عبقرية، لكنها لم تكن غبية تماماً أيضاً.
تطلعت بعينيها الداكنتين إلى الخادمة التي وقفت في صمت.
فقالت الأخيرة بنبرة رتيبة:
“لماذا لم تطلبي المال من الكونتيسة كابلِت؟ كنتما على علاقة طيبة.”
“…….”
“أو ربما كان عليكِ أن تصارحي سيدتك بالحقيقة.”
“تتكلمين كأنك طفلة.”
قهقهت ايفانجلين بخفة وجلست على الأريكة.
انتشرت ثوبها الأبيض الرفيع حولها.
“خالتي ستكون أسعد الناس إن رأت عائلتنا تنهار للمرة الثانية.”
“…….”
“كل ما تريده هو استغلال وضعي هذا. أما كارلايل…”
أغمضت عينيها ببطء، تتذكر أيام طفولتها الباهتة.
“من الأفضل أن أبدو امرأة جاءت تبحث عن الحب الحقيقي، لا مدينة جاءت تطلب سداد دين قديم.”
“الحب الحقيقي؟”
ابتسمت الخادمة ابتسامة قصيرة.
كانت عيناها الزرقاوان هادئتين كأن الضوء لا يمسهما، يصعب قراءة ما بداخلهما.
“الأمر كله مسألة تغليف لا أكثر.”
“في كلتا الحالتين، سيدك هو من سيدفع الدين، أليس كذلك؟”
هل يعقل أن الكونت ينفق المال بسخاء على ‘صديقة’ لم يرها منذ أكثر من عشر سنوات؟
‘لا، ليس من ذلك النوع من الرجال.’
تذكرت ايفانجلين سلوكه المهذب والبارد دوماً.
لكنها لم تكن تنوي البوح له بكل هذا.
“إنها مسألة كرامة.”
“أهي أهم من حياتكِ؟”
“شرف النبلاء لا يختلف عن حياتهم نفسها.”
“لكننا في زمن يحتل فيه العامة مقاعد المجلس العليا، وتُباع فيه الألقاب وتُشترى!”
“تقولين هذا لأنك لستِ من النبلاء.”
“آه، نعم… بالطبع.”
ارتسمت على وجهها ملامح الدهشة الصريحة، لكنها سرعان ما اختفت.
“كم يبلغ مجموع ديونك بالضبط؟”
يا لها من نغمة متعجرفة تصدر من فتاة لم تعرف في حياتها سوى خدمة الآخرين!
ابتسمت ايفانجلين بسخرية من واقعها البائس قبل أن تجيب.
كان المبلغ فادحاً، لكن عينيها الزرقاوين ظلّتا بلا أدنى اضطراب.
“ولماذا تسألين؟ أتنوين سدادها؟”
“لا أعرف المبلغ الكلي، لكن أستطيع سداد الجزء الذي علمتُ به في البداية…”
“أنتِ؟ تستطيعين السداد؟”
“إذا سددتُ الدين، فهل ستتوقفين عن هذا؟”
“عن هذا؟”
تصدّع القناع الذي بالكاد كانت تحافظ عليه.
قالت الخادمة الواقفة أمام ايفانجلين دون أثر ابتسامة:
“أعني هذا الدور الباهت الذي تلعبينه… دور المساندة عديمة التأثير، بلا شغف ولا إلهام.”
—
كانت شمس أوائل الخريف مشرقة على نحو مبهر.
في التراس، وُضعت مائدة فاخرة لأجل شخصين فقط، تضم الشاي والحلوى.
… وأنا من أعدّ كل ذلك وحدي.
“إنه لشرف أن تدعينني، سيدتي.”
“لا داعي للشكر، كان علينا أن نلتقي منذ زمن. تأخرنا كثيراً، من جميع النواحي.”
مضيفة واحدة، ضيفة واحدة، وخادمة واحدة.
كنتُ أقف خلف سيدتي أراقب المشهد بعناية.
بدأت الحديث ايفانجلين مينيس.
“معظم ثروة عائلة إديويل هي ملك للورد كارلايل، أليس كذلك؟”
“…….”
“سيدتي لم تتسلمي بعد كل الصلاحيات، بما أنك حديثة العهد بإدارة شؤون القصر.”
“أتلمحين إلى أن أذنيّ ولساني أطولا مما ينبغي؟”
“سمعتُ أنكِ… تستطيعين سداد ديوني.”
“وماذا في ذلك؟”
“هل يمكن فعل ذلك من دون علم اللورد كارلايل؟”
“إن كان هذا هو المهم بالنسبة لك، فبكل سهولة.”
شدّت الضيفة فكّها وكأنها تعضّ على داخل خدها.
“إذًا… هل يعني هذا أن لديكِ ثروة خاصة لا علاقة لها بعائلة إديويل؟”
“ألستِ أنتِ من في حاجة ماسة؟ هل تريدين مني أن أطلعك على أملاكي أيضاً؟”
“أعتذر إن بدا كلامي وقحاً، لكن حتى العطشى يحتاجون إلى التأكد من أن الماء الذي يشربونه ليس حمضاً.”
“…….”
“كيف يمكن لامرأة واحدة أن تمتلك مثل هذا المبلغ الهائل؟”
انحنت رأسها قليلاً بعد أن كانت شامخة.
أجابت سيدتي دون أي أثر لغضب:
“أملك عدداً من المناجم باسمي.”
شبكتُ يديّ على صدري وأخذت نفساً عميقاً.
‘لديها عدة مناجم باسمها؟’
أما أنا… فكل ما لدي هو قائمة بوظائف فقدتها.
بدت الهالة حول رأسها وكأنها تشعّ نوراً مقدساً.
“حصلتُ عليها كهدايا قبل الزواج، بمناسبة أعياد ميلادي وما إلى ذلك.”
“…….”
“إنها مناجم في منطقة روندا، وأديرها عبر وكلاء هناك.”
مملكة روندا الساحرة.
رغم صِغر مساحتها في القارة، فقد حافظت على مكانتها بفضل وفرة معادنها النادرة.
تكلمت الأميرة التي نشأت في “مملكة الجواهر” بنبرة عادية تماماً:
“تلك المبالغ أستطيع تغطيتها بسهولة تامة.”
“…….”
“بل يمكنني دفعها حالاً إن رغبتِ.”
“أأنتِ جادّة؟”
“الأمر ليس صعباً عليّ.”
“…….”
“لكن هذا لا يعني أنني مضطرة لفعل ذلك أيضاً.”
كانت ملامح وجه الضيفة تتبدّل مع كل كلمة تنطقها سيدتي.
أما يدا ايفانجلين المشبوكتان فقد صارتا شاحبتين من شدة التوتر.
‘يا لها من طريقة للتعذيب النفسي…!’
متى تعلمت سيدتي كيف تضغط على قلوب الناس بهذا الشكل؟
شعرت بالفخر وهي تمسك زمام الحديث بثقة.
“هناك أمر واحد يمكن لليدي ايفانجلين أن تفعله.”
“…….”
“إن أنجزتهِ كما يجب، فسأضمن ألا يُذكر دين عائلة مينيس مطلقاً. ولن تضطري أنتِ ولا أسرتك إلى القلق بشأنه بعد الآن.”
“وماذا… ماذا عليّ أن أفعل؟”
“قبل أن أقول لكِ ذلك…”
طَق.
ارتطمت الفنجان الأبيض برفق بطبقته.
لم يسبق لسيدتي أن وضعت فنجانها بصوت مسموع من قبل.
“قولي أولاً إنكِ مستعدة لفعل أي شيء.”
“…….”
“إن لم تكوني مستعدة، فغادري.”
انخفض صوتها هذه المرة، لكنه كان بارداً كحد السيف.
التعليقات لهذا الفصل "36"