“إنك تمامًا كما كنتِ في شبابك -”
“ما زلتُ شابة، أليس كذلك؟”
توقّفت عيناه المرتجفتان مثل سنابل القمح وسط العاصفة.
استغليت لحظة الصمت وبدأت أشرح بسرعة.
“وأنا لستُ السيدة ماري التي تتحدث عنها.”
“آه…”
حينها فقط، نظر إليّ بعينيه الزرقاوين بوضوح.
مرّر الرجل أصابعه في شعره القصير وهو يعبس قليلًا.
“آه… حقًّا، لا يمكن أن تكوني هي.”
انحنى خصره فجأة.
وانكمش القماش الصلب لزيّه الرسمي في لحظة واحدة.
“أعتذر. يبدو أنني أزعجتكِ، لقد أخطأتُ الظن بكِ وظننتكِ شخصًا آخر أعرفه.”
“لا بأس.”
حين اعتذر لي بهذا الأدب الشديد، شعرت أنا بالحرج أكثر منه.
‘يبدو في سن أمي تقريبًا.’
رغم تصرفه المهذب، إلا أن ملامحه كانت صارمة لا تنفذ منها إبرة.
وما إن قبلتُ اعتذاره، حتى ابتعد عني بسرعة محسوبة.
‘هل هو جندي؟’
حتى لو لم يكن يرتدي زيًّا رسميًا، لم يكن ليبدو منسجمًا مع جوّ محل الحلويات اللطيف هذا.
وانظري إليه الآن.
“أم، عذرًا، هنا…”
كان يقف مرتبكًا أمام المنضدة، لا يعرف كيف يطلب.
“عليك أن تكتب طلبك أولًا ثم تسلّمه لأحد الموظفين. الطابور هناك.”
“آه…”
“وهذه ورقة الطلب، والقلم.”
ناولته الأدوات الموضوعة على الحافة، فانحنى رأسه الأسود مرة أخرى.
“شكرًا لكِ. أزعجتُ الشابة بغير قصد.”
“لا بأس، طريقة الطلب هنا غريبة قليلًا، لكثرة الزبائن فحسب.”
“فهمت… هل لي أن أسأل، أمـ -”
“ها هي، الكعكة المطلوبة جاهزة!”
وضعت الموظفة صندوقًا بلون الكريمة فوق واجهة العرض الزجاجية.
ابتسمت وهي تشير إليّ بنظرة ذات مغزى وقالت بتأكيد:
“أخبريهم أننا أضفنا ثلاث مرات كمية الفاكهة المطلوبة.”
“سأفعل.”
وبينما كنت أتهيأ لمغادرة المتجر، التقت عيناي بعيني الرجل ذي الشعر الأسود الذي ما زال يقف مترددًا في الصف.
‘لون عينيه مثل عينيّ تمامًا… هذا اللون نادر نوعًا ما.’
{سر ولادةةةةةةةةة هسه يطلع ابوهااااااا}
أومأت له إيماءة خفيفة وفتحت الباب.
كان شعور التسكع خارج العمل مريحًا للغاية.
‘لكن حان وقت العودة.’
وضعت صندوق الكعكة بعناية داخل الحقيبة التي أعددتها مسبقًا وأغلقت فتحة المدخل بإحكام.
‘لو رآني كبير الطهاة، انتهى أمري.’
إن علم أن السيدة طلبت كعكة من محل آخر رغم كبريائه المهني كطاهٍ…
‘ستنهار أجواء المطبخ تمامًا.’
وقد يتسبب ذلك في مزيد من التوتر بيني وبين الطهاة.
‘علاقتي بهم باتت هشّة منذ انتقالي إلى خادمة خاصة للسيدة.’
رغم أن ذلك لم يكن خياري بل بأمر من ربّتي.
ولا داعي لاستعداء أحد دون سبب.
سلكتُ طريقًا يبتعد قدر الإمكان عن المطبخ.
‘العشاء من اختصاص خدم المبنى الرئيسي على أي حال.’
وحين ينتهي الأمر وأغتسل، أعود للمنزل…
“أنتِ هناك، تعالي إلى هنا.”
العودة…
‘كيف نسيتُ أمر هذه المرأة.’
دوريس كابلِت.
هي نفسها التي جلبت أمام الكونت حبيبته السابقة أو ربما أول حبٍّ له.
ما زالت تعيش في منزل المدينة مع الليدي إيفانجلين.
‘قالت إنها ستبقى حتى حفلة الخريف الملكية.’
كانت الكونتيسة كابلِت تتصرف في القصر كما لو أنها إحدى الورثة المباشرين لعائلة إديوِيل، تقلب المكان رأسًا على عقب.
“أنتِ إذًا الخادمة التي تخدم الكونتيسة.”
“نعم، صحيح.”
تمامًا كهذه اللحظة.
“ما الذي تحملينه في يدك؟”
“أمرٌ من سيدتي.”
“دعيني أراه.”
ما هذا الطلب المفاجئ؟
تراجعت سريعًا وانحنيت قليلًا.
“عذرًا، لا يمكنني ذلك. إنه أمر من سيدتي.”
“أتحملين شيئًا لا يمكنكِ إظهاره لي؟”
“مهما كان نوعه، لا أستطيع عرضه دون إذن من سيدتي.”
“ماذا قلتِ؟”
حتى لو أريتها، فليس في الأمر سوى كعكة.
‘ما بداخلها لا يهم.’
إنه مسألة كرامة.
إن خضعت الآن، فسيُعدّ كأن سيدتي هي من خضعت.
‘ومن تراها تحاول التصرّف كصاحبة المكان هنا؟’
جوّ القصر متوتر بما فيه الكفاية.
حدّقت الكونتيسة كابلِت بي بعينين باردتين وقالت بسخرية:
“أتجرئين على عصيان أمري؟ أنتِ، مجرد خادمة؟”
“سيدتي الوحيدة هي سيدتي فقط.”
من دون أي تفكير يُذكر.
‘طالما لم يُطردوني، فلا بأس!’
مهما انتقدتني، لم يتغير راتبي بنقطة واحدة.
“أنتِ هناك.”
“نعم، يا كونتيسة!”
‘حسنًا، ما الخطأ اليوم؟ شكل الشريط؟ حالة الحذاء؟ طريقة اليدين؟ التعبير؟’
ابتسمت لها ابتسامة عريضة كما لو كنتُ أراجع أرقام يانصيب فائزة.
—
‘ما بها هذه الفتاة؟’
الكونتيسة كابلِت، التي نشأت كنبيلة من أعرق العائلات، كانت مذهولة تمامًا.
كل هذا بسبب خادمة عامية تافهة؟
‘كل ما تملكه تلك الأجنبية هو هذه الخادمة، لو تخلصتُ منها فستُصبح معزولة تمامًا.’
لكن تلك الخادمة لم تكن سهلة أبدًا.
كانت تفتعل معها مشكلات تافهة لتنهكها، ومع ذلك تبقى الفتاة هادئة، لا تتأثر.
حتى إنها لم تشكُ لسيدتها، وكلارا اديويل ما زالت تبدو جاهلة بما يجري.
اشتعل الغضب في صدر الكونتيسة كابلِت.
‘لا يمكن أن يستمر هذا الوضع.’
لن تغيّر خططها بسبب عامية بلا سند.
لو كانت تملك سلطة التعيين والفصل، لما احتاجت إلى كل هذا العناء.
‘ولا يمكنني أن أُقحم الآنسة إيفانجلين في هذا أيضًا.’
تنحنحت الكونتيسة كابلِت بصوتٍ حاد.
وكانت عينا الخادمة الزرقاوان، الهادئتان تمامًا، تستفزانها إلى أقصى حد.
“سمعتُ أنكِ من الجنوب، صحيح؟”
“نعم، هذا صحيح.”
“يُقال إن أهل الجنوب متهورون ولا يعرفون كيف يتصرفون… ويبدو أنكِ لستِ استثناء.”
“…….”
“ربما لأنكِ نشأتِ من دون أب؟”
“همم…”
توقّف القوس الرفيع لشفتيها لحظة، فانتظرت الكونتيسة كابلِت بفارغ الصبر أن تغضب تلك الخادمة، أن تدير ظهرها وتخرج،
أن تُظهر سلوكًا لا يليق بخادمةٍ محترمة.
لكنّ كل توقعاتها تحطمت تمامًا عندما قالت سونِت بابتسامة مشرقة:
“ربما يكون الأمر كذلك فعلًا!”
تجمد الهواء من حولها.
“حقًا يا لروعة نظرتكِ يا كونتيسة، لم يخطر ببالي مثل هذا التحليل من قبل!”
بل وأضافت مزيدًا من المديح!
سونِت فوسا، رغم الإهانة التي مسّت أصلها، ظلّت تبتسم بمرحٍ صادق.
بل ربما كانت في مزاجٍ أفضل من المعتاد.
‘هذه الفتاة ميؤوس منها.’
لم تكن الكونتيسة تعلم أن اليوم كان يوم صرف الرواتب.
لكنها أدركت شيئًا واحدًا بيقينٍ تام:
‘إن لم أستطع استخدام الخادمة…’
التعليقات لهذا الفصل "21"