كانت إليزا تبكي كل يوم، قائلة إنها تفتقد هيريس وتلقي باللوم على الدوقة الكبرى. وصل هذا الخبر إلى إليانا عن طريق إينا.

“تقول إن سمو ولي العهد لا يستطيع زيارتها بسببكِ، وكأنكِ أمرتيه بذلك. يا لها من فتاة وقحة.”

“أرى.”

“لماذا تلوم صاحبة السمو الدوقة الكبرى على عدم اهتمام ولي العهد بها؟!”

لسوء حظ إليزا، لم يزرها هيريس فحسب، بل لم يسأل حتى عن صحتها. الشابة التي اعتادت أن تخرج لتحية ولي العهد كلما زار قصر هوارد، كانت تافهة للغاية.

سلّمته خادمة تلقّت رشوة من إليزا الرسالة الرقيقة، لكن هيريس تحدّث بلا مبالاة. كانت نظرات هيريس مُثبتة على إليانا، التي كانت تعيد ملء كوب شاي فلينت الفارغ على الجانب الآخر من الطاولة.

“لا أستطيع أن أمنح شرف اللقاء لسجينة عوقبَت من قبل سيدة الشمال.”

التزمت الخادمة الصمت، لأن قولها إن العقوبة قد انتهت كان سيُثير لقاء مع إليزا. لم يِطلب منها سوى تسليم الرسالة.

“هذا هو مجال الدوقة الكبرى، لذلك يجب أن أحترمها أيضًا.”

كانت نبرة هيريس مُهيبة للغاية. نظرت إليه الخادمة بإعجاب، مستشعرةً نبل أحد أفراد العائلة الإمبراطورية. كان ذلك يليق بالوريث الوحيد المُقدّر له أن يكون إمبراطورًا منذ ولادته.

واضافة الى ذلك، بدت كلمات ولي العهد مدروسة.

فكر الخدم الذين كانوا يستمعون باهتمام: “إنه يعتني بشرف صاحبة السمو الدوقة الكبرى. ما ألطفه وأعظمه.” 

رفعت إليانا شفتيها ونطقت بالكلمات التي لم تتمكن الخادمة من قولها.

“سجينة؟ الآنسة إليزا قضت عقوبتها بالفعل.”

“ليا كريمة جدًا. قلتُ لكِ لا تتساهلي كثيرًا.”

تجاهلت إليانا كلمات هيريس وقالت.

“إنها ابنة تابع مخلص لزوجي، لذا عليّ أن أعتني بها جيدًا. الآنسة إليزا تستمتع بحياتها الاجتماعية هذه الأيام.”

كان وجه فلينت الذي خمن نوايا هيريس الحقيقية، باردًا. رفع الحاكم الشمالي حاجبه وخفض من شأن ولي العهد الذي كان الجميع يعجبون به.

“يا هيريس، إذا كنتَ تتحدّث بهذه الطريقة، فمَن ستوجه إليزا استياءها؟ إنه لتصرف دنيء أن تقول لسيدة الشمال إنها متكاملة في الأمور الشائكة. هل سُمعتكَ كرجل مجتمع تقتصر على العاصمة فقط؟”

أمام هجوم صديقه اللفظي المفاجئ، فتح هيريس فمه وأغلقه. وأمر فلينت الخادمة، بوجهه المتصلب.

“لا تخبري الآنسة إليزا بكلام سمو ولي العهد ينتهي دوركِ كرسول بتسليم الرسالة.”

التزمت الخادمة بأمر الدوق الأكبر هوارد بالصمت. 

أما إليزا، التي كانت تنتظر بفارغ الصبر ردًا أو زيارة من هيريس، فقد انتابها اليأس.

“لقد تلقى سمو ولي العهد رسالتكِ، لكنه لم يقل شيئًا.”

“ماذا، ماذا؟!”

بكت إليزا بكاء مرًا. كان منظرها وهي تبلل غطاء الوسادة بسبب قلة اكتراث هيريس مؤسفًا، لكن الخادمة غادرت الغرفة دون تردّد. إن لم يحالفها الحظ، فقد يصيبها مزهرية تقذفها المرأة السيئة المزاج.

وفي الوقت نفسه، بدا هيريس مصدومًا تمامًا من تعرّضه للهجوم ليس فقط من قبل إليانا، بل أيضًا من قبل فلينت.

“سأعود لدي التزامات كثيرة.”

وأعرب هيريس عن نيته العودة إلى العاصمة خلال ثلاثة أيام. ودّع آل هوارد ولي العهد هيريس دون أن يسألوه عن سبب مغادرته بهذه السرعة.

التزم فلينت الصمت، وابتسمت إليانا ابتسامة مشرقة بابتسامة راضية، وقالت.

“لا يجب أن يغيب وريث الإمبراطورية عن جلالته طويلًا. لقد اتخذتَ قرارًا صائبًا. البوابة السحرية مفتوحة بالفعل.”

شعرت إليانا بارتياح كبير لرحيل هيريس المبكر. 

هيريس، الذي شعر بحزن لا يفسر، امتطى جواده، أسرع حراس ولي العهد وخدمه للاستعداد للمغادرة.

“لدي توقعات كبيرة بشأن هذا اللقاء مع البعثة الدبلوماسية في زاكادور. لا تنسيا أن هذا أمر سري، الوضع السياسي في الممالك الأخرى غير عادي.”

تحدث هيريس بصوت غاضب ثم غادر قصر هوارد.

“هل تعتقد أننا لا نعرف ذلك؟”

سخرت إليانا بازدراء.

كان الشمال مكانًا داخل إمبراطورية فيانتيكا، حيث كانت المشاعر تجاه زاكادور سلبية للغاية. كان أرضًا خصبة للجماعات عديمة الضمير لارتكاب أعمال عنف. لو هاجموا مهمة زاكادور ثم ألقوا باللوم على الشمال البريء، لكان ذلك مثاليًا. لأن القوتين العظمتين في القارة كانتا قد أبرمتا معاهدة سلام مؤخرًا، ساد التوتر الشديد بين الممالك الأخرى. وربما كانتا سرًا، تسعيان جاهدتين لتشكيل تحالفات.

نصح ولي العهد هيريس بالانتقال سرًا، لأن زيارة البعثة الدبلوماسية لزاكادور كانت سرية للغاية. وزوّد هيريس فلينت بجميع المعلومات عن تحركات الممالك الأخرى قبل مغادرته. وحتى بعد ذلك، وصلت عدة حمامات زاجلة للمساعدة في التحضير للمحادثات.

لقد تمَّت مشاركة كل هذا المحتوى مع إليانا للتحقق من موثوقية المعلومات.

“المعلومات تتغيّر باستمرار. قرار اتخذ قبل أسبوع قد يلغى غدًا.”

لم تنشر إليانا فقط عدة مجموعات استخبارات مختارة مسبقًا، بل أيضًا مخبريها. كان سيل من المعلومات من مختلف الأنواع ينهمر بلا توقف.

“تبقّى لدينا مهمة أكثر إزعاجًا، وإن كانت أكثر إنتاجية، اجمع جميع التقارير من نقابات المعلومات والمخبرين في مكتبي.”

“نعم، صاحبة السمو الدوقة الكبرى.”

كان لا بد من التحقق من موثوقية المعلومات المجمعة والتأكد منها عدة مرات عبر التدقيق المتقاطع. وكان لا بد من تصفية المعلومات وإعادة تصفيتها، مع مراعاة الدقة أحيانًا في البحث عن الحقيقة.

كانت عملية معقدة نوعًا ما، لكن إليانا كانت خبيرة في إدارة المعلومات في حياتها السابقة، وهي في قصر الإمبراطورة، كان عملها اليومي جمع المعلومات وإدارتها. في حياتها الماضية، اعتمدت إليانا على معلومات كاذبة ودفعت ثمنًا باهظًا. كانت تعلم أكثر من أي شخص آخر أن عليها البحث عن الحقيقة في بحر المعلومات الواسع، واستخدامها في الوقت والمكان المناسبين.

نتيجة لذلك، كان مكتب الدوقة الكبرى، إن لم نقل أكثر من اللازم، بحرًا من المعلومات، لكنه في الواقع كان أشبه بفوضى عارمة. أكوام من الوثائق المتراكمة والكتب ذات الصلة، وأوراق متناثرة في كل مكان. وقد احترق الكثير من الورق حتى فاحت منه رائحة كريهة. كانت إليانا مشغولة للغاية في الآونة الأخيرة، وكانت تقضي الليل في مكتبها لذلك لم يعد فلينت، الذي كان يشعر بالوحدة، قادرًا على تحمّل الأمر وقام بزيارتها.

مهما طرق الباب، لم يجب. فنسيَ فلينت كرامة الدوق الأكبر، حتى أنه وضع أذنه على الباب. ظن أنه سمع همسًا خافتًا، لكنه كان هادئًا جدًا.

“هل بالغت في الأمر وأُغمي عليها؟”

فتح فلينت الباب فجأة، وقد غلبه القلق، وذُهل من المشهد. وقبل أن يفتح فلينت فمه طارت وثيقة وارتطمت بركبته قبل أن تسقط على الأرض. رمتها إليانا بعد أن قرأتها واعتبرتها عديمة الفائدة.

كانت الأرضية فوضوية، لا مساحة للخطوات، أوراق مبعثرة مكدسة مبعثرة في كل مكان. التقط فلينت إحداها فرأى خطًا بدا وكأنه مخطط بأحرف غريبة. اختلطت عدة كتابات بخط اليد. كانت معلومات من ممالك أخرى في القارة. بدت وكأنها تقارير المخبرين الذين بعثرتهم إليانا.

التقط فلينت الأوراق واحدة تلو الأخرى، باحثًا عن مكان يضع فيه قدميه. ومع ذلك، لم يستقبله أحد. لم يشعروا به بل على وجه التحديد، بدا أنهم لم يلاحظوا وصوله.

في المكتب، باستثناء إليانا، لم يكن هناك سوى جين وبيشوب، ممسكين بأقلامهما و منشغلين تمامًا بإليانا. بدا أنهما مستعدان لتدوين الملاحظات في أي لحظة. كان وجه إليانا يعكس إرهاقًا شديدًا وتوترًا. شحب وجهها بسبب الإرهاق والتوتر الأخيرين، لكن عينيها كانتا تلمعان بحدة.

“من المؤكد أن حربًا أهلية اندلعت في مملكة كيناسون. كانت هذه هي الحادثة الأخيرة، والتي تعاملت معها عائلة كيناسون المالكة باعتبارها سرًا وأبقتها صامتة. في النهاية، قتل الملك العجوز الملكة واستولى على أخرى جديدة. جمع ابن الملكة الراحلة جيشًا لقتل أبيه. يُقال إنه يستعين بسحرة…. ممم، لا، وفقًا لمعلومات برايتون، رفض برج السحر.”

انتزعت إليانا ورقة من الحائط وألقتها جانبًا. دوّن بيشوب ملاحظاته بحماس، ثم أجاب.

“حينها لن يكون لدى مملكة كيناسون وقت للقلق بشأن التحالف بين فيانتيكا وزاكادور سنسحب مخبرينا من هناك.”

“نعم. أعيدوهم. أمير تلك البلاد رجل حساس، وإذا أُلقي القبض عليهم، فستكون مشكلة.”

عند سماع كلمة انسحاب، تفاعلت جين. كانت جين تدوّن ملاحظاتها على ورق واقتربت من قفص طيور في مكتب إليانا. فتح باب القفص بصوت طقطقة، وربطت ورقة بكاحل الطائر، عادت جين التي أطلقت سراح الطائر من النافذة المفتوحة، إلى مكانها.

 نهضت إليانا من مقعدها وبدأت بانتزاع الأوراق عن الحائط. عندما حاولت جين المساعدة، هز بيشوب رأسه. إذا انتزعت الورقة الخاطئة، فمن المرجح أن توبَّخ. كان بيشوب قد تلقّى ضربة بقلم ألقته عليه إليانا. كانت الدوقة الكبرى حساسة للغاية في التعامل مع المعلومات.

عاد فلينت ينظر إلى الحائط، حيث كانت الأوراق ملصقة في كل مكان. أوراق لا تحصى غطت الحائط الفارغ بالكامل. لاحظ فلينت أنها كانت جميعها تقارير أو ملاحظات.

كانت التقارير التي أرسلها المخبرون الذين فرّقتهم إليانا، بما في ذلك نقابات المعلومات التي عيّنتها، مكتظة، ولأن المعلومات كانت تأتي من مجموعات مختلفة، فقد تفاوت حجم الورق ولونه ومادته تفاوتا كبيرًا، وكانت تتميز بتنوع كبير في خطوط اليد.

“أحضروا لي مملكة إليروس”

بمجرد أن نطقت إليانا بالكلمة، بدأ جين وبيشوب البحث عن كتاب، وصادف أن الكتاب كان تحت قدمي فلينت فناوله لإليانا. إليانا، التي لم يكن لديها وقت للنظر إلى الشخص، التقطت الكتاب وفتحته بحركة سريعة.

“أوه.”

حينها فقط لاحظ جين وبيشوب وجود فلينت، تفاجآ وحاولا الانحناء، لكن فلينت لوّح بيده ليمنعهما وأشار بذقنه. هذا يعني أن عليهما التركيز على عملهما.

لم يكن لديهما وقت للتردّد، فاضطرا لالتقاط أقلامهما مجددًا. انفرجت شفتا إليانا مجددًا.

“هذه معلومات من مملكة إليروس.”

غمست إليانا ريشتها بالحبر الأحمر وشطبت بعض الحروف. صححت كلمة شاراي إلى إليروس. قالت إليانا بانزعاج.

“القماش الناعم المتدفق هو نسيج إليروس. من الأحمق الذي كتب لي هذا باسم شاراي؟ إذا كان الجزء السفلي قصيرًا ويُظهر الساقين، فهل يسمى شاراي تلقائيًا؟ تخلصوا من هذا الشيء عديم الفائدة.”

أحضرت جين وثيقة وأضافت اسمًا. كانت قائمة بالمخبرين الذين سيتم فصلهم.

فوجئ فلينت بسير العمل بسلاسة وسط هذه الفوضى العارمة، وكانت هذه أول مرة يرى فيها إليانا منشغلة بهذا القدر بشيء ما، برزت لدى فلينت رغبة لمواصلة رؤيتها.

كانت إليانا، بقلم أحمر في يدها، منشغلة بقراءة الأوراق المعلقة على الحائط. لمعت عيناها الزمرديتان الثاقبتان وهي تتصفح المعلومات. كانت تمسح المعلومات غير الضرورية أو الكاذبة، وتُمزق الأوراق بالكامل، وتلصق أوراقًا جديدة عليها، وتهمس كما لو كانت تحفظ. ابتلع فلينت ريقه دون وعي. بدا أنه لو كشف عن وجوده وقاطعها في تلك اللحظة، فلن يكون الأمر على ما يرام بالنسبة له.

“لالان….”

باختصار، توقفت نظرة إليانا الباردة واكتسبت الدفء.

“معذرةً، سموك ماذا، ماذا قلت؟ لالا؟ لالان؟”

لم يفهم بيشوب، الذي كان يدوّن ما قالته إليانا، فسألها مجددًا. كان متوترًا جدًا، لأنه إذا أخطأ وطلب منها إعادة شيء ما، كانت إليانا تنظر إليه نظرة خوف.

“لاحظ هذا الشخص في قسم الكرسي الرسولي من الفاتيكان… لا، مملكة شاراي.”

كان برابرة شاراي قد رسخوا وجودهم كمملكة، واستولوا على أراض لم يطالب بها أحد. وأنهوا نمط حياتهم البدوية الطويلة واستقروا.

“إذا كانت لافرانتي، ابنة الرئيس…..”

“لا يا بيشوب الآن عليكَ أن تقول ابنة الملك شاراي. لقد أسس نظام الدولة بسرعة كبيرة، هل وجدوا مخططًا استراتيجيًا بارعًا؟ لماذا الأمر مختلف…؟”

“نعم، سأؤكد ذلك. إذًا، الأميرة لافرانتي…..”

“الأميرة لافرانتي الأميرة فيفيان. لتُوحّد المصطلحات هكذا.”

سألت جين بحذر.

“إنهما ابنتا الملك، ولكن الأميرة لافرانتي هي أميرة لأنها الوريثة التالية؟”

أومأت إليانا برأسها.

شعر فلینت، الذي كان واقفًا هناك لا يفعل شيئًا، فجأة ببرودة هواء الغرفة. توجه إلى المدفأة وتفقدها. وبالفعل، كانت النيران ضعيفة. أضاف حطبًا ووخز الشبكة بالموقد، مما أدى إلى اشتعال النيران بقوة.

“إن سمح الوقت ابحثوا عن مكان الأميرة لافرانتي. هذه الصديقة تتجول أينما تشاء.”

ضحكت إليانا وحركت القلم.

“يبدو أنه مع الأميرة فيفيان هل يجوز للوريثة فعل هذا ؟ عدد المرافقين 7، هممم 8؟ المعلومات مختلفة.”

“لا تستطيع التوقف عن تجوالها. يبدو أن المزيد من الرفاق قد انضموا إلى لالان في الفاتيكان.”

جين التي استعادت أنفاسها، نظرت إلى فلينت وقالت بحذر.

“صاحبة السمو، لماذا لا ترتاحين قليلاً؟”

ردت إليانا، التي كانت منغمسة في المعلومات ومركزة بشكل كامل، بانزعاج.

“لا يزال الطريق طويلاً. إن كنتِ سترتاحين فاخرجي من هنا، فأنتِ تصدرين ضجيجًا.”