ما إن خرج ليونارد من الغرفة تاركًا فيليسيا مع الطبيب، حتى بدا وجهه عابسًا. وبينما كان يسير في الممر متجهًا إلى مكتبته، تبعه كارتر بخطواتٍ صامتة.
“جلالتك، هل أنت في غاية الانزعاج؟”
“هل عثرتم على الجاني؟”
“في الواقع، لقد اختفى بخفةٍ مذهلة، ولم نتمكن من العثور عليه.”
قبض ليونارد على قبضته بشدة.
“إنها امرأة غريبة حقًا. تبدو شاذة الأطوار، بل وغريبة الطباع، لكنها لا تتردد في إيذاء نفسها من أجلي… والآن تُلقي بنفسها في الخطر لتنقذ حياتي!”
قطّب كارتر حاجبيه، إذ لم يجد تفسيرًا منطقيًا لتصرفات فيليسيا. وكان ليونارد في الحيرة نفسها.
عندما أُصيبت فيليسيا بدلاً منه، غمره الغضب حتى فقد أعصابه وصرخ بلا وعي.
كان الغضب الذي سيطر عليه حينها قويًا جدًا، لدرجة أنه فاجأ نفسه.
“أصدر أمرًا للطبيب بالبقاء على أهبة الاستعداد من أجل فيليسيا.”
“أمرُك، يا جلالة الإمبراطور.”
“لكن ما ذاك الشيء الذي أصابها؟ لم يكن سهمًا على ما أظن.”
عندما سأل ليونارد عن السلاح الذي أُطلقت منه الطلقة على فيليسيا، بدا كارتر متضايقًا لأنه لم يعرف الجواب.
“تحريتُ الأمر في الجوار، لكن لا أحد يعلم شيئًا عن السلاح الذي أُصيبت به الآنسة كليفورد. ذلك الشيء المعدني الصغير… ما عساه يكون؟”
“أياً يكن، فقد أُصيبت فيليسيا. وبما أن الحادثة وقعت في توقيتٍ مقارب لاستدعاء أكيلا، فربما يكون الفاعل هو الشخص نفسه أو أحد تابعيه. ضاعف عدد الحراس المكلّفين بحمايتها، وأوقفهم عن خدمتي.”
أومأ كارتر مطيعًا، لكنه لم يستطع تجاهل القلق الواضح في صوت ليونارد، فقد بدا كأنه يهتم بأمر فيليسيا أكثر مما يقرّ به.
تساءل كارتر لوهلة عن سبب ردّة فعل ليونارد، ثم خلص إلى أنها نابعة من ثقته المتزايدة بها لا أكثر.
***
إمبراطورية أكيلا كانت دولةً بالغة القوة، متقدمة في الثقافة والفنون والعمارة والتجارة والسياحة. وكان ذلك بفضل تفوقها العسكري الهائل.
وسرّ الحفاظ على جيشٍ قوي لا يكون إلا بتقسيم الوحدات وتوفير الدعم الكامل لها.
كانت وحدات الفرسان والمشاة والخيّالة جميعها على مستوى عالٍ من المهارة والكفاءة.
لذا كانت العاصمة كلاتري تشهد كل عام مسابقاتٍ ضخمة مثل مبارزات السيوف وسباقات الخيل ومعارض أدوات السحر، وكانت الجوائز والمكافآت الممنوحة للفائزين مغرية للغاية.
أما فيليسيا، التي دخلت قلب هذه الإمبراطورية العظيمة، فقد كانت الأكثر هدوءًا رغم كونها في عين الإعصار.
مرّ نصف شهر على فشل عملية “الزهرة المتساقطة” في سايفِس، قبل أن تصل إلى كلاتري، حيث مُنحت جناحًا كان مخصصًا لإحدى المحظيات السابقات.
كان المكان فخمًا، تحرسه مجموعة صغيرة من الخدم المدربين جيدًا وثلاث وصيفات، ما عدا أن السيدة التي سكنت هنا من قبل لقيت حتفها في هذا الجناح. ومع ذلك، بدا هذا المكان أفضل ما أقامت فيه على الإطلاق.
“جلالة الإمبراطور قد وصل!”
التفتت فيليسيا إلى الباب حين سمعت صوت الخادمة، وقد رفعت شعرها بإتقان كاشفة عن عنقٍ أنيق. وعندما دخل ليونارد، انحنت له قليلًا في تحيةٍ مهذبة.
وما إن أُغلق الباب وبقيا وحدهما، حتى اتجه ليونارد إلى الطاولة وجلس بهدوء، يتأملها بعينيه.
“كيف حالكِ الآن؟”
كان أول ما سأل عنه هو حالتها الصحية. فمنذ أن أُصيبت بدلاً منه، صار يولِيها اهتمامًا ملحوظًا.
“أنا بخير، لم يكن سوى جرحٍ سطحي.”
“قلتُ لكِ من قبل، حتى وإن كنتِ طُعمًا من أجلي، فلا أسمح لكِ بأن تُصابي أو تموتي بإرادتك.”
شعرت فيليسيا بالتناقض في كلامه، لكنها لم تُعلّق. فأن تكون “طُعمًا” يعني أن تُخاطر بحياتك بطبيعة الحال.
“لا أحب أن يتضرر ما يخصّني.”
“حسنًا، حسنًا. أنا، التي أعتبر ملكًا لجلالتك، سأعتني بنفسي جيدًا.”
ردّت بخفة وهي ترفع كتفيها بلا مبالاة، وقد سمعت تحذيراته تلك أكثر من مرة.
تأملها ليونارد مجددًا، وأغمض عينيه لحظة ثم فتحهما.
“أراكِ وكأنكِ شخصٌ آخر تمامًا بعد بضع ساعات فقط.”
“لهذا السبب لا يسعني إلا أن أكون امرأة مادية تعشق المال.”
ردّت بنبرةٍ مرحة وجلست أمامه بهدوء. ولم يوبخها ليونارد على تصرفها الجريء، بل قابلها بنظراتٍ ثابتة.
“المرأة التي كانت هنا قبلكِ ماتت بعد ثلاثة أيام فقط. قالوا إنها توفيت أثناء تناولها بعض الكعك.”
“تلك الكعكات التي تكون ‘لذيذة حتى الموت’؟ لا تقلق، أنا لا أحب الحلويات كثيرًا.”
“ألستِ خائفة؟”
“هل يجدر بي أن أكون كذلك؟ أم أنك تختبرني الآن؟ لا تقل لي إنك تقلق عليّ؟ هذا لا يشبهك، يا جلالة الإمبراطور.”
ضحك ليونارد بخفةٍ غير مصدّق.
لقد سألها فقط لأن أغلب النساء يخفن من دخول القصر الإمبراطوري. ولم يكن في سؤاله أي معنى خفي. أما سؤاله عن حالها فكان ليطمئن إلى استعدادها.
“يبدو أنكِ لم تفقدي جرأتك حتى هنا.”
“يقولون إن من يتغير فجأة قد اقتربت ساعته، أليس كذلك؟”
“ألا تشعرين أنكِ تدخلين إلى موضعٍ قد يكون مثواك الأخير؟”
“بل أفعل هذا لأجل النجاة. على أي حال، لا تقلق. وإن حدث شيءٌ مخيف، فأرجو أن تكون خلفي لتحميني، أليس من الضروري أن يبقى الطُعم حيًا ليؤدي دوره؟”
ابتسمت ابتسامةً لطيفة، علّها تُخفف أجواء التوتر، لكن يبدو أن سحرها لم يفلح مع ليونارد، إذ تغيّرت ملامحه إلى نفاد الصبر.
“حسنٌ. سأكون خلفكِ ما دمتِ قادرة على البقاء في هذا القصر بسلام.”
“أوه، هل هذا يعني أنك ستخبرني أخيرًا بمضمون الامتحان؟”
تألقت عيناها فضولًا.
“هل تُحبين الامتحانات إلى هذا الحد؟”
“أنا بارعة فيها، سترى بنفسي! سأجتاز هذا بسهولة. إذًا، ما المطلوب مني؟”
“على الأرجح، ستستدعيكِ الإمبراطورة الأرملة غدًا.”
“حسنًا، ثم ماذا؟”
“ستُقرر هي مصيركِ. عليكِ أن تجعليها توافق على بقائكِ في القصر، مهما كلف الأمر.”
قالها وكأنها مسألةٌ صعبة، فاكتفت فيليسيا برمش عينيها دون رد.
“أتشعرين بالخوف الآن؟”
“لا، لستُ خائفة. لكن… أليس هناك المزيد؟”
“ماذا تعنين؟”
“أقصد، أهذا كل شيء؟ الامتحان فقط أن تقبلني الإمبراطورة الأرملة؟”
“نعم.”
“حقًا؟ أهذا هو الامتحان الذي أرعب الناس طوال هذا الوقت؟ كنت أظنه مهمة تطلب قتل أحدهم!”
كان كلامها جريئًا إلى حدٍّ يُمكن أن يُساء فهمه، وكأنها لا تمانع القتل إن أمرها الإمبراطور بذلك.
“انتبهي لكلماتك. ليس في القصر من يتغاضى عن لسانٍ كهذا.”
“لكن جلالتك أنت الأعلى مقامًا هنا، فلماذا أهتم بما يقوله غيرك؟ طالما أنك تتغاض، فالأمر لا بأس به، أليس كذلك؟”
تنهد ليونارد بعمق.
“أبدأ أقلق إن كنتُ محقًا في جعلكِ طُعمًا. أشعر بقلقٍ شديد.”
“لا تقلق! فقط اعتمد عليّ، سأجتاز هذا بسهولة!”
“سهولة؟ هل نسيتِ مكانكِ؟ حتى لو كنتِ محظية، فلا يُسمح إلا لمن تستطيع إنجاب وريثٍ للإمبراطور أن تبقى هنا.”
فالمحظيات يُخترن عادة من أسرٍ نبيلة، جميلاتٍ مثقفات. وكانت الإمبراطورة الأرملة آن ذات معايير صارمة، ترفض أي امرأة لا تستوفي شروطها دون تردد، ولا يعارضها ليونارد في قراراتها.
خاصةً أن فيليسيا، ابنة الكونت من تشيرفيسيا، لا تُعد مثالية لهذا الدور؛ فهي ابنة غير شرعية، قليلة التعليم، ولا تملك سوى جمالها. وربما تُعامَل كفتاةٍ ريفية لا أكثر.
“إذن، ألا يمكن لجلالتك التدخل؟ قول فقط: إنها امرأتي، لا أحد يقترب منها!”
“لن أفعل.”
“لماذا؟ ألم تقول إن رؤيتي مسلّية؟ هذا لا يُكلفك شيئًا!”
“لستُ أراكِ ممتعة إلى ذلك الحد. لا أريد أن أضع نفسي في خلافٍ مع الإمبراطورة الأرملة لأجلكِ. صحيح أن لكِ فائدةً كطُعم، لكن وجودكِ ليس ضروريًا. قيمتكِ عندي لا تتعدى ذلك.”
أي امرأةٍ كانت لتشعر بالألم من هذه الكلمات، وربما بالخوف من قسوته الباردة.
شعرت فيليسيا في تلك اللحظة بأن ليونارد رجل يمكن الوثوق به. فهو لا يلتفّ حول الكلام، بل يواجهها بالحقيقة مباشرة.
لم يُعطِها آمالًا زائفة، بل شرح لها الوضع الحالي بإيجازٍ ووضوح.
كما نبّهها مسبقًا لما قد تواجهه من معاملة على يد الإمبراطورة الأرملة آن، مما جعلها تدرك مسبقًا ما ينتظرها.
بدأت تفكر أنه ربما ليس رجلاً سيئًا كما يبدو، بل قد يكون لطيفًا على طريقته الخاصة.
لذلك قالت بحماسٍ أكبر من المعتاد، وقد انتصبت بثقة:
“حسنٌ جدًا. سأُثبت قيمتي بنفسي. دعنا نُلقِ بالكثير من الطُعم حتى نُغري الفريسة!”
ارتسمت على وجه فيليسيا ابتسامة مشرقة. كانت تدرك أن لقاء الغد سيقرر مصيرها بين الجنة والجحيم، لكنه لم يحدث بعد، فلمَ القلق؟
وفوق ذلك، كانت قد توقعت مسبقًا احتمال وقوع صدام مع من ستكون “حماتها”، وأعدّت لنفسها خطة صغيرة للتعامل مع الأمر.
‘ربما أستطيع أن أكون الطُعم المميز الذي يُعامل معاملة حسنة إن لعبت أوراقي جيدًا.’
راقبها ليونارد بعينيه الضيقتين، وقال:
“يا لها من امرأةٍ عجيبة.”
“عجيبة؟ في ماذا؟”
“وقحة. مهما عشتِ كخادمة ثمانية عشر عامًا، فلا أرى فيكِ أيًّا من فضائل النساء النبيلات. لسانكِ فظّ وتصرفاتكِ طائشة. ألا تدركين أنكِ تزدادين وقاحة تجاهي؟”
“أدرك ذلك. ولو لم أدركه، لما كنتُ هكذا.”
برد وجه ليونارد فجأة، في إشارة إلى أن المزاح له حدود.
لكن فيليسيا رسمت على وجهها ابتسامةً دافئة، تُلطّف الأجواء كما يُخفف الماء الساخن برودة الجليد.
كانت تعلم أنه إن قابلت بروده ببرود، فسيتجمد الجو بينهما تمامًا، لذا حاولت أن تبقي التوازن بلطفها.
هذا نوعها من “فن البقاء الاجتماعي” مع رجلٍ في موقع سلطةٍ مطلق مثل ليونارد.
“أنا أعرف حدّي جيدًا، يا جلالة الإمبراطور. ولو كان كلامي قد أغضبك حقًا، لكنت قتلتني في الحال. كما قلتُ من قبل، أنا شخص يمكنك التخلص منه متى شئت، ولديك العذر الكامل لذلك.”
“وهذا بالضبط ما يجعل تصرفكِ متغطرسًا. أنتِ تعبثين كثيرًا رغم علمكِ أنكِ قد تموتين في أي لحظة. إن كنتِ تفعلين هذا اعتمادًا على أنكِ أنقذتِ حياتي مرة، فأنصحكِ بالتخلي عن هذا التفكير فورًا.”
“إن كنت لا تحب الأمر، فقط قول لي ألا أفعله، وسأتوقف فورًا. ظننتُ فقط أنك استمتعت بوجود محادثة مختلفة قليلًا.”
“هاه.”
تنفّس ليونارد ببطء، دون أن يُبدي ردّ فعلٍ آخر.
“حسنٌ إذن، إن متِّ، فلن يكون ذلك مسؤوليتي.”
“تمام! حتى لو متّ، فلن يكون ذلك ذنبك، لذا نام مطمئن الليلة.”
قالتها بمرحٍ عالٍ، وقد بدا عليها الحماس أكثر من أي وقتٍ مضى، وكأنها تشعر بأن كل شيء يسير لصالحها.
لكن لو كانت الأمور بهذه السهولة فعلًا، لكان العالم أجمل.
فها هي الآن تجلس أمام الإمبراطورة الأرملة آن، في قاعة استقبالٍ يكسوها الجليد.
كان الجو أشبه بحفل استقبال طلابٍ جدد في الجامعة، لكنه من النوع الذي يُراد به “سحق” القادمين الجدد لا الترحيب بهم.
كانت الأجواء تنضح بعزمٍ واضح على إذلالها.
جلست حولها بنات النبلاء في صفٍّ دائري، يحيطن بها كما لو كنّ صيّاداتٍ يحاصرْن فريسة. كلهنّ في أجمل حُللٍ فاخرة، بفساتين متألقة وأناقةٍ لافتة.
حتى إن بعضهن كنّ أجمل بكثير منها، ونظراتهن المتعالية لم تُخفِ ازدراءهن لها.
شعرت فيليسيا أن جميع العيون تحدق فيها بغلّ، باستثناء عينين فقط…
كانت لامرأةٍ في سنٍّ قريبة من سنّ الإمبراطورة الأرملة، لكن ملامحها كانت دافئة ووديّة، وعيناها تضحكان بلطف عندما التقتا بعيني فيليسيا.
لاحقًا، عرفت فيليسيا أن اسمها “دانا هولاند”، وهي المرضعة التي ربّت ليونارد بنفسها، وأرضعته، واعتنت به حتى بلغ الخامسة، وتُعاملَه كابنٍ حقيقي لها.
ويقال إن ليونارد يُكرمها كثيرًا، ولهذا تعيش داخل القصر الإمبراطوري نفسه.
“سمعتُ أنكِ كنتِ تعملين خادمة في قلعة تشيرفيسيا؟ لا بد أنكِ مررتِ بأيامٍ شاقة.”
قالت الإمبراطورة الأرملة آن موجّهةً الحديث إليها.
لم يبدُ بين آن وابنها شبهٌ كبير، سوى ملامح الجمال التي ورثها عنها.
لكن رغم ذلك، لم تستطع فيليسيا أن تشعر بأي تشابهٍ في الروح أو الهالة بينهما.
فالناس غالبًا ما يتشابهون مع عائلاتهم في الجوّ أو الحضور، لا في الشكل فقط، أما هنا، فقد تساءلت فيليسيا بدهشة:
‘كيف أنجبت هذه المرأة ابنًا مثل ليونارد؟’
في المقابل، كانت “دانا” تشبه ليونارد أكثر في هالة الرحابة والدفء، ففهمت فيليسيا على الفور من سيكون في صفّها.
“شكرًا لك على اهتمامك.”
قالت فيليسيا بانحناءةٍ محترمة بعد أن تفحّصت الموقف بدقة.
لكن ردّها أثار همساتٍ جانبية بين الفتيات الجالسات، وبدأت كلٌّ منهن تهمس في أذن الأخرى:
“كم هي عديمة اللباقة!”، “يا لسلامها السخيف، لا تعرف حتى كيف تُحيي النبلاء!”
ولأن الهمسات تُقال بصوتٍ خافت في مكانٍ ساكن، فقد سمعت فيليسيا كل كلمةٍ بوضوح.
ويبدو أن تلك الهمسات أرضت الإمبراطورة الأرملة، إذ تابعت بطرح سؤالٍ آخر…
“ألم تعاني من أي صعوبات خاصة أثناء عملك كخادمة؟ إن جلالة الإمبراطور كان منذ صغره يفيض بالرحمة على البائسين والتعساء.”
وأثناء قولها ذلك، ألقت الإمبراطورة الأرملة آن نظرة خاطفة نحو دانا.
ولما شعرت دانا بتلك النظرة، ارتسمت على شفتيها ابتسامة محرجة خفيفة وأطرقت بنظرها إلى الأرض. غير أن الإمبراطورة الأرملة واصلت الحديث رغم علمها بأن كلماتها تلك قد تجرح دانا.
“حتى بعد أن أصبح بهذا العمر، لم يستطع التخلص من تلك الطبيعة الضعيفة. كأم، لا يسعني إلا أن أقلق عليه كثيراً.”
كانت كلماتها هذه تربط فيليسيا ودانا معاً، وتضعهما ضمن فئة ‘البائسات والتعيسات’. لم تكن تمدح شفقة ليونارد، بل تذمه بها.
لكن فيليسيا صفّقت بخفة مبتسمة وقالت:
“حقاً، جلالته واسع القلب. لقد احتواني، أنا التي كنت لقيطة وخادمة.”
كانت تعلم جيداً ما الذي ترمي إليه الإمبراطورة الأرملة، لكنها تعمدت الخروج عن الموضوع.
أما سيدات النبلاء فغطين أفواههن بمراوحهن وبدأن يتهامسن بأنها وقحة، وتجهل مكانها، ولا تعرف الخجل. عندها ارتسمت على شفتي الإمبراطورة الأرملة ابتسامة مصطنعة خفيفة، وضحكت بخفة.
“يا لها من فتاة طيبة القلب. يبدو أن سنوات عملك الطويلة كخادمة جعلت التملق يجري في عروقك.”
“أشكركِ على المديح. أشعر بالراحة لأن جلالتكِ تنظرين إليّ بعين الرضا.”
كانت فيليسيا قد خشيت لقاء الإمبراطورة الأرملة طوال الوقت، لكنها الآن تبتسم وكأن خوفها تبدد تماماً.
“إلى متى تنوين البقاء في القصر الإمبراطوري إذن؟”
“ما دمت لا أملك حق القرار، فسأبقى حتى يأمرني جلالته بالمغادرة.”
وبينما كانت فيليسيا تلتف خجلاً، بدا ذلك وكأنه أثار ضيق الإمبراطورة الأرملة أكثر.
والأمر ذاته انسحب على السيدات الأخريات، فالإمبراطور كان قد تزوج إمبراطورة واتخذ عدداً من المحظيات، لكنه لم يلقِ بالاً لأي امرأة أخرى.
لكن أن يُحضر من الريف فتاة مثلها، ويبدو أنه يحبها كثيراً، فقد أثار ذلك في قلوبهن نار الغيرة، فاحمرّت وجوههن جميعاً.
أما الإمبراطورة الأرملة فغضبت أكثر من أيٍّ منهن، واتسعت عيناها غضباً.
“هذا يعني أنك لا ترغبين في البقاء قرب جلالته، لكنك مجبرة على ذلك؟”
أطرقت فيليسيا بنظرها بحرج، لأنها إن ردّت بأي كلمة فستُؤخذ عليها، فاختارت الصمت.
وبينما كانت السيدات يوافقن الإمبراطورة الأرملة، تهامسن مجدداً: “إن كانت تكره المكان، فلتغادره!”
“لماذا لا تتكلمين؟ إن كان هذا هو شعوركِ حقاً، يمكنني أن أرتب لكِ مكاناً آخر تعيشين فيه بعيداً عن العاصمة.”
كان صوت الإمبراطورة الأرملة مليئاً بالرغبة في إبعاد فيليسيا عن القصر.
“حقاً؟”
رفعت فيليسيا رأسها بدهشة، تتلألأ عيناها.
“فجلالته لن يُبقيكِ إلى جواره طويلاً. أنا، كأمه، أعرفه جيداً. الآن يحتضنك بدافع الشفقة فقط، لكن إلى متى تظنين أن هذا الشعور سيدوم؟”
لم تشعر فيليسيا إلا وهي تهز رأسها موافقة، وكأنها اقتنعت بكلمات الإمبراطورة الأرملة، فتابعت الأخيرة مستغلة الفرصة:
“سمعت أن لقب الكونت كليفورد قد انتقل إلى أحد الأقارب. وإن عدتِ إلى قلعة تشيرفيسيا، فلن تجدي من يحميكِ. لكن إن رغبتِ، سأمنحكِ مكاناً هادئاً وهواءه نقي، لتعيشي فيه دون عناء.”
“أ-أنعم جلالتكِ عليّ بهذا الكرم؟ لا عجب أن جلالته يشبهكِ كثيراً، فكل منكما طيب وعطوف.”
“أترين؟ هاها. آلي، أحضري اللوحة.”
أمرت الإمبراطورة الأرملة وصيفتها التي تُدعى آلي بما كانت قد أعدته مسبقاً.
فجاءت آلي تحمل لوحة وقدمتها، لكن الإمبراطورة الأرملة أشارت إليها أن تعطيها مباشرة لفيليسيا.
وبين يدي فيليسيا كانت لوحة لرجل في منتصف الأربعينيات بملامح عادية.
“إنه البارون سيدريك وينستر. توفيت زوجته مؤخراً بسبب المرض، وهو رجل مخلص للأسرة الإمبراطورية، ويملك إقطاعية في مكان هادئ ونقي الهواء.”
“أها، فهمت. ولكن، لماذا تُريني جلالتكِ صورته؟”
“إنه الرجل الذي ستتزوجينه.”
“ماذا؟”
“لقد تحدثت معه، وقد وافق بسرور على الزواج منك. وهو يعلم أنكِ كنتِ خادمة وأنك بلا مهر، وقد تفهّم الأمر. إنه رجل جيد.”
كانت الإمبراطورة الأرملة قد رأت أن تزويج فيليسيا للبارون وينستر هو الحل الأمثل؛ فهو يبعدها عن ليونارد ويضمن لها حياة مستقرة.
“أشكركِ جلالتكِ. لم أتخيل أنكِ ستفعلين كل هذا لأجلي.”
خفضت فيليسيا جفونها، بدت رقيقةً جداً.
“إذاً، فلنُعجّل بزواجكِ. اصعدي إلى العربة التي أعددناها واذهبي حالاً إلى البارون وينستر.”
“جلالتكِ، أرغب بذلك، ولكن…”
بدأت ملامح الغضب تظهر على وجه الإمبراطورة الأرملة، وقد أدركت ما ستقوله فيليسيا.
“أتنوين رفض كرمي؟ أتظنين أنكِ ستعيشين بأمان في هذا القصر بعد ذلك؟”
صرخت الإمبراطورة الأرملة بغضب، وكان صوتها حاداً مليئاً بالحنق.
“حاشا لي. كيف أرفض كرم جلالتكِ؟”
“إذاً لماذا تريدين الرفض؟”
“عشرة أشهر فقط… ألا يمكنكِ الانتظار عشرة أشهر؟”
“عشرة أشهر؟”
ارتسمت الدهشة على وجه الإمبراطورة الأرملة، ثم سرعان ما شحب لونها.
وانتقلت أنظار الجميع إلى بطن فيليسيا.
فبادرت فيليسيا إلى وضع يدها على بطنها بخفة.
“حالما ألد الطفل بسلام، سأغادر إلى أي مكان تأمرينني به.”
“أ-أنـتِ… أنتِ! آه!”
صرخت الإمبراطورة الأرملة، ثم فقدت وعيها وسقطت مغشياً عليها. أما السيدات الأخريات فدهشن بشدة حتى جمدت ألسنتهن.
أما فيليسيا، فكانت تُخفي خلف ملامح القلق ابتسامةً ماكرة، فهي تعلم أن الطفل هو السلاح الأقوى أمام أي زواج ترفضه.
“جلالتكِ؟! ما العمل؟! أسرعن وأحضرن الطبيب!”
صرخت فيليسيا مذعورة، فتحركت آلي على الفور، وسارعت الخادمات لنقل الإمبراطورة الأرملة إلى سريرها.
وسط تلك الفوضى، كانت فيليسيا قد وجدت الفرصة لتثبت وجودها في القصر الإمبراطوري.
وبعد أن أُغمي على الإمبراطورة الأرملة، اضطرت فيليسيا إلى مغادرة جناحها. وبينما كانت تسير نحو قصر الحريم، ظهرت دانا قادمة نحوها.
وما إن وصلت إليها حتى أمسكت بيدها بحرارة، واغرورقت عيناها بالدموع.
“تحملين حياة ثمينة في أحشائك؟”
ذرفت دانا دموع الفرح، ونظرت إلى فيليسيا بعينيها الكهرمانيتين المليئتين بالمودة. كانت أقصر من فيليسيا، لكن دفء يدها جعل قلبها يلين.
“لقد أنجزتِ أمراً عظيماً.”
لم تستطع فيليسيا سحب يدها، رغم أنها عادة لا تحب أن يلمسها أحد.
وبينما بقيتا متشابكتين، مسحت دانا دموعها بظهر يدها، وربتت على يد فيليسيا برفق.
“جلالته قد وهبكِ أول حبٍّ في قلبه.”
راقبتها فيليسيا بصمت، وهي ترى دانا تغالب مشاعرها الجياشة.
“منذ صغره، كان جلالته مختلفًا عن الآخرين. جلالته لا يحب لمس الناس أو الاقتراب منهم. وأنا ممتنة للغاية لآنسة نالت ثقته الثمينة بل وحملت حياةً عزيزة منه.”
شعرت سيا وكأنها تستمع إلى قصة تخصها، فأحست ببعض الألفة تجاه ليونارد.
تساءلت في داخلها: ‘ما الذي جعله يحمل كل هذا الشك ويتجنب الآخرين؟’
من المؤكد أن وراءه قصة معقدة جعلته هكذا قبل أن يصبح إمبراطورًا.
“أعلم أن بكائي المفاجئ قد لا يكون مفهومًا، إنه تصرف غير لائق.”
“ليس كذلك. إنك تفعلين هذا لأنك تفكرين بجلالته بإخلاص.”
“أنا أقلق بشأنه رغم أن ذلك قد لا يكون من شأني. جلالته، منذ صغره، لم يكن يستطيع تجاهل أي شخص يعاني. هكذا كان دومًا. لكن… الإمبراطور الراحل كان يعامله ببرود شديد…”
توقفت دانا عن الكلام قبل أن تتابع الحديث عن الأمور المظلمة.
“من الواضح أن جلالته يقدّركِ. ومهما قال الناس، فأنتِ امرأة جلالته. إن واجهتِ أي صعوبة، تعالي إليّ. سأساعدكِ قدر استطاعتي.”
تحدثت دانا بحماسة صادقة ورغبة حقيقية في مساعدة سيا. فابتسمت سيا وهي تنظر إليها.
“سآتي قريبًا لزيارتكِ رسميًا. حينها أرجو أن تخبريني كثيرًا عن طفولة جلالته.”
“حقًا؟ إذن عليّ أن أجهز بعض الحلوى اللذيذة.”
ابتسمت دانا وهي تُظهر أسنانها، وغادرت سيا عائدة إلى جناح الحريم وهي تشعر بترحيب دافئ لم تشعر به حتى من الإمبراطورة الأرملة آن.
بعد مرور نحو ساعة فقط على إغماء الإمبراطورة الأرملة آن،
انتشر خبر حمل سيا في العاصمة كلاتري حتى لم يبقَ أحد لا يعرفه.
ووصل الخبر أيضًا إلى ليونارد، وبعد عودة سيا إلى غرفتها، جلست تواجه نظراته الحادة عبر الطاولة.
وخارج جناحها في الحريم، كان الحرس الشخصي والخادمات والطبيب بانتظار الدخول.
لولا أن ليونارد وصل إلى جناحها أولًا، لكانت قد خضعت لفحص الطبيب، وبسبب كذبها، كانت ستُطرد من القصر الإمبراطوري أو حتى تُعدم بتهمة العصيان.
“لم أكن أعلم أنكِ تملكين مثل هذه المهارة.”
قال ليونارد بعد صمت طويل، بصوت بارد لكنه ينطوي على سخرية خفية.
لو لم تكن هي صاحبة الكذبة، لكانت ربما ضحكت على الموقف أيضًا.
“أن تنجحي في الحمل دون أن تمضي ليلة معي؟ تمتلكين موهبة مريحة حقًا. لو كنت أعلم بامتلاكك لها، لأبقيتكِ بجانبي منذ البداية.”
استمعت سيا إلى كلماته الساخرة وابتسمت كأنها لا تفهم شيئًا.
كانت تتمنى لو امتلكت حقًا مثل هذه القدرة، لكن لسوء الحظ، لم تكن لديها.
تابع ليونارد كلامه دون أن ينتظر ردها، بصوت قاسٍ:
“رائع حقًا. أرسلتكِ لتحصلي على اعتراف الإمبراطورة الأرملة، فإذا بكِ تُفقدينها وعيها. والآن تقولين إنكِ حُملتِ دون أن تمضي ليلة معي؟ هل تنوين إسقاطي أنا أيضًا بعدها؟ على ذاك السرير؟”
نظرت سيا إلى السرير الكبير أمامها.
وعرفت أن الشيء الوحيد الذي يمكنها فعله فوقه لإسقاط ليونارد هو شيء واحد فقط.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات