بعد أن تركت فراشها المثقل بالمرض، نهضت فيليا بخطوات مترددة، بينما سارعت يوري لمساعدتها على التهيؤ. ارتدت فستانًا قرمزيًا بأكمام طويلة، ورفعت شعرها بعناية إلى أعلى رأسها، متجاهلة الضعف الذي لا يزال يسكن أطرافها. لم يعد لديها متسع من الوقت؛ فلم يتبقَ سوى وقت قصير حتى يصل لوسيو وفينياس، وهي لم تفتح عينيها منذ يومين كاملين. حين خرجت من جناحها، وجدت روف واقفًا بانتظارها عند المدخل، كأنه ظلّها المخلص. انحنى بخفة قائلاً بصوتٍ خافت: “أميرة… يؤسفني ما مررتِ به، لكنني سعيد لرؤيتكِ متعافية.”
دهشت من ملامحه القلقة، وكذلك من يوري. كان غريبًا كيف علقت مشاعرهم بها بهذه السرعة، وكأن مرضها القصير قد ألقى بظلاله على القصر كله. لم تكد تخطو خطوة أخرى، حتى اخترق صوت مألوف صمت الممرات. جاء نيكولاي مسرعًا، وكأنما كان يراقب الباب منذ زمن: “سموكِ، أتفكرين بالخروج حقًا؟ أنتِ بحاجة إلى الراحة!”
ارتفع حاجباها بدهشة، فأجابته بصرامة ونعومة في آنٍ واحد: “لقد نمتُ يومين متواصلين، لا أريد أن أكون سجينة فراشي أكثر من ذلك. هناك الكثير من التحضيرات… وعليّ الحديث مع جلالته أيضًا.”
قال نيكولاي وقد بدا عليه الاضطراب: “لكن جلالته لم يعد بعد من المعبد. أرجوكِ ارتاحي، وحين يعود سآخذكِ إليه بنفسي.” بدت المجادلة بينهما مشهدًا طريفًا أمام روف ويوري وحراس الباب، وكأنهم يشاهدون لعبة شدّ حبل صغيرة بين إرادة أميرة وحرص الوزير. قالت بعناد خافت: “أخبرتك، لا أريد النوم مجددًا.” زفر نيكولاي مستسلماً: “حسنًا… حسنًا، كما تشائين.” وبذلك، وجدت نفسها تسير وسط الحديقة، يرافقها نيكولاي بخطوات يقظة، بينما تبعهما روف ويوري. تلك الحديقة التي انهارت فيها ذات ليلة أمام الإمبراطور، ها هي اليوم تعيدها إلى الحياة. الأشجار تتمايل برفق، الأزهار هناك لم تكن مجرد زينة، بل قصائد صامتة بألوان مختلفة: زنابق بيضاء تتفتح كالحرير، ورود عميقة الحمرة تفوح بعطرها الحاد، وخزامى بنفسجية تملأ الجو بعبير هادئ يبعث على السكينة. وعلى الأطراف نبتت زهور نادرة ذات ألوان متدرّجة كاللهب، كأنها شعلات صامتة في تربة مظلمة. في مركز الحديقة، ارتفعت نافورة مرمرية هادئة، تمثالها يصوّر امرأة فاتنة تحمل جرةً من حجر صُبّت منها المياه في انسياب رقيق، تصدر خريرًا يذوب في الأجواء. قطرات الماء اللامعة بدت كجواهر متناثرة حين يلامسها الضوء، تنعكس على أوراق الأشجار كأحجار كريمة مرصوفة في الطبيعة قالت وهي تتأمل المشهد: “يبدو أن جلالته يحرص كثيرًا على جمال الحديقة.” أجاب نيكولاي بفخر: “بالتأكيد، لكنها في الحقيقة تحت إشرافي المباشر.”
ثم التفت إليها بسؤال بدا عابرًا لكنه يحمل اهتمامًا: “هل تشعرين بالراحة في القصر المنفصل، سموكِ؟”
أجابته وهي تلوّح بيديها بسرعة، وكأنها تخشى أن يسيء الفهم: “كلا، بل على العكس. القصر هادئ وألوانه تبعث على السكينة، بل وحتى وضعتم زهرة الدلفينيوم التي اعتادت تزيين قصر أندروميد.”
رفع نيكولاي حاجبيه بدهشة حقيقية: “زهرة… دلفينيوم؟ لم أضع مثلها هناك قط.” شحب وجهها قليلًا ثم قالت بتردد: “مع ذلك، وجدتها في القصر. لكنها… ليست زهرتي المفضلة. إنها الزهرة الخاصة بالإمبراطورة روزنيت.”
تبدل وجه نيكولاي على الفور، وأسرع بالاعتذار: “يا للأسف! لم يكن ينبغي أن يحدث هذا. سأتولى إزالتها فورًا.” أجابته فيليا على عجل: “لا! لم أقصد التوبيخ… لقد فاجأني الأمر فقط.” لكن نيكولاي بدا أكثر إصرارًا: “بل كان يجب أن ننتبه، سموكِ. سأكلف ديلان بهذا فورًا.” تنهّدت فيليا وقد شعرت بالحرج: “شكراً لاهتمامك… لم أقصد شيئًا.”
أطال نيكولاي النظر إليها. في عينيه سؤال صامت: لماذا تبدو متوترة إلى هذا الحد؟ لماذا تتحدث وكأنها تخشى أن تُثقل على الآخرين؟ همس بصوتٍ جاد: “سموكِ، أنتِ الإمبراطورة المستقبلية. القصر وما فيه حقكِ، وليس عليكِ أن تترددي في قول ما ترغبين.” ابتسمت ابتسامة واهنة وقالت: “أنا مدركة لمكانتي جيدًا… لكنني أيضًا أدرك الصراع بين أندروميد وهذه الأرض. لا أستطيع أن أتصرف بحرية كاملة دون أن أفكر بالعواقب.”
ساد بينهما صمت ثقيل، لا يقطعه سوى خرير الماء في النافورة. ثم قالت فجأة: “هل يزور جلالته المعبد بانتظام؟” انفرج وجه نيكولاي قليلًا وهو يجيب: “نعم، يسعى للالتزام بذلك. كان من المفترض أن يذهب الليلة الماضية، لكنه بقي هنا بسبب مرضكِ… لم يغادر حتى استقرت حالتك.” ارتجف قلبها بخفة عند سماع ذلك، وفكرت: لو لم يقل هذا، لكنتُ صدقت أن ريموند ذهب ليتجنبني… قال نيكولاي وهو يزفر ببرود: “الآن عليكِ فقط أن تستريحي حتى يحين وقت النقاش بشأن استقبال الأمير لوسيو… والدوق فالنتينو.”
ذلك الاسم الأخير وقع في أذن فيليا كجرس إنذار. رأت كيف تغيّرت نبرة صوته فجأة، وأحست بقلق جديد يتسلل إليها. الجميع بلا شك يشعر بثقل قدوم فينياس… وهي أكثر من يعرف أي معنى يخبئه وجوده هنا. ______
حلّ ظلام الليل، وغرقت القاعات في سكون ثقيل لا يقطعه سوى أنفاس الريح خلف النوافذ. وقفت فيليا عند زجاج نافذتها، تنظر إلى الخارج حيث لم تعد ملامح الحديقة واضحة؛ كل شيء غمره العتمة حتى بدت الأشجار كظلالٍ متشابكة. عندها فقط لاحظت العربة الإمبراطورية الضخمة وهي تقترب، وعجلاتها تلمع كجمرٍ في ظلام الطريق. توقفت، وترجّل ريموند. كان وجهه صارمًا، ملامحه جامدة كالرخام، ومع ذلك فقد بدا أكثر كآبة من المعتاد. للحظة رفع رأسه، وفي انعكاس الصدفة التقت عيناه بعينيها. نظرة قصيرة، متوترة، لكنها عميقة بما يكفي لتترك أثرًا غامضًا. وكأنّ شيئًا خفيًا تسرّب بينهما في تلك اللحظة العابرة.
وما إن أدرك كلاهما ذلك حتى تراجعا فورًا: هي انسحبت خجلة من أن يُظن بها التلصص، وهو صرف بصره مثقلاً بأفكارٍ متزاحمة؛ أولها عجزه عن الإمساك بها حين سقطت، وثانيها طيفُ أشقاء سيرافين الذين لا يكفّون عن مطاردة ذهنه دخل القصر بخطوات مسرعة، وكان ديلان بانتظاره على الفور. انحنى قائلاً: “سموك، هل أُحضّر لك حمامًا؟” أومأ ريموند باقتضاب: “نعم… وأبلغ الأميرة أنني أود دعوتها لشرب الشاي، فهناك ما ينبغي مناقشته.”
انحنى ديلان ثانيةً وهو يجيب: “حسناً، حالًا.” ثم أسرع يعدّ ما طُلب منه. غاص ريموند في الحوض الحجري الكبير، وما إن لامست المياه الدافئة جسده حتى بدأ صداعه يخفت تدريجيًا، كضبابٍ يتلاشى. أسند رأسه إلى حافة الرخام وحدّق في سقف الغرفة المزيّن بالنقوش الباهتة، غارقًا في تأملٍ صامت. لوسيو… وفالنتينو… لا، لن يصلا هذه الليلة. على الأرجح غدًا مع الصباح، إن سارت الأمور كما ينبغي. مدّ يده إلى رأسه يفرك صدغيه، لكن أفكاره خانته، إذ ارتسمت في مخيلته صورة فيليا خلف النافذة. الفستان القرمزي الذي ارتدته بدا وكأنه يشعل حمرة عينيها، بشرتها هذه المرة أكثر صحة بعدما غلب عليها الشحوب أيامًا مضت.
لاح طيف ابتسامة مرتاحة على وجهه دون أن يدرك، ثم تردّد مجددًا المشهد: شعرها مرفوع يكشف عن عنقها الأبيض الطويل. ارتبك، وصفع وجنتيه براحة يديه، كمن يفيق من سُكرٍ عابر. بحق الجحيم، لمَ ألاحظ مثل هذه التفاصيل التافهة؟ ما الذي يجعلها ذات أهمية؟
———-
كانت الدعوة قد وُجِّهت باسم الإمبراطور، لكن الغائب هو ذاته. في غرفة الاستقبال، كانت الطاولة المستديرة في الشرفة قطعة فنية بحد ذاتها، سطحها من خشب داكن لماع، محاط بحواف منحوتة بدقة على شكل أوراق غار متشابكة. في وسطها وُضع مفرش دانتيل أبيض ناعم، كأنّه غيمة صغيرة تستقر فوق الخشب. أُحضرت أطباق خزفية رقيقة، يزين حوافها خيط ذهبي رفيع، عليها صفوف مرتبة من الكعك شملت قطع صغيرة من كعك الليمون المغطاة بطبقة سكرٍ كريستالي لامع، تارت بالفواكه الموسمية، تزيّنها حبات توتٍ أزرق وكريز أحمر يقطر بعصيره، كعكات إسفنجية خفيفة محشوة بالكريمة البيضاء، تقطعها طبقات مربى المشمش. أما الشاي، فقد كان في إبريق فضي مصقول يلمع تحت ضوء الشموع، بقبضة منقوشة بأشكال لولبية دقيقة، يُخرج بخاره برائحة أوراق شاي سوداء ممزوجة بلمسة هادئة من البرغموت. الأكواب أمامهما كانت من خزف شفاف مزخرف برسمات أزهار بنفسجية، دقيقة حتى بدت كأنها مطبوعة بلمسة يد رسام. كل تفصيل في المكان كان يهمس بالرقي؛ حتى الهواء العابر من الشرفة بدا وكأنه يحمل العطر مع بخار الشاي ليزيد الجو دفئًا ، غير أنّ صاحب الدعوة لم يحضر بعد، فبقيت فيليا وحدها، تنتظر بصمتٍ متوتر، يساورها القلق: هل استُدعيت لتُبلغ بأن الزواج سيلغى؟ أم أنّ الأمر يتعلّق بزيارة أخيها وفينياس؟ القاعة كانت فارغة، حتى روف ويوري لم يُسمح لهما بالدخول.
ذلك الفراغ الموحش جعل قلبها يخفق أكثر، وأفكارها تتسابق: هل يُعقل أن يكون الزواج على شفا الانهيار؟ لكن… إن أُلغي، فسيُعقد مع هوغو، لا مع ريموند نفسه. أليس كذلك؟ قاطع ارتباكها صوت الباب وهو يُفتح، فنهضت على الفور.
دخل ريموند بخطوات هادئة، مرتدياً قميصًا من الكتان الأسود، مفتوح الياقة قليلًا بلا أزرار ولا تطريز. أكمامه طُويت حتى منتصف ساعديه، فبانت يدان قويتان تحملان أثر السيف والسيادة. بنطاله الثقيل كان بسيطًا لكنه أنيق، مشدودًا بحزام جلدي تعلقت به قطعة معدنية منقوشة بشعار العائلة الإمبراطورية. أما حذاؤه الجلدي، فبدا امتدادًا لصمته وهيبته معًا. لم يحتج إلى تاج أو وشاح؛ حضوره وحده كان كافيًا ليملأ القاعة بالوقار. انحنت فيليا بسرعة وهي تمسك بطرف فستانها: “سموك…”
لكن صوته القوي جاء ليكسر حدة الموقف: “أوه، لا حاجة لكل هذه الرسمية، سموكِ. لسنا في قاعة الاجتماعات.” تلاشت صرخة القلق التي كانت تتردّد في داخلها، فلو كان الأمر إلغاء الزواج لما استقبلها بهذه اللهجة الهادئة. جلست مترددة، ثم جلس هو أمامها عند الطاولة المستديرة الصغيرة التي تفصل بينهما.
كانت جلسة أشبه بموعد شاي في شرفة خاصة، بعيدة كل البعد عن صرامة الموائد الطويلة في القاعات الرسمية. قالت بخفوتٍ مرتبك: “سموكَ هو من استدعاني؟” “نعم، هناك أمور كثيرة لنناقشها.” كان يتحدث وهو يرفع الإبريق بنفسه ليصبّ الشاي. بدا المشهد غريبًا عليها؛ فقد سبق أن علّق بأن على الخدم القيام بمثل هذه الأمور، والآن هو من يسكب بيده. “سموك! لماذا لا يوجد أحد ليقوم بذلك؟” رد ببرود: “أنا من أخبرتهم بعدم الدخول.” تزايد توترها. أجوبته مقتضبة، وصوته بارد، وعيناه لا تلتفتان إليها. وضَع الكوب أمامها، فتمتمت محاولة كسر الصمت: “كان من المفترض أن أكون أنا من يدعوك للشاي، لا العكس.” كلماتها، التي قصدت بها تلطيف الجو، جعلت ملامحه القاسية تلين قليلًا، فأومأ برأسه بابتسامة خافتة: “
من كان ليتوقع أن تصل الأمور إلى هنا؟” ثم عاد يسأل، بصوت منخفض، متجنبًا النظر إليها مباشرة: “هل الأميرة بخير؟” اعتدلت وقالت بحزم: “نعم، سموك. أنا بخير، وأشكرك على اهتمامك.” لكنّ رده جاء محمّلًا بما لم تتوقعه: “أخشى أنني لم أُعطِ الأميرة ما يكفي من العناية… ربما لم يرق لها الجو هنا. إن كان الأمر كذلك، فأنا أعتذر.” تسعت عيناها دهشة، لم يكن هذا ما توقعت سماعه. هزّت رأسها بسرعة: “على العكس، سموك. أنا مرتاحة حقًا في القصر، فلا داعي للقلق.” ابتسم بارتياح، كأنه تخلص من حملٍ خفي. لكنها بادرت بصوت مرتجف: “هل فعلتُ شيئًا خاطئًا؟”
كاد يختنق بشايه، وأجاب متوترًا: “ماذا؟! ما الذي يدفع الأميرة لمثل هذا الظن؟” خفضت بصرها وقالت: “فقط… تساءلتُ إن كنتُ قد تصرفتُ بشكل مسيء، أو إن سقوطي جعل الإمبراطور يظن أن بي علة ما.” أجاب سريعًا: “مستحيل!” رفعت نظرها نحوه: “إذن، لماذا لا تنظر إليّ، سموك؟” تجمّد للحظة، وقد باغته سؤالها. لم يكن يقصد، ومع ذلك لم يجد مفرًا من الاعتراف: “أنا فقط… أشعر بالخزي لأنني لم أستطع الإمساك بكِ حين سقطتِ.” توسعت عيناها في ذهول: “ماذا؟” لم يخطر لها أن هذا السبب وراء تجنبه، فأسرعت تقول: “سموك، لا داعي لهذا. لقد كان الأمر مفاجئًا، ومن الطبيعي أنك لم تتدارك الموقف. ثم إن روف كان هناك وأنقذني، ولم يحدث أي سوء.”
أطرق رأسه قليلًا، وأجاب بصوت خافت: “مع ذلك، أشعر بالعار أمامكِ.” ابتسمت بارتباك وقالت: “بل أنا من عليّ أن أخجل، لأنني سببت مشهدًا محرجًا أمام الجميع. مجرد التفكير بالأمر يجعلني أحتقن خجلًا.” ضحكت مازحة، فانكسرت الجدية التي خيّمت بينهما، وانعكس على ملامحه هو أيضًا شيء من الحنو. قال بابتسامة: “… الأميرة لا يمكن أن تبدو بشكل محرج أبدًا، مهما كان الموقف.” بدا جوابه غريبًا بعض الشيء، لكنه بدّد التوتر، وترك بينهما لحظة دافئة نادرة. ومع ذلك، كان لا بد أن يأتي النقاش الأهم… عن لوسيو وفينياس. يتبع…
بقلم: ميف حسابي على الانستا: @jojochi02_
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 16"