لمعت عينا ريموند الزرقاوان ببرود وهو يقرأ بصوتٍ يكاد يختفي بين جدران القاعة: “عزيزتي فيلي، لا أعرف أيَّ خوفٍ اجتاحكِ في تلك اللحظة، ولا أجرؤ حتى على تخيّله. لكنني أوصلت رسالتكِ إلى والدي روزي، وأما روديون… فلا يملك عائلة تسأل عنه. فلترقد أرواحهما بسلام.”
بدت الرسالة في بدايتها خالية من الغموض، بلا شيفرات ولا ألغاز، حتى أكمل القراءة وفتح عينيه على السطور التالية: “غير أنني لا أستطيع ترك الأمر يمر مرور الكرام. قررتُ المجيء لرؤيتكِ في روفيل… ولن أكون وحدي. فالدوق فالنتينو أصرَّ على الحضور معي، إذ يبدو أنّ قلقه عليكِ أشدّ من أن يُخفى. رأيت أن أُخبركِ مسبقاً حتى تستعدي، مع كامل محبتي… لوسيو أوردو دي أندروميد.”
انعقد حاجبا ريموند بتوجّسٍ خفي، لكن سرعان ما أخفى انزعاجه. لم يكن يملك الحق في رفض ذلك، فالهجوم المباغت الذي تعرضت له الأميرة كان كفيلاً بهزّ أي قلب، ومن الطبيعي أن يشكّ شقيقها بزواجها وبحياتها. في الواقع، كان ردّ فعلهم أكثر هدوءاً مما توقعه ريموند؛ فقد ظنّ أنهم سيُشعلون حرباً دفاعاً عن الأميرة المحبوبة.
ومع ذلك، لم يستطع تجاهل ما أثار قلقه: الدوق فالنتينو. لماذا يأتي هو أيضاً؟ ألم يستلم دوقيته منذ عامٍ واحد فقط؟ أليس مثقلاً بالمسؤوليات؟ بل إنه لا يشارك الأميرة حتى بقطرة دمٍ واحدة، فما الذي يدفعه ليترك أراضيه ويقطع هذه المسافة؟ هل بلغ قربه من الأميرة حدّ أن يتخلّى عن كل شيء لأجلها؟ أم أنّ وراء حضوره خيطاً آخر لا يُرى… مصلحة خفية تتقنّع بالقلق؟
ارتجف فكر ريموند تحت وطأة هذه الأسئلة، واشتد الصداع في رأسه. لم يعد واثقاً بأحد… حتى الأميرة نفسها، ببراءتها التي تبدو نقية حدّ الإزعاج. ربما لم تكن سوى قناع. ربما كانت تلعب لعبتها لتكسب ثقته، مستغلةً هدوء العداء الذي لم يخمد بعد. فالشائعات التي تتحدث عن قسوتها لم تُمحَ من ذاكرته… بل كانت تهمس في أعماقه كظلّ لا يفارقه.
رأى ريموند أن أفضل ما يمكنه فعله هو الاقتراب من الأميرة ببطء. كانت لطيفة، لا يمكنه إنكار ذلك، لكن اللطف لا يكفي لإزالة الريبة. المرأة التي دخلت قاعته بثوب الحداد اثارت اهتمامه كثيراً… غير أنّ المظهر ليس كل شيء. فهي ابنة أرض أندروميد، وستكون أخته في القانون يوماً ما، وهذا وحده كفيل بأن يُلزمه بقدرٍ من الاحترام.
قطع حبل أفكاره صوت طرقٍ على الباب. قال ببرودٍ معتاد: “ادخل يا نيكولاي.”
اندفع الرجل بخطوات واثقة، وعيناه الزمرديتان تحملان شيئاً من الفضول: “هل طلبتني، جلالتك؟”
ابتسم ريموند ابتسامة خافتة لا تحمل دفئاً: “بعد حديثنا الأخير، كان من المتوقع أن ترتجف وأنت في حضرتي الآن… لكن ذلك ما يفعله الجميع، وليس أنت. فأنت لا تملك أخلاقاً.”
ضحك نيكولاي ضحكة قصيرة، كمن يتقبّل إهانةً كدعابةٍ مألوفة: “جلالتك تعرفني جيداً… لهذا أنا تابعك المخلص.”
لكن ملامحه سرعان ما استعادت جديتها: “ما الذي قاله المعبد؟”
أجاب ريموند ببرودٍ كالثلج: “لم تكن من المعبد… كانت من أندروميد.”
اتسعت عينا نيكولاي بدهشة لم يستطع إخفاءها. كان ليتوقع رسالةً من الجنوب… لكن أندروميد؟ هذا لم يخطر بباله. تمتم بنبرة لاذعة: “ذلك الوغد ديلان… منذ متى صار بارعاً في الكذب؟”
سخر ريموند بخفةٍ قاتمة: “ربما تعلّم منك.”
زفر نيكولاي بضيق، ثم عاد إلى صلب الموضوع: “إذن… ما الذي يريدونه؟ هل ينوون قطع أعناقنا؟”
“الأمير لوسيو يريد الحضور إلى هنا.”
شبك نيكولاي أصابعه بتأنٍ: “هذا منطقي… بالنظر لما جرى.”
لكن ريموند قاطعه بصرامة: “ومعه الدوق فالنتينو.”
ارتسم الذهول على ملامح نيكولاي تماماً كما كان على ملامح ريموند من قبل، مما جعل الإمبراطور يشعر ببعض الراحة لكونه ليس الوحيد الذي وجد الأمر مريباً. “أجل،” تمتم ريموند ببرودٍ عميق، “لم يعجبني ذلك أيضاً. أريدك أن تراقبه لحظة بلحظة منذ دخوله حدود القصر. لا أعلم الدافع… لكنه ليس هنا بلا سبب.”
انحنى نيكولاي إقراراً: “حسناً، جلالتك.” ثم أضاف بعد لحظة من التردد: “وماذا عن الأميرة؟”
أجاب ريموند دون تردد: “اذهب إليها بنفسك. أخبرها أنني أدعوها إلى العشاء في قصري.”
قطّب نيكولاي حاجبيه بمكرٍ ساخر: “لكن جلالتك… ألا يضعك هذا في محلّ شائعات؟”
“شائعات؟”
رمقه ريموند ببرودٍ حاد. “جلالتك أعزب… وهي كذلك. دعوتها إلى قصرك ليلاً… ألا تنتشر الأحاديث؟”
ظل ريموند صامتاً للحظة، كأنما يستوعب المعنى، ثم احمرّ وجهه بالغضب وكتم انفعاله بصعوبة: “أي شائعات أيها الأحمق؟ هذه الإمبراطورية بأسرها تعلم أن لا شيء سيحدث. فليتجرأ أحدهم على القول بغير ذلك!”
تنهد نيكولاي بتمهل، وكأنما يسخر من عناده: “لا أفهمك، جلالتك. لماذا تصرّ على إثبات بطلان إشاعاتٍ لم تُطلق بعد؟”
قاطعه ريموند بصرامةٍ نافذة: “يكفي ثرثرة. اذهب الآن، وبدلاً من العشاء… أخبرها أن تأتي فوراً. لقد حان وقت الغداء بالفعل.”
“حسناً، حسناً…” تمتم نيكولاي بضجر، وهو يحك شعره الأرجواني المجعد بتململ، قبل أن يستدير مغادراً.
_____
الطريق المؤدي إلى القصر بدا وكأنه غابة صامتة، أشجارها تمتد في صفوف كثيفة حتى تحجب السماء، عشر دقائق من السير تحولت في خاطر فيليا إلى دهرٍ ثقيل، ربما بسبب مرافقة نيكولاي، أو ربما بسبب ذلك الشعور المبهم الذي أخذ يثقل صدرها منذ اللحظة التي وصلتها دعوة جلالته المفاجئة.
فالغد كان مخصصًا لشرب الشاي كما هو متفق، فما الذي يدعو إلى تغيير الموعد؟ قطع صوت نيكولاي الأجش ذلك الصمت الممتد: “هل تتكيف الأميرة في روفيل؟”
ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، وكأن جوابها أراحه: “هذا مطمئن.”
ثم أردف مستفسرًا: “لكن، لماذا رغبتِ بالسير على الأقدام؟ كان الأيسر والأصح لكِ ركوب العربة.”
نظرت فيليا إلى الغابة المحيطة، أوراقها الخضراء ترتجف مع الريح. “الطريق ليس طويلاً، وجلالته سبق وزارني مشيًا… كيف لي أن أهمل طريقًا بهذا الجمال؟ عدم تأمله سيكون خسارة. ثم إنني بخير، لستُ مريضة.”
الكلمات الأخيرة كانت كذبة صافية؛ فهي لم تعرف النوم الهادئ منذ قدومها، تطاردها كوابيس تتبخر حين تستيقظ، تاركة وراءها صداعًا ودوارًا يلاحقها طوال النهار. لكنها أقنعت نفسها أنه مجرد اختلاف في المناخ والمكان، وستعتاد عليه مع الوقت.
على غير ما توقعت، كان نيكولاي رفيق طريق ممتع. حديثه انساب بسهولة، من تاريخ روفيل وحدائقها إلى قصص عن إخوته ومشاكلهم، حتى بدا الطريق أقصر مما حسبته.
⸻
“والآن سأترك سموكِ هنا.”
انحنى نيكولاي بخفة، ثم انسحب، تاركًا فيليا برفقة يوري وروف أمام قاعة الولائم. بصوت حارس القاعة ارتفع الإعلان الرسمي: “الأميرة فيليا أوردو دي أندروميد تدخل القاعة!”
تقدمت فيليا، وخلفها بقي يوري وروف؛ فالمكان لم يُفتح إلا للخدم المخصصين. ما إن دخلت حتى غمرها المشهد: قاعة واسعة، سقفها شاهق، وعلى الجدار الأمامي ارتفع شعار روفيل—نسر اسود باسط جناحيه، يحتضن سيفًا أزرق. تحته امتدت طاولة طويلة عامرة بأصناف الطعام. لم تكن فيليا معتادة على الشهية الكبيرة، كثيرًا ما مازحها لوسيو بأنها تصلح لتشارك العصافير طعامها، لكن رائحة الأطباق هنا أيقظت في بطنها جوعًا لم تشعر به منذ زمن. هناك، على حافة الطاولة، كان واقفًا.
الرجل المهيب، بابتسامة باردة تخلو من دفء. عيناه الزرقاوان لمع بريقهما تحت الضوء، وشَعره القصير مصفف للخلف، ثيابه أبسط من المرة الماضية، أشبه بما قد يلبسه المرء في منزله، لكن هيبته لم تتزحزح. بخطوة سريعة مدّ لها الكرسي.
“شكراً لك، جلالتك.”
جلست، ثم جلس هو في الجهة المقابلة من الطاولة. عيناه تابعتا فستانها الأصفر لحظة، تذكّر أنه رآها أولاً بثوب الحداد، ثم بفستان أزرق، والآن بهذا اللون المشرق. غريب كيف أن كل الألوان بدت وكأنها تخصها وحدها.
حين رفعت عينيها والتقت نظراتهما، أدار بصره سريعًا إلى طبق أمامه وقال بنبرة جافة: “تذوّقي اللحم، طباخنا بارع في تحضيره.”
تناولت قضمة صغيرة. وما إن ذاقتها حتى اتسعت عيناها باندهاش حقيقي، وانفرجت ملامحها بابتسامة لم تستطع كبحها: “إنه لذيذ حقًا.”
كان يراقبها بصمت، اهتمامه ظاهر رغم قناعه الجامد، ثم أعاد صوته البارد: “أيتها الأميرة… بالطبع لم أستدعكِ إلا لغرض.”
شهقت دون أن تشعر. الشحوب ارتسم على وجهها، وأفكار متداخلة انطلقت في ذهنها: هل أُبطل الزواج؟ هل تكلّم فينياس عن شيء؟ هل هو رد فعل أهل روزي؟ جولي؟
لكن صوته قطع كل شيء: “من الأمير لوسيو.” في لحظة تبدد كل الخوف. وجنتاها تورّدتا، ابتسامة عريضة ارتسمت حتى كادت تصل أذنيها، وبلا وعي نهضت من مكانها خطوة للأمام: “حقًا… لوسيو؟”
رفع ريموند حاجبيه بدهشة. لم يتوقع هذا الانفعال، بدت له فخورة رصينة، لكنها الآن تنسى كل أدب وكل تحفظ حين ذُكر أخوها. “واو… الأميرة متحمسة للغاية.”
أدركت فيليا فجأة ما فعلته، كأن وعيها سقط عليها من علٍ. احمرّ وجهها بخجل حارق، فعادت إلى مقعدها على عجل، مطأطئة الرأس، تتفادى النظر إلى عينيه. تمتمت بصوت خافت: “اعذر وقاحتي…”
أجابها بنبرة هادئة، لكنها حملت في طياتها ما يشبه الاعتراف: “لا عليكِ… فأنا أيضاً أحتاج أن تعذريني على وقاحتي.”
رفعت رأسها ببطء، ملامحها متسائلة: “ولماذا؟”
صمته القصير كان أشد وقعاً من كلماته، حتى قال: “لأنني فتحت تلك الرسالة دون إذنك”
في لحظة، انكسرت ابتسامتها المشرقة، وتجمدت ملامحها. سقطت من سحابة الفرح إلى صخرة الواقع القاسي. لم يكن لطفه إلا وجهاً آخر للحذر. الحقيقة التي حاولت نفيها غرزت مخالبها في قلبها. عقدت حاجبيها بمرارة وسألت: “لماذا؟ هل جلالتك تشك بي؟”
ارتبك قليلاً، ثم تدارك نفسه: “لا… ليس شكّاً. لكن… بعد ما حدث، افترضت أنّ هناك ما يستحق الحذر”.
كلماته كانت هراءً رقيق الغلاف. هو يشك،. لكنها لم تجد فائدة في الجدل؛ فهي داخل قفصه، وكل حركة زائدة قد تودي بها. ابتلعت استياءها بصمت، تجرّعت مرارة العجز، وظلت تنظر إلى طبقها حتى انتهى الغداء بنفوس أثقل من الرصاص.
اقترح ريموند الخروج إلى الحديقة، كمن يحاول تهدئة جوّ مشبع بالتوتر. عند البوابة، كان نيكولاي ينتظر، يحمل الظرف الذي أثار كل هذا. التقت عينا فيليا بعينيه، فقرأ فيهما شيئاً لم يُقَل. بدا أنه أراد أن يوضح سوء الفهم، لكن ريموند كان قد سبقه وجرّد اللحظة من وضوحها.
استلمته فيليا بهدوء، وسارت إلى جانب ريموند عبر الممرات الطويلة المؤدية إلى الحديقة الأمامية. كان وقع خطواتهما يتلاشى شيئاً فشيئاً، فيما بقي نيكولاي يحدّق في ظهورهما حتى غابا عن بصره. خلفهما، تبعهما روف ويوري صامتين، يثقل صدريهما قلق لم يجرؤا على الإفصاح عنه. الختم كان قد فُتح سلفاً.
زفرت فيليا وكأنها تستعد لصدمة، ثم نشرت الرسالة بين يديها. في البداية، ارتسم على وجهها انزعاجٌ بارد… ثم ما لبث أن تبدّل. بريق سرعان ما لمع في عينيها، ابتسامة خفيفة أفلتت منها دون أن تدرك، بعدها اصابعها شدّت على الورقة حتى تجعّدت بعد الوصول الى ذلك النص: “ولن أكون وحدي. فالدوق فالنتينو أصرَّ على الحضور معي، إذ يبدو أنّ قلقه عليكِ أشدّ من أن يُخفى.”
لكن اللحظة لم تدم. ارتجف كتفها، وارتعشت عيناها، حتى انطفأ ذلك البريق تماماً. صار وجهها شاحبا، مثل قمر يبتلعه الغيم. انحنى ريموند نحوها، صوته يخترق الصمت: “أميرة… هل أنتِ بخير؟”
رفعت نظرها إليه، وما زالت الورقة ترتجف بين يديها. وهناك… رآه: خيط دم رفيع ينحدر من أنفها. تمتمت بصوت واهن: “أنا… لا أظن أنني بخير…”
ثم اهتز جسدها كغصن مكسور. مدّ ريموند يده ليمسك بها، لكنه توقف فجأة. يده ارتجفت في الهواء، عاجزة عن لمسها… كأن شيئاً خفيّاً يمنعه. بينما هو متجمّد في مكانه، اندفع روف بخفة، وأمسك بها قبل أن تهوي أرضاً، صرخ بجزع: “أميرة؟! أميرة!”
أغمضت فيليا عينيها، واستسلمت لظلامٍ داخلي، فيما ظل ريموند واقفاً كظلٍ ثقيل في الممر، ينظر إلى يده المرتجفة… اليد التي لم تستطع حتى أن تلامس جسد امرأة.
يتبع… بقلم: ميف حسابي على الانستا: @jojochi02_
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 14"