لم يكن ذلك طاعة لأوامر والدها، بل بسبب الإرهاق المتراكم من الأحداث الدرامية التي مرت بها، والذي انحل دفعة واحدة ما إن عادت إلى موطنها لم يكن مرضها شديدًا، لكن حالتها لم تكن تسمح لها بالنهوض والتجول بحرية.
كانت ميرتل تذهب وتعود بين المطبخ وغرفة بريوني، تجتهد في رعايتها ونظرًا لتقلبات جيديون وبخله، كانت آلينغتون هاوس تعاني دومًا من قلة الأيدي العاملة لذا، لم يكن بمقدور ميرتل أن تقتصر على دور خادمة مخصوصة لبريوني كما كان الحال في إيبوني هايتس حتى رئيسة الخدم لم تعد هي ذاتها التي عرفتها بريوني قبل ثلاث سنوات، مما جعل من الصعب عليها أن تطلب منها مراعاة ميرتل.
رغم أن تياري هيفن كانت أوسع وأفخم قصر في شوبرِي، إلا أن أجواءها كانت دومًا موحشة ثقيلة، وذلك أيضًا كان بسبب جيديون، بطبيعة الحال.
في اليوم الرابع لوصولها إلى تياري هيفن، تحسنت حالة بريوني.
وخلال غياب جيديون عن المنزل، استدعت هارولد وسألته عن الأمور التي جرت في الفترة الأخيرة كان هارولد، على الأقل، أطول موظفي هذه الدار خدمة لجيديونروبالرغم من افتقاده للحزم، إلا أن كفاءته في الإدارة جعلته شخصًا لا غنى عنه في آلينغتون هاوس، الذي يفتقد إلى سيدة منزل تديره.
– “لم يتغير الكثير، لا قبل أن تذهبي إلى إيبوني ولا بعد عودتك السيد دائم الانشغال، وأعماله تمر بفترات انتعاش وركود.”
– “ثمة وجوه جديدة كثيرة.”
– “نعم… السيدة كيندلي، رئيسة الخدم السابقة، تدهورت صحتها، فتم تعيين رئيسة خدم جديدة وبعض الخدم تركوا العمل آنذاك.”
كان ذلك يعني أن السيدة كيندلي لم تترك عملها من تلقاء نفسها، بل إن جيديون هو من طردها، وطرد معها كل من أبدى اعتراضًا.
تنهدت بريوني خفية.
– “وماذا عن الأعمال؟ هل تسير عملية تطوير المناجم على ما يرام؟”
كانت شوبرِي تقع بين البحر في جنوبها الشرقي، وجبال وعرة شاهقة في شمالها الغربي، وامتلك جيديون نحو اثني عشر منجمًا في تلك الجبال بل إنه كان يملك مناجم في سلاسل جبلية أخرى داخل المملكة أيضًا ورغم أنه كان يعين مشرفين محليين، إلا أنه كان يسافر بنفسه إلى تلك الأماكن النائية كل بضعة أشهر لتفقدها.
– “الأمور ليست سيئة نظرًا لنقص اليد العاملة في شوبرِي، فقد جلبوا عمالاً من مناطق مجاورة… وقد ذكر السيد أنه ينوي شراء سفينة أخرى قريبًا.”
كان لقب نائب البارون يُعد من الألقاب الأرستقراطية، لكنه لم يكن يخول حامله الحصول على إقطاعية ملكية بدلاً من ذلك، كان يُتاح له تولي وظائف حكومية تُعنى بحفظ الأمن وجمع الضرائب في مناطق معينة نيابةً عن حكومة جلالة الملكة.
وكان راتب هذا المنصب زهيدًا مقارنةً بعائدات أملاك النبلاء الآخرين، الذين يمتلكون آلاف الأفدنة، ولذا لم يكن نواب البارونات يُعدّون في العادة من الأثرياء.
وكان آل آلينغتون في الأصل من تلك العائلات المتواضعة.
لم يكن نائب البارون السابق من آل آلينغتون طماعًا، أما جيديون، فقد كان لديه طموح في نيل الألقاب وكان يملك موهبة بارزة في الأعمال والاستثمار، حتى إنه في أواخر عشرينياته أصبح من أثرياء المقاطعة المعروفين.
كان راغبًا بشدة في الحصول على لقب يتناسب مع ثروته، وكان مستعدًا للتخلي عن اسمه ونسبه في سبيل ذلك.
ولأن بيع الألقاب كان محظورًا آنذاك، لم يتبقَ له سوى خيار الزواج من وريثة إحدى العائلات النبيلة.
لقد سعى – على حد ظن بريوني – إلى خطبة العديد من السيدات النبيلات لكن، رغم ثروته، لم تكن كثيرات منهن على استعداد لتحمّل الإهانة التي يمثلها الزواج من رجل خشن الطباع ومن عامة الشعب
وكانت العائلة الوحيدة التي قبلت بإلحاحه، هي عائلة نائب بارون في مدينة ريفية صغيرة.
وكانت تلك عائلة آلينغتون.
“حدثني عن أمي.”
طلبت بريوني من والدها ذلك عندما كانت صغيرة كان يبدو في مزاج جيد ذلك اليوم، ولهذا تجرأت على السؤال لكنه ما إن سمع السؤال حتى تجهم وجهه وقال:
“لقد توفيت والدتك أثناء ولادتك.”
“كيف كانت؟”
“أليست صورتها معلقة في غرفة الجلوس؟”
وكانت تلك كل المعلومات التي نالتها ومن ثم لم يكن أمامها سوى أن تتخيل ما حدث بين والدها ووالدتها.
زواج كونستانس آلينغتون وجيديون، على الأرجح، لم يكن زواجًا سعيدًا فالمرأة في اللوحة كانت صغيرة الحجم، شاحبة، وتبدو منطوية ولا شك أنها كانت على نقيض تام من والدها في الطبع.
في سن الثانية والعشرين، فارقت كونستانس الحياة عند ولادة طفلها الأول.
وبعد فترة قصيرة، توفي نائب البارون السابق وزوجته، فعاد اللقب إلى جيديون لكنه، كونه صهرًا، لم يكن مخولًا لوراثة العائلة أو تمثيلها.
كان اللقب سينتقل إلى بريوني حين تبلغ سن الرشد وتتزوج، ومن ثم إلى أولادها من بعدها.
كان جيديون لا يحمل هذا اللقب إلا بصفته وصيًّا عليه مؤقتًا، وربما، حسبما خمنت بريوني، كان ذلك أحد أسباب كرهه لها.
“لكن، مع كل هذه الثروة التي يمتلكها، لماذا لا يزال مهووسًا بلقب نائب بارون…؟”
كان جيديون يُصدّر الفحم من مناجمه إلى الجزر والدول عبر البحر، ويستورد من الخارج أخشابًا وأحجارًا ثمينة ويبيعها لنجاري المملكة ومعمارييها، محققًا أرباحًا وفيرة.
ونظرًا لموقع شوبرِي النائي، فقد كانت تجارته الخارجية أنشط من تجارته الداخلية وربما كان شراؤه سفينة جديدة لتوسيع تجارته تلك.
– “من الجيد ألا تكون هناك مشاكل أشكرك على كل ما تفعله من أجل والدي.”
قالت له، فظهر الارتباك على كبير الخدم.
– “نعم، فقط…”
– “فقط…؟”
– “حدثت حادثة في أحد المناجم الشهر الماضي…”
مالت بريوني للأمام دون أن تشعر.
كان جيديون يمنع ابنته من التدخل في أعماله، وبما أنه لم يكن له زوجة، كانت بريوني فعليًا سيدة هذا المنزل، رغم أنه من المرجح أنه لم يكن ينوي منحها تلك الصلاحيات.
لكن بريوني لم تكن راغبة في أن تُعامل كضيف إضافي لا يفعل شيئًا حتى عندما كانت في إيبوني، كانت تقوم بدور الكونتيسة، فتدير شؤون إيبوني هايتس، وتتجول في أرجاء الإقطاعية، وتزور الناس الذين يسكنونها.
لم يكن لقاؤها بالناس لأغراض اجتماعية مزعجًا طالما كان في سياق العمل.
وكان كيث، كلما قامت بأي عمل مهما كان بسيطًا بصفتها الكونتيسة، يعبّر عن امتنانه الصادق.
“آه، بريوني لديك موهبة في هذا النوع من العمل.”
“لكن من قام بكل العمل كان ديميتري، أنا ذهبت فقط لألقي نظرة.”
“ديميتري يقول إنني لا أملك موهبة حتى في مجرد إلقاء نظرة.”
كان كيث يبتسم بود، وربما بسبب شعره الكتاني الفاتح وعينيه الرماديتين الهادئتين، كان يبدو كذلك دومًا كانت عظام وجنتيه البارزة، وخطوط وجهه الحادة، تعطيه مظهرًا باردًا في الانطباع الأول، لكنه ما إن يبتسم حتى ينهار ذلك الانطباع تمامًا.
وعندها، كانت بريوني تكتشف – متأخرة – أنها هي الأخرى بدأت تبتسم.
هزّت رأسها لتقطع حبل الذكريات كان عليها أن تركز على ما بين يديها، حتى تنسى حنينها إلى حياتها في إيبوني هايتس.
– “حادثة؟ هل مات أحد؟”
– “لم يمت أحد، لكن هناك بعض المصابين أُغلق جزء من المنجم… الأرض كانت هشة، فانهار جزء من النفق.”
– “هل تلقوا العلاج المناسب؟”
أشاح هارولد بنظره.
– “علاج أولي فقط…”
– “والتعويض؟”
– “أنا أرسل لهم بعض الطعام…”
أي إن عمّال المناجم المصابين لم يتلقوا علاجًا أو تعويضًا مناسبًا، وإن هارولد، وقد ضاق صدره بذلك، بدأ يرسل إليهم الطعام من ماله الخاص.
لم تكن بريوني تعرف الكثير عن القانون، لكن الامتناع عن تعويض الإصابات الناتجة عن إهمال صاحب العمل لا بد أن يكون مخالفة قانونية في المملكة.
لكن جيديون كان المتحكم الفعلي في شوبرِي، وإذا شاء طمس حادثة كهذه، فلن يعجز عن ذلك.
ولن يتمكن العمال المصابون من السفر كل تلك المسافة إلى “فانشو” ليقابلوا جلالة الملكة ويشكوا لها حالهم.
– “هذا غير معقول ألم يجرؤ أحد على قول إنه يجب تعويضهم؟”
– “لابد أن أحدًا قال ذلك، ولكن…”
لكن لا جدوى.
فكرت بريوني في أولئك الذين اعتادوا التردد على تياري هيفن: سكرتير والدها، مشرفو المناجم، المحاسبون…
كانوا ينقسمون إلى فئتين لا ثالث لهما، فئة منكمشة مثل هارولد، وفئة أخرى تبدو حقيرة وجشعة مثل والدها.
– “سأذهب لرؤية أولئك العمال بنفسي قريبًا.”
اتسعت عينا هارولد دهشة، وأسرع بمنعها.
– “ماذا ستفعلين إن ذهبتِ إليهم، يا آنسة؟”
– “على الأقل، أنا أغنى منك، أليس كذلك؟”
ذلك المهر الذي أرسله والدها معها ثم أعاده كيث إلى آلينغتون هاوس، لم يكن ملكًا لها، بل لأبيها.
لكنها كانت تملك بعض المجوهرات التي تلقتها من كيث وقت الزواج، إلى جانب مجوهرات ورثتها منذ البداية.
ولو باعت كل ذلك، لتمكنت من استئجار بيت صغير والعيش براحة لعدة سنوات.
كما أن لديها بعض الممتلكات التي ورثتها عن والدتها كونستانس، والتي لا تزال بإدارة جيديون نظرًا لأنها لم تطلب استلامها.
– “لكن لا يجوز ذلك، آنستي إن علم السيد، فلن يرحم أحدًا.”
– “لن أخبر أحدًا أنني سمعت هذا من هارولد.”
لم يكن لدى كبير الخدم ما يرد به على ذلك.
***
تحققت نبوءة ديمتري المشؤومة.
حين عاد إلى إيبوني بعد أن امتطى جواده لأكثر من يومين، كانت إيبوني هايتس قد أصبحت في فوضى عارمة بدءًا من مدخلها الرئيسي، وكانت السيدة مارسي، رئيسة الخدم، واقفة هناك لا تعلن ما تفعل من حسن الحظ أنها لم تكن تبكي فقد كان موظفو إيبوني هايتس جميعًا يشبهون سيدهم إلى حد بعيد، هادئين ورزينين في الغالب.
“سيدي، لقد وقع أمر جلل.”
قالت رئيسة الخدم، التي تعرفت عليه، وأسرعت نحوه.
ترجّل ديمتري عن صهوة جواده.
“سيدتي مارسي، أعتذر عن تركي للمنزل لقد كنت أوصل السيدة إلى شوبرِي، بناءً على أمر من السيد.”
انخفضت كتفا رئيسة الخدم.
“كما توقعت، يبدو أن السيدة غادرت هذا المكان أثناء غيابنا لم أتمكن حتى من وداعها كما ينبغي… ولكن، هناك ما هو أسوأ من ذلك قبل أسبوع، جاء أناس من القصر الملكي وأخذوا سيدنا لقد وصلت عربة كبيرة منقوشة بشعار عائلة ألفريد الملكية.”
أخذ ديمتري يحسب الأيام كان قد غادر إيبوني هايتس مع الآنسة إيبوني، أو بالأحرى، الآنسة أرلينغتون، منذ تسعة أيام وهذا يعني أن مذكرة التوقيف صدرت بعد يومين فقط من وصول المحققين إلى هذا المكان.
وتيرة الأحداث السريعة تلك تعني أيضًا أن المحققين قد وجدوا شيئًا حاسمًا في هذا المنزل وكان عليه أن يعرف ما هو.
“من أخبركِ بهذه القصة؟”
“السائق آش يقول إنه خرج قليلاً في صباح يوم مغادرتنا إلى شوبرِي، ورأى أناسًا غرباء يفتشون المنزل.”
في الأصل، كان من المقرر أن يرافق آش المجموعة إلى شوبرِي ولكن بما أن السائق قد غادر للحظات قبل الانطلاق، فقد وصل المحققون خلال تلك اللحظة، واضطر ديمتري لقيادة العربة بنفسه.
“هل تحدث آش إلى أولئك الأشخاص؟”
“كلا، لقد خاف فعاد مباشرة إلى منزله، ثم عاد لاحقًا، لكن في ذلك الحين كانت العربة الملكية قد غادرت بالفعل إيبوني هايتس وعندما عدنا إلى العمل، وجدنا المنزل بهذه الحالة.”
“كم عدد الأشخاص الذين يعلمون بأن السيد ذهب مع رجال القصر الملكي؟”
قال ديمتري بنبرة حذرة لم يكن من الحكمة أن يعلم جميع الموظفين بأن رجال عيون الملكة قد جاءوا ومعهم مذكرة تفتيش واعتقال، وأنهم اقتادوا كيث معهم.
“حتى الآن، أنا وآش فقط وقد طلبت من آش أن يحافظ على سرية الأمر.”
في ‘إيبوني هايتس’، كان تسلسل المسؤولية واضحًا: إذا غاب اللورد إيبوني، تتولى سيدة إيبوني الإشراف، وإذا لم تكن موجودة، يتولى ديمتري إدارة الأمور، وإذا غاب هو أيضًا، تنتقل المسؤولية إلى السيدة مارسي ومع ذلك، لم يكن لديمتري ولا لمارسي سوى صلاحيات محدودة، تقتصر على منع تدهور الوضع لا أكثر.
“أحسنتِ صنعًا وهل سمعتِ عن زيارة أحد من أراضي النبلاء مؤخرًا لهذا المكان؟”
“على حد علمي، لا في بداية السنة، لا أحد يغامر بالذهاب بعيدًا.”
حين تصدر جلالة الملكة مذكرة توقيف بحق لورد ما، فإن ذلك لا يحدث إلا في حالات طارئة وخطيرة، مثل ارتكابه جريمة قتل أو محاولة قتل أحد أفراد العائلة الملكية أو النبلاء، أو خداعه للعرش عن طريق الاحتيال أو التلاعب، أو ثبوت عجزه التام عن إدارة أرضه كنبيل وغالبًا ما تُعلن هذه التهم على الملأ، لأنها تمس شرف التاج بشكل مباشر.
ولكن، إذا صدرت مذكرة التفتيش، وتبعها اعتقال بهذه السرعة، وفي مثل هذه السرية، حتى بحق نبيل حامل للقب الكونت ، فلا بد أن يكون السبب تهمة واحدة فقط:
تهمة لا يجوز الإعلان عنها حتى تُثبت قطعًا تهمة إذا ثبتت براءة المتهم منها، قد تنقلب على من وجهها إليه تهمة يخشى النبلاء أنفسهم مجرد تداولها علنًا، خشية أن تخرج شائعة تؤدي إلى إعدام أحدهم… إنها نقطة ضعف جلالة الملكة.
… لقد تم اعتقال الكونت كيث دالمور بتهمة الخيانة العظمى.
حين استوعب ديمتري تلك الحقيقة، شعر بدمه يبرد في عروقه.
وهو أكثر من يعرف أن تلك التهمة باطلة تمامًا فليس لدى كيث أي دافع أو نية للخيانة، كما أنه كان حريصًا طوال السنوات التي خدمه فيها ديمتري على الابتعاد قدر الإمكان عن العائلة الملكية والسياسة.
إذن، فهل يُعقل أن يكون السبب… هو ديمتري نفسه؟
قالت رئيسة الخدم شيئًا، لكن أذنيه لم تلتقطاه.
تجاوز السيدة مارسي ودخل المنزل مسرعًا.
كان عليه أن يعرف فورًا ما الذريعة التي استند إليها محققو جلالة الملكة لتوجيه تهمة الخيانة إلى سيده.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات