بل قصد أولاً محطة البريد هناك، وترك العربة في عهدتها، ثم دسّ بعض المال في يد أحد العمال طالباً منه إطعام الخيول حتى الشبع بعد ذلك، اختار من بين الخيول المتوفرة أقواها وأسرعها مظهراً، ودفع مبلغاً وفيراً ليستأجره.
“سيدي، لقد قطعنا الطريق إلى هنا بعربة طوال أسبوع، والآن تودّ أن تمتطي جواداً؟”
سأله السائق الذي رافقه حتى شوبري، فأجابه ديميتري: “أنا على عجلة من أمري.”، ثم امتطى الحصان مباشرة.
كان قد استراح ليلاً، وسار بالعربة نهاراً بلا توقف، فاستغرق منه الأمر أسبوعاً فإن أسرع الآن، فقد يصل إلى إيبوني بعد غد وإذا أُنهك الحصان، يمكنه تبديله في الطريق مرة أخرى كان يشعر بعجلة شديدة.
“لقد وُضعتُ في خدمة سيد أحمق.”
كان يرى أن حسن حظه الوحيد هو أنه حظي بسيدة منزل جيدة، لكنه حتى تلك السيدة طلقها، فكان كيث دالمور كونتاً أبله أخرق في اليوم الذي ألحّ فيه على السيدة –التي لم تعد تُعدّ سيدة المنزل الآن– كي توافق على الطلاق، أفرغ زجاجة كونياك كاملة، ثم أمضى اليوم بأكمله كمدمن قلق مضطرب على الأرجح، سيتحول قريباً إلى شخص محطّم يُرثى لحاله وإن كان الأمر كذلك، فلماذا طلب الطلاق أصلاً؟
لكن، على غير عادته في استشارة خادمه في كل شاردة وواردة، لم ينبس ببنت شفة بشأن هذا القرار الجلل، ثم ما إن اقترب الطلاق من نهايته حتى وصله أمر تفتيش مفاجئ والأدهى أنه صادر عن جلالة الملكة.
ووفقاً لما يعرفه ديميتري، فإن عائلة دالمور ليست على صلة وثيقة بالعائلة المالكة فمؤسس العائلة نال لقبه بعد أن ساهم في تأسيس المملكة، وذلك قبل مئات السنين صحيح أن المحكمة العليا، حيث يعمل كيث، تقع بجوار القصر الملكي، لكن هناك العديد من المؤسسات الأخرى قرب القصر أيضاً، ولا شيء مميز في ذلك.
“ما الذي ارتكبه بحق السماء؟”
كان كيث دالمور رجلاً يستحق خدمة الخادم له، لولا كونه منحدراً من عائلة نبيلة فقيرة نسبياً بين سائر النبلاء كان عقلانياً، عادلاً، ذكياً، بل وكريماً أيضاً وكانت نظرته في اختيار العروس عالية، فجلب امرأة هادئة تناسبه تماماً ومن وجهة نظر ديميتري، فإن بريوني، رغم هدوئها، لم تكن ضعيفة أبداً.
“لمَ لا تثق بالسيدة أكثر قليلًا؟”
كان من المؤكد أن كيث يخفي أسباباً لم يصرّح بها حتى لديميتري فمنذ أن بدأ الحديث عن الطلاق، بدا عليه الضيق طوال الوقت وحين حاول ديميتري أن يواسيه بتلك الكلمات، اكتفى سيده بخفض رأسه بوجه مظلم وهزّه نافياً
“لا يمكنني أن أطلب من شخص لم يتزوجني عن حب أن يضحّي لأجلي.”
“وهل إن تزوجك عن حب، سيكون الأمر مقبولاً؟”
“هل سبق أن أحببت أحداً؟”
“كلا لكنني أظنني أعرف ما الذي يحدث حين يقع المرء في الحب.”
حتى في ذلك الحين، لم يشأ سيده أن يكشف له عن الدافع وراء الطلاق.
فهل كان الكونت يعلم مسبقاً أن أمر التفتيش الملكي سيصل إليه؟
إن كانت هناك صلة بين الحادثتين، فهذا يعني أن كيث بات في خطر عظيم.
كان ديميتري قلقاً شعر بأن هناك سبباً وجيهاً حال دون أن يبوح سيده بأي شيء، حتى له وفوق ذلك، فإن الأوضاع الاقتصادية كانت سيئة، ومن الصعب جداً أن يجد مكاناً يُقدَّر فيه كما هو حاله الآن.
“أرجو أن تظل آمناً حتى عودتي.”
رغم أن الأمل بدا ضئيلاً، إلا أنه دعا بذلك.
***
رغم أمنيته، لم يكن من الممكن القول إن كيث كان بخير.
كان ذلك في اليوم التالي لرحيل بريوني عن إيبوني أولسن وأوين—أو لعلّه أوسن وأولون، لم يكن واثقًا—أحضرا ستة من رفاقهما كما لو كانا ينتقمان من كيث لرفعه صوته ومواجهتهما بالسيف رغم أنهما محققا جلالة الملكة، فبعثروا أرجاء المنزل بأكمله لهذا لم يكن أمام كيث سوى أن يمنح الخدم يوم عطلة إضافي، وكان من حسن الحظ أن ديميتري لم يكن في المنزل آنذاك.
قال أولسن، ذو الشارب الكث، بعد مضي أكثر من عشرين ساعة على بدء التفتيش، وهو يلوّح بورقة خرج بها من مكتبة كيث:
“هنا شيء مثير للاهتمام.”
فأجابه كيث بصوت منهك:
“فلتأخذه إذن.”
“تبدو هذه الورقة كأنها رسالة غير مكتملة، لا تحتوي على اسم المرسل إليه ولا توقيع من كتبها.”
“في هذه الحالة، لا يمكن اعتبارها رسالة حقيقية.”
“حتى لو كانت تتضمن معلومات عسكرية سرية؟”
“هذا يعتمد على تفسير محتواها وسياقها.”
“مجرد هذه الورقة قد تكون كافية لإصدار حكم بالإعدام بحقك. لو كنت مكانك، لكنت أكثر حذرًا في اختيار كلماتي، يا لورد إيبوني.”
تنهد كيث وقال:
“أخطأتَ جلالة الملكة تفضّل قطع الرؤوس.”
“هل تعرف جلالة الملكة؟”
“وهل يوجد من لا يعرفها؟”
“كنت أعني، هل سبق لك أن التقيت بها وجهًا لوجه؟”
“النبيل حين يتسلم لقبًا لا بد له من الحصول على إذن جلالتها.”
“لقد حصلت على لقب الكونت منذ ثلاث سنوات، أليس كذلك؟ هذا يعني أن لقاءك بجلالتها لم يكن بعيدًا جدًا.”
كان واضحًا أن الرجل يحاول توريط كيث واعتباره شخصًا خطيرًا، غير أن كيث لم يكن في مزاج يسمح له بالدفاع عن نفسه فأي بيت نبيل يمتد تاريخه لعدة قرون لو تم تفتيشه على مدى عشرين ساعة، فمن الطبيعي أن يُعثر فيه على ورقة أو شيء مثير للشك ثم إن كيث، وإن لم يعرف بعد التهم الموجهة إليه، إلا أنه كان على يقين من أن نجاته غير ممكنة.
«لا أحد يمكنه أن يخالف إرادة جلالة الملكة.»
لكن ما الذي فعله بالضبط ليجعلها تستهدفه ؟ لم يستطع أن يتذكر أي خطأ ارتكبه كان مجرد كاتب بسيط في المحكمة العليا، وسط نخبة من كبار النبلاء وباستثناء زواجه من بريوني، الذي أتاح له العيش في رخاء مؤقت، لم يكن يضاهي الماركيزات أو الدوقات لا في النفوذ ولا في المساحة وفوق ذلك كله، لم يكن له أي حضور يُذكر في المجتمع الأرستقراطي فبأي سبب قد تلتفت إليه الملكة من بين جميع الناس؟
لكنها فعلت.
«أأنت سيد إيبوني؟»
كان عليه أن ينكر وقتها ولو أنه غادر فورًا بعد ذلك اللقاء، وتخلى عن عمله ككاتب في المحكمة، وأخذ معه بريوني وديميتري وفرّ بهم… لعلّه كان ليتفادى حتى الطلاق (رغم أنه، بعد التفكير، لم يكن ليستغني عن ديميتري.)
«نعم، جلالتك.»
«اسمك؟ لقبك؟»
الملكة ليوبولدين من آل إلبريد، أرفع نساء المملكة مقامًا، الحاكمة المطلقة لمملكة ألجونكوين، ملكة الأمراء.
لطالما سمع عنها بألقابها الفخمة، لكنها حين رآها وجهًا لوجه، بدت له امرأة عادية صحيح أنها كانت مهيبة وجميلة أكثر من معظم النبيلات، لكنها لم تكن لتتفوق على بريوني في الجمال، ولهذا لم يتأثر كيث كثيرًا.
«كيث دالمور، كونت.»
«ألا ترغب في أن تعمل سكرتيرًا لجلالتي في البلاط؟»
«أعتذر، جلالتك، لست أهلاً لمثل هذا الشرف أنا مجرد كاتب في المحكمة العليا، ولست قاضيًا.»
كان ذلك أول حوار دار بينه وبين الملكة.
وبعدها تحدثا مرتين فقط، وفي المرة الرابعة لم توجه له كلامًا، بل أرسلت إليه مذكرة تفتيش كان رجلاً بائسًا لم يستطع حتى إسعاد زوجته، لكنه لم يكن غبياً لدرجة ألا يفهم ما كانت ترمي إليه الملكة.
«كن سكرتير البلاط وخدمني.»
ذلك ما كانت تريده جلالتها ولم يكن السبب أنها تعاني من نقص في الموظفين، فالمتقدمين لوظيفة سكرتير البلاط يملؤون المملكة لا، اهتمامها بكيث كان… شخصيًّا، إلى حدّ بعيد ولمّا أدرك ما تعنيه، كان الوقت قد فات.
«إن لم تفعل ما آمرك به، فلن يكون مصير عائلتك السلامة.»
كان ذلك فحوى مذكرة التفتيش التي أرسلتها الملكة.
“—لورد إيبوني.”
قطع صوت المحقّق استغراق كيث في الذكريات كان الرجل ذو الشارب يبتسم ابتسامة ماكرة.
“هذه الرسالة ستكون دليلًا رئيسًا يثبت التهمة لقد أرسلت أوين إلى بانشو قبل قليل.”
أي إن مذكرة التوقيف ستصدر قريبًا لا بد أن نيتهم كانت كذلك منذ البداية وإن كان الأمر كذلك، فمن الأفضل أن يغادر كيث المنزل قبل عودة ديميتري سيكون من الأسهل ترتيب الأمور في غياب أحد.
“إذاً، ما هي التهمة الموجهة إليّ؟”
“ألا تعرف؟ بالطبع، تهمة التواطؤ مع العدو.”
“ألن تقوموا باعتقالي فورًا؟”
ففي قانون المملكة، يحق للمحققين إلقاء القبض الفوري على أي شخص، سواء أكان من النبلاء أو العامة، إن ثبتت عليه شبهة ارتكاب جريمة خطيرة.
“كما توقعت من رجل خدم في المحكمة العليا لدي الصلاحية لاعتقالك فورًا، لكنني سأمنحك بعض الوقت لترتيب شؤونك، يا لورد إيبوني.”
لكنه لم يكن بحاجة إلى وقت ديميتري كان يعرف جيدًا ما يجب فعله في إيبوني هايتس أكثر منه ثم إن ما الجدوى من البقاء في بيت خالٍ من بريوني؟ في غيابها، لا فرق بين إيبوني هايتس وسجن القصر—تلك الفكرة غير العقلانية كانت تسيطر عليه بإلحاح.
تابع أولسن الحديث، دون أن يتوقف عن العبث بعصبية بشاربه.
“قد يستغرق الأمر أيامًا، فخذ معك بعض الملابس على الأقل.”
رغم لسانه الطليق، بدا على المحقق التوتر، وقد أدرك كيث السبب.
فالتواطؤ مع العدو، أو ما يُعرف بالخيانة، جريمة يعاقب عليها بالإعدام فور إثباتها، وقد تؤدي إلى إبادة العائلة كلها وبما أن العقوبة جسيمة، فلا بد أن تكون الأدلة قاطعة، وإلا فإن من يوجّه التهمة قد يُحاسب بتهمة البلاغ الكاذب ويُعاقب بشدة.
حتى الملكة نفسها لا يمكنها التهرب من هذه المسؤولية، ولو شكليًا، وهو أمر سبق أن أثار ضجة في المملكة عندما أُعدم أحد أفراد العائلة المالكة بتهمة الخيانة، ما أثار انتقادات واسعة ضد البلاط الملكي بسبب قسوة العقوبة.
قال كيث:
“إن احتجت إلى شيء، فسيتولى خادمي ترتيبه.”
فأجابه المحقق:
“الزيارات ستُمنع، وكذلك الرسائل.”
“وإذا ثبتت براءتي، هل سأحصل على تعويض عن الفوضى التي أحدثتموها في منزلي؟”
لم يكن يتوقع ذلك، لكنه أراد أن يغيظ المحقق فحسب بدا أولسن أكثر توترًا.
“هناك أدلة أخرى أيضًا.”
“لا شك في ذلك.”
“لو علمت جلالة الملكة أنك أشهرْتَ سيفك في وجه محققيها، فسيكون هناك عقاب إضافي.”
حتى الملكة لا يمكنها أن تُعدم سيدًا لإقليم بسبب تهمة لا وجود لها فالنبيل إن أُهين بهذه الصورة، فستثور الطبقة الأرستقراطية، ما قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي ورفع احتمالات الصراع مع الدول المجاورة المعادية.
كانت الملكة ليوبولدين قاسية، لكنها لم تكن حاكمة حمقاء لذا لم يكن أمام كيث سوى أن يعلّق أمله على ما تملكه من حكمة كحاكمة.
«هل ستكون بريوني بخير؟»
لم يستطع حتى النظر إلى وجهها حين رحلت خشي إن نظر إليها أن تضعف عزيمته لكنه الآن لا يعلم إن كان سيتمكن من رؤيتها مرة أخرى، فتمنى لو أنه نظر جيدًا في ملامحها قبل أن تفارقه.
ومع ذلك، كان لا يزال يستطيع أن يرسم ملامح وجهها في ذهنه بوضوح تام. شعرها الأسود الداكن الذي يليق تمامًا باسم “إيبوني”، وبشرتها العاجية الشاحبة التي لا تغيّرها حتى أشعة الشمس، وجبينها الواسع الذي يوحي بالذكاء، وتحت الجبين أنفها الدقيق المرتفع، وشفاهها الممتلئة التي تبدو صارمة حين تُطبق، لكنها حين تبتسم تنفرج برقة آسرة. وفي خدها الطري، غمازة عميقة تزيدها سحرًا كلما ظهرت .
أما عيناها، بلون العنبر العميق كأنهما دومًا غارقتان في تفكير عميق، فحين كانت تنظر إليه، كان يشعر أنه يُسحب إلى داخلها بلا مقاومة.
ثم سُمع صوت حوافر الخيول يقترب من بعيد لم يكن حصانًا واحدًا، بل عدة خيول تجرّ عربة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات