قال وزير العدل بصوت مرتجف، وقد بدأ العرق يتصبب من جبينه المتوتر.
“هل القاعة حارّة يا ماركيز ماثياس؟”
“ليس الأمر كذلك…”
أومأت ليوبولدين لحرسها الملكي برأسها.
فاقترب الحرس وأرشدوا وزير العدل بلطف إلى شرفة قاعة المثول أمام الملكة ورغم أن موجة البرد القارس كانت قد خفّت قليلاً، إلا أن الشتاء لا يزال شتاءً وفوق ذلك، كان وزير العدل، مثل كل من يُسمح لهم بمقابلة جلالة الملكة، قد جُرّد من ثيابه الخاصة وأُجبر على ارتداء رداءٍ بسيطٍ خفيفٍ يقدمه موظفو القاعة.
وقد فُرض هذا الإجراء قبل خمس سنوات، بعد محاولة الأمير إليوت اغتيال الملكة داخل القصر ولم يُستثنَ من هذا القانون سوى كبار النبلاء، وأفراد العائلة المالكة، ومن منحتهم الملكة استثناءً خاصًا أي إن الوزراء الذين يدخلون القصر بانتظام لا يُسمح لهم بمقابلة الملكة بثيابهم إلا إن كانوا من حاملي لقب دوق.
قالت الملكة ببرود
“اذهب لتُبرّد عرقك هناك، ثم عد.”
بعدها استقبلت الملكة سيدتين من النبلاء جئن للسؤال عن أحوالها، ثم تاجراً جاء ليشتكي خسارته في دعوى ضد الحكومة، وثلاثة من المزارعين الصغار جاؤوا يرفعون شكوى ضد سيدهم الإقطاعي الذي زاد الضرائب بدل تخفيضها رغم سوء المحصول.
وبعد أن انتهت من الاستماع إليهم جميعًا، همّت بالانصراف، غير أن سكرتيرها الذي يقف بجوارها تنحنح بخفوت.
“جلالتك، وزير العدل لم يُنهِ حديثه بعد…”
“آه، صحيح.”
جلست ليوبولدين في مقعدها، ودخل الحرس من جديد يقودون وزير العدل الذي عاد وهو يرتجف من البرد، حتى بدا وجهه الذي يكبر وجه الملكة بضعفي عمرها، شاحبًا مائلاً إلى الزرقة ابتسمت له الملكة ابتسامة مشرقة.
“بمَ كنا نتحدث؟”
“بشأن… قضيةِ كونت دالمور…”
“ذلك الذي قبض عليه محققوني مؤخرًا بتهمة التواطؤ مع العدو، أليس كذلك؟”
“لقد مضى أكثر من نصف شهر منذ ذلك، يا جلالتك.”
تمالك وزير العدل نفسه بصعوبة ثم ركع على ركبتيه.
“أرجو من جلالتك أن تنظروا في نقله إلى سجن المحكمة العليا قبل بدء المحاكمة.”
كانت ليوبولدين ترتدي هذا اليوم فستانًا أسود اللون، مصنوعًا من الحرير الضيق الذي يلتصق بالجسد، تتداخل فيه طبقات من الدانتيل وتُرصّع حوافه بأحجار العقيق الأسود بدل التطريز.
وقد زاد هذا الثوب من جلالتها وهيبتها الملكية، وجعلها في المقابل تبدو أكثر سطوة أمام وزير العدل المتلفّع برداء الكتّان البسيط ورغم أن جسده ضعف حجم جسدها، إلا أنه بدا أمامها كفرسٍ هزيلٍ منهك، بينما ازدادت هي بهاءً ووقارًا.
“أليس السجين محتجزًا في منشأة أخرى الآن؟”
“بلى يا جلالتك، لكنه من نبلاء المحكمة العليا، وبحسب القوانين ينبغي أن ينتظر محاكمته في سجن المحكمة نفسها ثم إنني سمعت أنه تدهورت صحته هناك…”
عقدت ليوبولدين حاجبيها.
“ماركيز ماثياس، ومن الذي نقل إليك هذا الخبر؟”
“يا جلالتك، بصفتي وزير العدل، تقع على عاتقي مسؤولية الإشراف على أن يُحاكم جميع رعايا المملكة وفق الإجراءات القانونية العادلة… ومراقبة تصرفات محققي جلالتك جزء من هذه المسؤولية.”
“إذن، أنت تقول إن محققيّ لم يعاملوه بإنصاف؟”
“لم أقصد هذا المعنى مطلقًا، يا جلالتك!”
كان الوزير منبطحًا على الأرض بكل جسده، في خضوعٍ تام.
“ما عنيته هو أن سوء حاله في منشأة غير رسمية قد يُعرّض محققي جلالتك لشبهات لا داعي لها.”
“وما حاله الصحية الآن؟”
“يُقال إنه مريض ولم يتناول الطعام منذ أيام.”
“هل عرضتموه على طبيب؟”
“أعتذر، يا جلالتك، لكنني أمرت بالفعل بأن يُفعل ذلك.”
“وموعد محاكمته في نهاية هذا الشهر، أليس كذلك؟”
“نعم يا جلالتك.”
مالت ليوبولدين برأسها قليلاً، فانحدرت خصلات شعرها الفضي المثبّتة خلف أذنها على كتفها رفعت يدها الصغيرة وأعادتها إلى مكانها، ثم صمتت تفكر قليلًا.
“…إن لم أفعل كما تقول، فستظن أنت ورئيس المحكمة العليا أنني أخفي نواياي الحقيقية، أليس كذلك؟”
“أنا العبد الحقير لا أجرؤ على الظن أو الشك في نوايا جلالتك ، إنما أقصد فقط أن الإجراءات القانونية…”
“كفى من هذا الحديث، لقد سئمت سماعه.”
تحوّل صوت الملكة الذي كان مفعمًا بالهيبة إلى نبرة حادة مليئة بالضجر، فانكمش الوزير مكانه، متوقعًا عقوبة قاسية غير أن الملكة لم تصرخ به، بل خطت فوق ظهره بحذائها لتنهض متجهة نحو الباب الجانبي الخاص بها في قاعة المثول.
ثم توقفت فجأة، كما لو تبدّل مزاجها على حين غرة،
“وزير العدل، سأقبل طلبك، وسينقل كونت دالمور إلى سجن المحكمة العليا الليلة نفسها أما ما سيحدث بعد ذلك، فهو شأنك أنت.”
“إنه لفضل عظيم من جلالتك…”
تبِع السكرتير الملكي الملكة إلى الخارج ولم تلتفت إليه وقالت
“انقل إلى قائد الحرس الملكي أمري هذا يُطرد الحراس المكلفون بمراقبة ذلك السجين من صفوف الحرس، لتقصيرهم في واجبهم.”
انحنى السكرتير العجوز، الذي خدم الملك الراحل سيسيل — والد ليوبولدين — أمامها باحترامٍ عميق
“كما تأمرين يا جلالتك.”
***
“لا شيء يسير كما أريد!”
ما إن دخلت ليوبولدين إلى جناحها الداخلي حتى التقطت أول ما وقع في يدها ورمته بكل قوتها انطلقت المزهرية وارتطمت بالجدار لتتحطم إلى شظايا ومع ذلك لم يهدأ غضبها، فداست بقدميها على الزجاج والورود المهشّمة.
“إجراءات قانونية؟ عدالة؟ أهذا ما تقولون؟!”
قلبت الطاولة الصغيرة، فتطايرت الكتب والأقلام في كل اتجاه التقطت إحداها ورمتها داخل الموقد المشتعل ارتفع اللهيب ومعه دخان كثيف، وما إن استنشقت بعضه حتى بدأت تسعل بعنف، سعالاً يزلزل جسدها الصغير في كل مرة.
“ألا يوجد أحد هنا؟!”
اثنتان من الوصيفات اللتين كنّ ملتصقتين بالجدار خوفاً من غضبها، أسرعتا نحوها مذعورتين.
“جلالتك! جلالتك! هل أنتِ بخير؟!”
أسرعت إحداهن لتسندها، بينما فتحت الأخرى النافذة صرخت ليوبولدين وهي تتقيأ سُعالاً متقطعاً أشبه بالنوبة
“النافذة… إذا فتحتِها… سيزداد السعال سوءاً!”
“أغفري لي يا مولاتي…”
اصطحبتها الوصيفة التي أسندتها إلى غرفة النوم، وبعد أن شربت ليوبولدين قليلاً من الماء وضمّت ذراعيها إلى جسدها المرتعش طويلاً، استعاد جسدها بعض هدوئه فمنذ صغرها كانت تعاني ضعفاً في رئتيها وشُعبها الهوائية، كما أن أعصابها الحساسة كانت تجعلها تثور على كل من حولها كلما شعرت بأدنى انزعاج.
“يكفي، اخرجو الآن.”
“كما تأمرين، مولاتي.”
وقبل أن تغادر الوصيفة، أوقدت مصباحاً آخر في الغرفة، لأنها كانت تعلم أن سيدتها تكره البقاء وحيدة في الظلام.
وحين أصبحت وحدها، نزعت ليوبولدين أزرار فستانها بعنف، وفتحت خطاطيفه المزعجة بلا تردد، ثم خلعته ورمته جانباً.
كان خصرها النحيل مشدوداً بالكورسيه إلى درجة جعلت التنفس بالكاد ممكناً، رغم أنها لم تكن بحاجة إلى ذلك كانت تدرك تماماً التناقض بين جسدها الصغير وطبيعتها القاسية، وكيف أن هذا التناقض يزيد من جاذبية المشهد حين تجبر أكثر فرسان المملكة كرامة على الركوع عند قدميها.
وبصعوبة خلعت الكورسيه من على ظهرها ورمته أرضاً.
لم يكن تحطيم الأشياء متعتها، بل لم تكن تهتم بما تحطّمه أصلاً، لكن ما كان يسلّيها هو رؤية وصيفاتها وخدمها في ذعرٍ عاجزين عن فعل شيء سواء رفعت صوتها أو خفضته، كانوا جميعاً ينكمشون خوفاً، وهذا طبيعي، فهي ملكة هذه البلاد.
حتى عندما جُنّ الملك الراحل سيسيل، وخلع ثيابه أمام الناس وقضى حاجته على مرأى الجميع، لم يجرؤ أحد منهم على منعه، بل وقفوا يرتجفون مراقبين المشهد فحسب
“ولكن لماذا…!”
لماذا إذن لا تستطيع أن تحبس خائناً واحداً كما تشاء؟ ليس رجلاً بريئاً، بل متهماً بالتواطؤ مع أعداء المملكة! وقد أكد محققوها أن لديهم الدليل القاطع على خيانته لذلك أمرت ـ بوصفها ملكة ـ بحبسه في مكانٍ لا يراه أحد سواها، لتزوره متى شاءت.
لكن النبلاء، يتزعمهم وزير العدل، تجرؤوا على الاعتراض! قالوا إن حبس ذلك الرجل على هذا النحو لا يتفق مع القانون، وإن صحته قد ساءت أثناء احتجازه دون علمها.
لو كانت قد علمت بالأمر آنذاك لأمرت الأطباء بملازمته ليل نهار. ولعاقبت الحراس الذين أهملوه حتى تدهورت حالته وعجز عن بلع لقمة، بسَجْنِهم في الزنازين ومعاقبتهم أشدّ العقاب — حتى اقتلاع أظافر بعضهم وإجبارهم على ابتلاعها وما زال بإمكانها القيام بمثل ذلك متى شاءت.
“لكن أولئك الأغبياء سيقيمون الدنيا من جديد.”
لم تكن تهتم كثيراً بحياة جندي واحد، تماماً كما لم تهتم بالأشياء التي تحطمها، لكنها كانت ذكية بما يكفي لتعلم أن القسوة المفرطة تجلب نتائج عكسية.
لقد جلست على العرش وهي تكاد تخلو من أي قاعدة دعم، ومع ذلك استطاعت خلال ست سنوات أن ترسّخ سلطتها بفضل دهائها وشجاعتها وقسوتها وحدسها وحتى بفضل الصورة النمطية التي يحملها الناس عنها.
ولهذا، ستتصرف الآن كما فعلت دوماً لأن ما تريده هذه المرة هو الكونت كيث دالمر.
” يا لهم من حمقى، ومع ذلك لا ينسون شيئاً!”
كانت تعلم أن اعتراضهم ليس حباً في العدالة أو القانون، بل لأنهم لم ينسوا ما حدث قبل خمس سنوات لقد أرادت يومها أن تقدم مثالاً لا يُنسى
“من يعصيني، ولو كان من العائلة المالكة، سأقتله.”
وهكذا أبادت عمّها إليوت وعائلته لم يكن أمامها خيار آخر، فإما أن تفعل أو تُقتل.
ومع ذلك، لم تخلُ تلك الحادثة من تهور.
فقد اعتمدت أكثر مما يجب على قوتها العسكرية، وأغفلت الرأي العام ربما كان من الأفضل أن تترك الأطفال أحياء، أن تجرّدهم فقط من ألقابهم وتخفضهم إلى منزلة العامة لعل ذلك كان سيخفف من حدة الانتقادات ضدها.
لكن وجودهم كان تهديداً محتملاً، ولعلّ القضاء عليهم جلب لها فائدة أخرى: سمعة الملكة التي لا ترحم ومنذ تلك الحادثة لم ترتكب ليوبولدين خطأ واحداً… لا مرة واحدة.
ولذلك، ستكون بخير هذه المرة أيضاً.
لم تكن هي من ألصق بالكونت كيث تهمة الخيانة، بل عين الملكة هي من فعلت لقد طلبت فقط من رئيسهم أن يتحقق من السبب الذي يجعل رجلاً واعداً كهذا يرفض عرضها بالعمل في البلاط. ابحثوا لي عن سبب مقنع قالت لا أكثر.
وبعد أيام قليلة، عادوا بتهمة خيانة.
“أنا بريء يا جلالة الملكة، لا يمكن لجلالتك أن تنسب إليّ ما لم أفعله.”
تذكّرت نظرته حين قال ذلك — نظرة حادة متماسكة، في وجهٍ بارد كقطعة من الجليد.
كم تمنت في سرّها لو أطال النظر إليها ولو قليلاً، حتى لو كان نظره مشحوناً باللوم والمرارة، فقط ليراها هي.
وكم تاقت لأن تسمع صوته، ولو مرة واحدة، يناديها باسمها — ليوبولدين — لا جلالتك
لكنها كانت الملكة، وإن أفصحت عيناها عن شيء من اهتمامها به، فلن تسمح له أبداً بأن يراها كامرأة تتلوى شوقاً إليه ومع ذلك، لم تكن تحتمل فكرة أن تراه هو يتلوى شوقاً لنيل رضاها
“لهذا اخترتك، يا كيث دالمر.”
نظرت إلى أصابعها الخالية من أي خاتم أصابع رقيقة لدرجة أنك قد تصدق أنها لم تمس سوى الحرير والذهب، مع أنها غُمست غير مرة في الدم والوحل حين اقتضت الحاجة.
في يومٍ ما، ستتألق في هذه الأصابع خاتمٌ يضعه الرجل الذي سيجلب القوة لعائلتها الملكية، ويشاركها حمل مملكة ألجونكوين بأكملها.
ومع ذلك، كانت تعلم طبيعة الرجال الذين يُلقَّبون بـأخشاب الملوك — كم هم قساة وخسيسون في حقيقتهم عمّها كونراد، وعمّها إليوت، ووالدها سيسيل، وحتى شقيقها ليوبولد، الذي كان لامعاً إلى حدٍّ جعل الجميع يهابونه أكثر من ولي العهد المريض.
وربما كان العرش نفسه هو ما يجعلهم كذلك.
ومن بين أولئك الذين شوّههم العرش، كانت هي أيضاً — تلك الفتاة الضعيفة من ألبرَيد، التي أصبحت اليوم أقوى امرأة في البلاد.
“…لذا، أسعدني الآن.”
ابتسمت ليوبولدين، وعيونها الفضية تلمع ببريق غامض لتؤجل إذن الحديث عن الزواج الملكي والمكائد السياسية وخطط السيطرة على المملكة بأسرها الآن، فقط الآن، ستتبع ما يمليه عليها قلبها، باحثةً عن متعة عابرة مع أجمل رجل رأته عيناها.
“فأنا ملكتك.”
أنا ملكتك.
وأنت تابعي وحدي.
كان صدى تلك الكلمات حلواً كحلوى السكر، يذوب بلا أثر ما إن يلامس طرف اللسان، ومع ذلك لا يمكن مقاومة طعمه.
وكطفلةٍ لم تذق الحلوى يوماً، تجرّعت هي ذلك الصدى الحلو بشراهة، وابتلعت ريقها متذوقةً حلاوته حتى آخر قطرة.
التعليقات لهذا الفصل " 21"