في اليوم التالي، عندما استيقظت برايونـي من نومها وتهيأت بخفة ونزلت إلى الطابق السفلي، كانت الأغطية البيضاء التي غطّت أرجاء الطابق الأول قد أزيلت تمامًا، وكانت غرفة الجلوس دافئة بعد أن أُشعلت فيها النار بسخاء.
بدا المكان وكأنّ الناس كانوا يعيشون فيه منذ زمن، فقادها المشهد كالمسحورة إلى داخل الغرفة.
كان الأثاث يلمع لدرجة يصعب تصديق أنّها تُركت مهملة لمدة طويلة، ولم يكن على النوافذ ولا على رفّ الموقد ذرّة غبار واحدة.
وحده الركن القريب من الموقد امتلأ بالرماد، ربما لأن النار كانت تُوقد فيه كثيرًا.
ومن خلال النافذة، رأت الممرّ الذي سارت فيه بالأمس مع ميرتل، والنهر الممتدّ خلفه، وأشجار الصفصاف خالية من الأوراق التي ملأت الأفق أمامها سيكون المشهد رائعًا حين يحلّ الربيع
حاولت أن تتخيّل كيث واقفًا هناك في ذلك المشهد، لكنّها لم تأتِ إلى هذا المكان برفقته قط، فلم تستطع أن تستحضر صورته بوضوح.
“هل استيقظتِ يا سيدتي؟”
ظهر ديميتري عند المدخل، منحنياً في تحية مهذّبة، مرتديًا كالعادة زيّ الخادم المثالي.
“وجبة الإفطار جاهزة إن شئتٰ أحضرتها إلى غرفتك ”
“سأتناولها في غرفة الطعام، وتناولها أنت أيضًا معي يا ديميتري هل استيقظت ميرتل؟”
“في الحقيقة، الآنسة ماير ساعدت في إعداد الطعام.”
كانت غرفة الطعام بدورها مجهّزة على أكمل وجه، وكأنها تستعدّ لاستقبال عشرين ضيفًا دفعة واحدة الشمعدانات الفضية وأدوات الطعام المصنوعة من الفضة ومفرش المائدة الكتّاني، كلها كانت قديمة لكنها مصانة بعناية بالغة أما الأواني، فكانت من الفخامة بحيث تصلح لتقديم الطعام لجلالة الملكة نفسها.
لم ترَ برايونـي مثل هذه التحف حتى عندما ذهبت إلى إيبوني هايتس للمرة الأولى قبل ثلاث سنوات.
يبدو أنّهم لم يبيعوا هذه الأشياء بعد.
كانت تتذكّر أن كيث، قبل زواجهما، قال لها عرضًا إنّ عائلة دالمور اضطرت، في ذروة أزمتها المالية، إلى بيع ما ورثته من فضة ومجوهرات عبر الأجيال وقد ظنّت يومها أنّ الأمر كان صعبًا عليهم فحسب، لكنها لم تتوقّع أن يبقى شيء من تلك النفائس في هذا البيت.
لكن على أي حال، كانت تلك ممتلكات كيث، وله أن يتصرّف فيها كما يشاء، ثم إنها لم تعد زوجته، فلا شأن لها بالأمر.
“أظنّ أن هذا المكان كان خاليًا منذ سنوات، ومع ذلك تمت العناية به جيدًا.”
دخلت ميرتل وهي تدفع عربة صغيرة محمّلة بالطعام
“هل نمتِ جيدًا يا آنستي؟ كنت جائعة جدًا فتناولت بعض الطعام قبلك ، لكن هناك وفرة: لحم خنزير، وبيض، وخبز، وحساء.”
“لو علمنا أن السيدة قادمة، لأعددنا بعض الفاكهة أيضًا.”
“ آه، سيد ديميتري، لم أقل لك بالأمس، لكن هلّا تجنّبت مناداتها بـالسيدة ؟ آنستي هذه تلقت عرض زواج من اللورد وِيَردِيل نفسه! وأنتم تخدمون عائلة دالمور، فماذا لو سمع أحدهم يناديها بتلك الصفة؟ ألن يساء فهم الأمر؟ ”
وجدت برايونـي نفسها في موقف محرج كان كلام ميرتل صحيحًا، فهي لم تعد سيدة دالمور، بل مجرد ابنة غير متزوجة من آل أرلينغتون ومع ذلك، لم تكن تمانع أن يناديها ديميتري بـالسيدة أو بالأحرى، أن يعاملها كما لو كانت فردًا من العائلة.
“أعتذر يا آنسة، لقد أسأت التعبير.”
“إذن، هل أناديك بـالآنسة أرلينغتون ؟”
“من الأفضل أن تناديني باسمي فحسب.”
أومأ برأسه احترامًا.
“حسنًا، آنسة برايونـي.”
عندئذٍ بدت ميرتل راضية، وتركت أمام برايونـي كمية من الطعام تكفي لسيّدة بيت كبيرة، ثم انسحبت، كما فعلت بالأمس، لتمنحهما بعض الخصوصية شكرت برايونـي لطفها، ثم التفتت إلى الخادم
“كُلْ معي يا ديميتري.”
“لا يليق بي أن أتناول الطعام مع من أخدمها.”
“لكنك كنت تفعل ذلك أحيانًا مع كيث، أليس كذلك؟”
عندما تزوجت برايونـي وانتقلت إلى إيبوني هايتس أدهشها أن ترى زوجها الكونت وكبير خدمه شابين متقاربين في السن، حتى بدا لهما أنهما صديقان أكثر من كونهما سيدًا وخادمًا، بخلاف والدها السير غيديون أرلينغتون الذي كان يرهق خدمه بالأوامر.
“اللورد إيبوني لم يكن يحبّ التقيّد بالأعراف… لكن لو علم أني جلست إلى مائدتك ، لما سرّه ذلك.”
“فلتجلس إذن، على الأقل فما زال بيننا ما نتحدث عنه.”
جلس ديميتري أمامها على مضض
“أخبرني عمّا حدث بعد مغادرتي لإيبوني.”
“عمّ تريدين أن تعرفي تحديدًا؟ كما قلت لك، اللورد إيبوني بخير.”
“لكنك قلت بالأمس حتى الآن , وهذا يعني أنه قد لا يبقى بخير.”
كانت برايونـي زوجة كاتب في المحكمة العليا، لذا كانت تعرف ما يحدث للنبلاء عند اعتقالهم فإذا وُجدت أدلّة، يُحالون إلى المحكمة العليا للمحاكمة، ويُبتّ في ذنبهم أو براءتهم أما المتهمون بالخيانة، فتلتحق قضيتهم بجلالة الملكة أو من ينوب عنها، وليس لهم حقّ في الدفاع بواسطة محامٍ.
“هل تمّ تحديد موعد المحاكمة؟”
ظلّ صامتًا.
“ديميتري، لقد قلت لي البارحة إنك ستخبرني بكل ما أريد معرفته.”
بدت الحيرة على وجهه، وكأنه لم يقرر بعد إن كان عليه أن يجيبها أم لا لم تكن تعرف السبب، لكنها كانت واثقة من شيء واحد.
“هل تعتقد أن كيث قد يخون بلاده؟”
تحدث بسرعة وفي عينيه بريق ألمٍ واضح
“مستحيل اللورد إيبوني… لا يمكن أن يفعل ذلك أبدًا.”
“إذن، هل من وسيلة لإثبات براءته؟ أليس هناك من يمكنه مساعدته؟”
“لقد أرسلنا رسالة إلى الماركيز سايمور في المحكمة العليا، وهو رئيس اللورد إيبوني.”
“وماذا بعد؟”
“الكونتيسة وينسلو، عمّته الكبرى، في فترة نقاهة الآن…”
“في محاكمة النبلاء، لا يُسمح إلا لأفراد العائلة أو النبلاء بالحضور، أليس كذلك؟”
أومأ برأسه بصمت وهذا يعني أنه، مهما حاول ديميتري، فلن يُسمح له بحضور الجلسة ما لم يُستدعَ بصفته شاهدًا.
“أبذل قصارى جهدي، لكن عائلة دالمور ليست على معرفة وثيقة بكثير من النبلاء…”
حتى لو كانوا يعرفون الكثيرين، فمن ذا الذي يجرؤ على مدّ يد العون في مثل هذه القضية؟ تنفّست برايونـي تنهدت تنهيدة خفيفة
“ابنة البارون أيضًا تُعدّ من النبلاء، أليس كذلك؟”
صمت.
“حتى لو كنتُ زوجته السابقة، فأنا ما زلت من العائلة فهل من سبب يمنعني من الشهادة؟”
“سيدي لا يريد أن تُورّطي نفسك في هذه القضية يا آنسة.”
“لكنه لا يملك الحقّ في أن يريد ذلك.”
رفع رأسه بدهشة إلى وجهها، فرأت في عينيه حيرة صامتة، فأكملت كلماتها بوضوح وثبات
“من الذي يرغب في أن يُقال إن زوجها السابق متهم بالخيانة؟ لا أحد، بالطبع هذه تهمة أسوأ من أن تناديني بـالسيدة.”
تبدّل تعبير وجهه شيئًا فشيئًا، حتى ارتسمت على ملامحه مزيج من الدهشة والإعجاب عندها أدركت برايونـي أنه فهم مقصدها.
فلا توجد امرأة ترغب في الارتباط برجل وُصم بالخيانة أو بالتواطؤ مع العدو، حتى لو كان ذلك الرجل زوجها السابق لذلك، كان من الطبيعي أن تسعى السيدة السابقة لإيبوني إلى إثبات براءته، ليكون ذلك مبرّرها الظاهري قد لا ينجح الأمر تمامًا، لكنه يبقى أفضل من أن يترك ديميتري يواجه الموقف وحده
“إذن، دعني أساعد كيث وإن لم يَرُقْ لك ذلك، فاعتبر الأمر من أجل زواجي القادم.”
فسألها ديميتري بعد لحظة صمت طويلة
“هل لهذا السبب رفضتِ عرض اللورد وِيَردِيل بالزواج؟”
لم يكن الأمر كذلك فقد تقدم اللورد وييردِيل لخطبتها رغم علمه بأن كيث قد اعتُقل بتهمة الخيانة.
أومأت برأسها نفيًا دون أن تنطق بكلمة إن رفضها لعرض اللورد وييردِيل لم يكن لذلك السبب، لكنها لم تردّ أن يصل مضمون هذا الحديث إلى كيث فيتصور أن الرفض كان بسببه.
“إذن أخبرني الحقيقة الآن لا بد أن الماركيز سايمور قد بعث بردّ، أليس كذلك؟”
“وكيف علمتِ بذلك؟”
“لو كنت مكانك، لكنت هدّدتُه بأن سمعة المحكمة العليا بأسرها ستتلطخ إن لم يساعد كيث ومن أجل الحفاظ على مكانته، لا بد أنه أجاب على الرسالة.”
ابتسم ديميتري بدوره، ثم أخرج من جيبه ورقة مطوية بعناية، ومدّها عبر المائدة إلى برايونـي فتحتها وبدأت تقرأ
[تلقيتُ عريضة الاسترحام المخلصة التي أرسلتها يبدو أن الكونت دالمور ليس في السجن، بل في أحد المرافق القديمة التي كانت تُستخدم لاحتجاز أفراد العائلة المالكة سابقًا
وقد تقرر أن يتولى رئيس عيون الملكة التحقيق نيابةً عن جلالتها وستُعقد الجلسة في نهاية هذا الشهر، وسيُحكم على الكونت دالمور بالبراءة أو الإدانة تبعًا لمدى قوة الأدلة التي تُثبت التهمة.
أما زملاؤنا في المحكمة العليا، فقد وعدوا ببذل قصارى جهدهم للدفاع عنه.]
قرأت برايونـي نص الرسالة مرتين أخريين لتتأكد من استيعابها الكامل لمحتواها وكانت الجملة الرابعة هي ما يهمها بالدرجة الأولى.
“هل أخذ محققو جلالة الملكة شيئًا من إيبوني هايتس ؟”
“بحسب ما تأكدتُ منه أنا والسيدة ميرسي، لم يأخذوا شيئًا يُذكر.”
تمتمت برايونـي بصوت منخفض
“هذا ليس أمرًا جيدًا…”
“لأنكِ تعتقدين أن الأمر مجرّد افتراء عليه؟”
لو كان المحققون قد قرروا تلفيق التهمة لكيث عمدًا، لوجدوا ذريعة لاعتقاله حتى دون دليل واضح لكن ما كان يقلق برايونـي هو أمر آخر تمامًا.
“إن كان هناك شيء فعليّ وُجد ولم تعرفه أنت، فلن يكون لدينا أي سبيل للدفاع عنه.”
“هذا مستحيل، لم يُعثر على شيء من هذا القبيل.”
كان صوته قويًّا لدرجة أن برايونـي نظرت إليه دون قصد، فلاحظ نظرتها وسارع إلى أن يضيف
“لأن سيدي بريء، دون شك.”
كانت برايونـي تتفق معه في ذلك.
لكنها لم تكن واثقة إن كانت تعرف زوجها كما يعرفه هذا الخادم الوفي.
فكيث كان قد خدم أرض أسرته الممنوحة من التاج بإخلاص وأمانة، وكان لا تشوبه شائبة، سواء بصفته اللورد الإقطاعي، أو عضوًا في المحكمة العليا، أو ربّ أسرة نبيلة ومع ذلك، في لحظة غير متوقعة، أبلغها بقرار الطلاق.
إن كان لدى كيث سبب لم أعرفه…؟
وإن كان ذلك السبب مرتبطًا باعتقاله…؟
تذكّرت قول اللورد وييردِيل
“في هذه المملكة كثيرون لا يترددون في استغلال من يجهلونهم جيدًا، وربما كان أحدهم هو من لفّق التهمة للّورد إيبوني، أو من يسعى إلى الاستفادة من غيابه.”
كان قد ألمح آنذاك إلى أن من بين من تقدموا للزواج من برايونـي بعد طلاقها، ربما يكون أحدهم هو من تآمر ضد كيث.
لكن… ماذا لو فكرتُ بالأمر بالعكس؟
إذا تطلق الكونت دالمور من زوجته، ثم اعتُقل ولم يعد أحد يرغب بالاقتران به، فمَن الذي سيجني الفائدة من ذلك؟
فالزواج الثاني لا يُفرض بالضرورة على الأرامل أو المطلقات الثريات ليتزوجن من نبلاء معدمين؛ فقد يكون الرجل أيضًا شابًا، حسن المظهر، ذو منصب مرموق، ولقبٍ وإقطاعٍ محترم — إن أراد، فله أن يختار كما يشاء…
لا، إنها مجرد أوهام.
هزّت برايونـي رأسها في داخلها لم يكن الوقت مناسبًا لترك أفكارها تنجرف نحو الظنون التي قد تزرع الشك في كيث لم تعرف حتى لماذا أخذت أفكارها هذا المنحى.
ربما لأنها ما تزال مضطربة بعد ما قاله اللورد وييردِيل، وبعد كل ما تلاه من أحداث غريبة في حياتها.
ثم التفتت إلى الخادم الذي كان ينتظر ردّها
“اكتب ردًّا إلى الماركيز سايمور، واطلب منه أن يسمح للسيدة السابقة لإيبوني بالمثول كشاهدة في المحاكمة، واسأله أيضًا عن طبيعة التهمة الموجَّهة إلى كيث بالتحديد.”
قال ديميتري وهو ينحني احترامًا
“مفهوم.”
“وإذا أمكن، انسخ سجلات الحسابات منذ شهر ديسمبر الماضي، وصدّقها رسميًا فقد نحتاج إلى تقديمها كمستندات للمحكمة.”
اتّسعت عينا ديميتري دهشة، لكنه سرعان ما خفَض نظره وقال باحترام شديد
“سأنفذ أوامرك يا آنسة.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 20"