بالطبع، لم تكن بريوُني تنوي أن ترقى إلى مستوى توقعات والدها.
لم يكن والدها يحب الفستان الزيتوني الذي كانت ترتديه، لكنها كانت تحب هذا الثوب لما يحمله من ذكرى خاصة كان هذا هو الثوب الذي أهداها إياه كيث ذات مرة أثناء شهر العسل، حينما ابتلّ ثوبها أثناء ركوب القارب واضطرت إلى تغييره.
“لأن هذا اللون يليق بعينيك…”
كان كيث يبدو متضايقًا طيلة الرحلة، لكنه رغم ذلك قال لها كلامًا لطيفًا بدافع المجاملة.
أما ميرتل فقد بدت متحمسة للفستان، إذ قالت إن هذا اللون بالذات يعدّ من أحدث صيحات الموضة.
“سيدتي، هذا اللون الأنيق بالذات منتشر جدًا في المجتمع هذه الأيام يسمونه أسلوب ‘إثنيك’.”
وفوق ذلك، كان هذا الثوب عمليًا أيضًا؛ فثمة جيب صغير في طرف التنورة، وقد استطاعت بريوُني أن تخبئ فيه رغيفًا من الخبز لتخرجه معها جلست على طرف السرير تمضغ الخبز ببطء لتسدّ جوعها.
كان خدها لا يزال يؤلمها من الصفعة التي تلقتها من والدها لكنها لم تبكِ، ولم تَنظر في المرآة لترى كم تبدو في هيئة بائسة؛ لأن ذلك بالضبط ما كان والدها يود رؤيته.
وبعد أن انتهت من أكل الخبز، توجهت إلى الخزانة وأخرجت بعض الأغراض: كيسًا فيه جميع مجوهراتها ونقودها، معطفًا، قفازات، قبعة، وبعض ملابس الخروج رتّبتها جميعًا في حقيبة كبيرة، ثم أخرجت من زاوية الخزانة زيّ ركوب الخيل وارتدته.
وحين انتهت من تجهيز كل ما يلزم، تمددت بريوُني على السرير لترتاح — أو بالأحرى، كانت تنوي أن تستريح — لكن جسدها ظلّ يرتجف، ولم تستطع أن تهدأ حاولت التنفس بعمق كما اعتادت، لكن الكلمات التي سمعتها من جيديون ظلت تتردد في ذهنها، فعجزت عن ضبط إيقاع أنفاسها.
“تصرفاتك تمامًا مثل أمك.”
“تتصرفين وكأنكِ أرفع من الجميع، وتنظرين إليّ بازدراء.”
“ما عليك إلا أن تختاري أفضل رجل في الحفلة وتتزوجيه بأسرع وقت، وتغادري بيتي.”
…وكذلك كلمات اللورد ويرديل:
“لابد أن ضباعًا لا تهتم إلا بالمهر يتوافدون على شوبري الآن ليتقدموا لكِ إن لم تريدي أن تظلي موضوع حديث القوم، فالأفضل أن تتزوجي برجلٍ مثلي، صاحب لقب ونفوذ.”
“أهكذا هو الأمر؟ هل الزواج برجل آخر هو الخيار الوحيد المتاح لي الآن؟”
“رغم أن طلاقي لم يُتم شهرًا بعد…؟”
فتحت بريوُني كيس المجوهرات الموضوع قرب رأسها وأخرجت منه شيئًا كان خاتم زواجها الذي أهداها إياه كيث.
حتى صباح اليوم الذي غادرت فيه إيبوني، كانت لا تزال ترتديه لكن في طريقها إلى شوبري، أشارت ميرتل بلطف إلى الخاتم، فخلعته على مضض ووضعته في هذا الكيس.
وربما سيأتي اليوم الذي تضطر فيه إلى بيعه وإن لم ترغب بذلك، فعليها الأخذ بنصيحة اللورد ويرديل.
بينما كانت غارقة في التفكير، كادت أن تفوّت الصوت.
طق.
طَقطَق.
كان هناك شيء يطرق نافذتها.
نهضت بريوُني فجأة وركضت نحو النافذة.
كان وجه مألوف ينظر إليها من الأسفل بقلق واضح، ويده ممسكة بحفنة من الحصى.
“سيدتي—”
“شش.”
قاطعتها بريوُني قبل أن تُكمل، ثم حرّكت شفتيها بهدوء:
“سَ-لَّ-م–أَ-حْ-تَاجُ-سُلَّمَ.”
وكانت ميرتل فطنة، فلا بد أنها أدركت ما تنوي سيدتها فعله.
لكن من غير الممكن أن تتمكن ميرتل وحدها، في هذه الساعة من الليل، من إحضار سلّم يستخدمه البستاني عادة.
فلما أدركت بريوُني ذلك، أخرجت من كيسها عملة ذهبية واحدة.
اتسعت عينا ميرتل حين رأت العملة التي سلمتها بريوُني ملفوفة في منديل.
ثم أشارت بريوُني بيدها إلى جهة الإسطبلات خلف تياري هيفن.
وكحال بقية منازل النبلاء، كان في منزل آل أرلينغتون حارس دائم في الإسطبل تحسّبًا لأي خروج طارئ ليلاً.
أومأت ميرتل برأسها ثم ركضت باتجاه الإسطبلات.
كانت غرفة بريوُني في الجهة الشرقية من الطابق الثاني، أما غرفة السير جيديون أرلينغتون فكانت في نهاية الجناح الجنوبي المُضاف لاحقًا.
وهذا يعني أن والدها لن يرى ما تنوي القيام به.
بل إن كونها تسكن في أبعد غرفة في المنزل، لأن والدها يكره حتى أن يصادفها، كان أمرًا جيدًا في هذه اللحظة.
وإن كان والدها جالسًا في مكتبة الطابق الثالث الآن، فهي تأمل في ألا يخطر له أن ينظر من النافذة عبثًا.
وبعد دقائق، عادت ميرتل ومعها رجل قوي البنية يحمل سلّمًا على ظهره.
كان رجلاً من خدم تياري هيفن، من القلائل العاملين من الذكور، وهو سائق الخيول.
وحين لمح بريوُني عند النافذة، اتسعت عيناه من الدهشة.
لكن ميرتل أسرعت وهمست له بشيء وهي تعطيه العملة الذهبية.
ظلّ ينظر مترددًا بين العملة وبين “الآنسة”، لكنه في النهاية، وكأنه قرر أمره، ثبت السلّم على الجدار.
فلما بدأ يصعد السلّم، لوّحت له بريوُني بقوة أن يتوقف.
فهي قادرة على تسلق السلّم بنفسها — وهذا مما تعلمته أثناء وجودها في إيبوني هايتس.
حينها، كانت دجاجة من نوع “سيام” قد طارت إلى سطح بيت أحد المزارعين المجاورين.
وكانت تسكن ذلك البيت عجوز مريضة لا تقوى على الحركة، أما عمّال إيبوني هايتس من الرجال فقد كانوا خارجًا يعملون في ترميم الجسر.
جاءت العجوز تشتكي أن دجاجتها العزيزة قد تسقط من السقف وتموت، فخرج كيث ليرى الأمر.
ولحقته بريوُني، وأمسكت السلّم بينما كان هو يصعده.
وبعد لحظات، ظهر كيث على السطح ممسكًا بالدجاجة البيضاء.
“بريوُني، اصعدي قليلاً منظر الغروب الآن رائع.”
وبعد أن أعاد الدجاجة بسلام، ساعد بريوُني في الصعود.
وإن لم تكن تتذكر منظر الغروب ذلك اليوم جيدًا، فهي لم تنسَ اهتمام كيث وحرصه حين لبّى نداء المرأة دون تذمر، ولا كيف ثبت السلّم بيده من الخلف ليحميها من السقوط.
ذاك اللمس الخفيف لظاهر كفه بظاهر كفها بقي أرسخ في ذاكرتها من آلاف مشاهد الغروب التي رأتها بعده.
ألقت بريوُني أمتعتها من النافذة، ثم بدأت في النزول عبر السلّم.
وكان السائق يتلوّى قلقًا خشية أن تسقط، لا حرصًا عليها، بل خوفًا من العقاب إن أصابها مكروه.
“آه، آنسة بريوُني، ما الذي يحصل بالضبط—”
“جهّز حصانًا هادئًا يكفي لامرأتين وإن سار كل شيء كما أريد، فستحصل على عملة ذهبية أخرى.”
وكانت العملة الواحدة تساوي أكثر من أجر عشرة أيام لأي خادم.
لكن السائق لم يبدُ مرتاحًا تمامًا، فقد كان ذكيًا بما يكفي ليدرك أنها تنوي الهروب على ظهر الحصان، وأن قيمة الحصان الواحد لا تعادل تلك العملة الذهبية.
طمأنته بريوُني قائلة:
“سأترك الحصان في إسطبلات شوبري العامة يمكنك أن تذهب صباحًا لتأخذه.”
“لكن إن علم السيد بما حدث…”
“لن يسره أبدًا ما سيفعله إن علم بما يحدث الآن.”
أمام تهديدها الذي بدا كنوع من الابتزاز، لم يجد السائق بدًّا من أن يقودهما نحو الإسطبل.
وأثناء سيرهما بمحاذاة جدار القصر، همست بريوُني إلى ميرتل:
“ميرتل، سأذهب بعيدًا من الآن فصاعدًا إن شعرتِ أن الأمر شاق عليكِ، فلا بأس إن لم تتبعيني.”
“وماذا سأفعل هنا من دونكِ يا آنستي؟”
توقفت ميرتل للحظة قبل أن تتابع:
”…إن كان لديكِ ما يكفي لتوظيفي، خذيني معكِ.”
“يمكنني أن أتكفل بواحدة مثلكِ.”
“كنت أعلم أنكِ ستقولين هذا، لذا ارتديت معطفي مسبقًا.”
تشابكت أيدي المرأتين بإحكام.
أما الحصان الذي أعدّه السائق فقد كان فرسًا بنيًا يبدو هادئ الطبع.
ربّتت بريوُني على عرفه بلطف.
صحيح أن جيديون لم يكن يحبها كابنته، لكنه لم يُقصّر في تعليمها كل ما ينبغي أن تعرفه لتصبح سيدة مجتمع في المستقبل — وكان تعلم الفروسية من بين تلك الأمور.
“ميرتل، ما عليكِ إلا أن تمسكي باللجام جيدًا وتبقي جالسة.”
“وإلى متى سنظل راكبتين؟…”
سألت ميرتل بتردد، لكنها سرعان ما أدركت أن السائق قريب منهما ويسمع، فالتزمت الصمت.
عندها وجهت بريوُني تعليماتها إلى السائق من جديد:
“سنخرج من الباب الخلفي، اذهب وافتحه أولاً، وعندما نخرج أعد إغلاقه.”
“يا آنسة، هذا خطير للغاية هذه الفرس مدربة جيدًا، لكن الطريق مظلم، والمنحدر عند الباب الخلفي شديد الانحدار.”
“لن أركض بسرعة.”
“لكن ماذا إن رآكِ أحد وأنتِ تمتطين الحصان؟ أنا المسؤول عن خيول السير جيديون أرلينغتون.”
كان لكلامه ما يبرره، فلو خسر وظيفته بسبب مساعدته لها مقابل قطعتي ذهب، لكانت خسارة كبيرة لا تُعوّض.
“حينها قل إنني أجبرتكَ.”
“لكن السيد…”
نظرت بريوُني بسرعة حولها، ثم التقطت مذراة حديدية ثقيلة كانت معلّقة على أحد جدران الإسطبل، حيث تُعلّق الأدوات اللازمة للعناية بالخيول، ورفعتها عاليًا.
تراجع السائق مذعورًا إلى الخلف.
“يا آنسة، هذا خطير قد تُصيبينني فعلًا.”
“قل إنني هددتكَ بها ودفعتك لإعطائي الحصان.”
كانت المذراة ثقيلة بدرجة تجعل حملها لفترة طويلة مرهقًا، لكن إلحاق الأذى بها لم يكن يتطلب الكثير من القوة.
كان عزم بريوُني لا يتزعزع.
فلو استمرت في تضييع الوقت هنا، وانكشف أمرها أمام هارولد أو جيديون، لذهب كل شيء أدراج الرياح.
كانت على استعداد حتى لضرب السائق فعلاً إن لزم الأمر، لتأخذ الحصان.
قال السائق متلعثمًا:
”…لا، لا تنوين فعلًا أن تضربيني بها، أليس كذلك؟”
“خدش بسيط هنا أو هناك لن يقتلك.”
“لكن إن أصيب بالتهاب، فقد يؤلم كثيرًا.”
أضافت ميرتل.
فهي كانت الابنة الأذكى للطبيب الوحيد في شوبري.
ولهذا، لم يكن أمام السائق خيار سوى الانصياع لأوامر الآنسة.
”…فقط تأكدي من ترك الحصان في إسطبلات شوبري العامة ولا تؤذيه.”
“لن يُمسّ ولو بشعرة.”
وضعت بريوُني قدمها على يد السائق الذي ساعدها على الركوب، ثم صعدت إلى السرج.
ثم لحقت بها ميرتل بتردد، وصعدت بدورها.
لم تكن بريوُني فارسة ماهرة، لكن السير بخطى هادئة لمسافة عشر دقائق لم يكن أمرًا صعبًا عليها.
وحين عبر الحصان — الذي يحمل الاثنتين — البقعة المظلمة ليصل إلى البوابة الخلفية لتياري هيفن
همست ميرتل:
“آنستي، إن رحلنا الآن، فقد لا نعود أبدًا.”
وكانت تعني بذلك أنها يجب أن تلقي نظرة على تياري هيفن، حيث قضت طفولتها، طالما سنحت لها الفرصة.
لكن بريوُني لم تلتفت خلفها.
فهذا المكان، وإن كان بيتًا، لم يكن لها وطنًا، بل كان مكان طفولة لم تكن يومًا سعيدة.
عاشت فيه ما يقارب العشرين عامًا مع والدها — الشخص الوحيد الذي كان من دمها — لكنه كان أقل شأنًا من الغريب في حياتها.
في المرة الماضية التي غادرت فيها تياري هيفن، كانت ذاهبة لتتزوج رجلاً غريبًا قبلها من أجل مهرها، لكنها على الأقل شعرت حينها بالارتياح لأنها لن تعود إلى هذا البيت مرة أخرى.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات