كان الأمر غريباً.
مما قرأته أنري، لم يُحسن إدوين إدارة شؤون العائلة منذ أن التقى إيرزي.
وربما لم يحدث أي تغيّر ملحوظ قبل ذلك أيضاً.
إذ لم يكن لإدوين أي عاطفة خاصة تجاه عائلته.
لم يكن لديه سبب ليحب أسرته أو منزلهم.
بالنسبة له، كانت العائلة مجرد أشخاص يشتركون معه في اللقب لأنهم وُلدوا فيه.
بل إن الأشخاص الذين يختارهم بنفسه كانوا أكثر أهمية في حياته.
على سبيل المثال، إلزي…
ولكن، كيف يمكن لشخص مثل إدوين أن يُبدي اهتماماً بفرخ صغير؟
إلا إذا مات ثم عاد إلى الحياة وقد تاب!
قطّبت أنري حاجبيها في حيرة.
إلا أن هناك احتمالاً آخر.
«همم… هل يقول ذلك فقط؟ من ذا الذي سيعترف علناً بعدم ارتباطه بعائلته، خاصة وهو دوق؟»
إن كان إدوين يملك فعلاً ما يكفي من الاهتمام ليُمسك بخيوط كل زاوية في منزل الدوق، فسوف تكتشف أنري ذلك عاجلاً أم آجلاً.
فهي ستعيش معه على كل حال.
أو ربما كان بإمكانها سؤال الخدم عن إدوين في هذه اللحظة.
لكنها رأت أنه من الأفضل ألا تفعل.
فما لم يأتِ الحديث عنه بشكل طبيعي، لم ترغب أن تبدو وكأنها تنبش في سيرته.
وهي لا تزال متحيرة قليلاً، شرعت أنري في تبديل ثوبها.
بما أنها جُرّت مباشرة من الحفلة ولم تتمكن حتى من العودة إلى منزلها، لم يكن لديها ثياب أخرى.
ولحسن الحظ، وبأمر من الدوقة الكبرى، جرى شراء ثوب مسائي من متجر قريب.
إلى جانب الفستان، جُهّزت لها أيضاً عدة أزياء مناسبة لولائم الشاي والغداء وغيرها.
كما أُضيفت إليها إكسسوارات متنوعة، وحتى الملابس الداخلية مثل التنورات.
كان الثوب بلون وردي باهت، يشبه الورود المجففة.
فستان مسائي ذو ياقة منخفضة وأكمام قصيرة.
زينت الكتفين والصدر كُسوة ذهبية متلألئة، تتلألأ بخفة مع حركتها.
وبفضل ذلك، بدا الجلد الذي يكشفه الفستان أكثر إشراقاً.
سرّحت أنري شعرها بفرق جانبي، تاركة الخصلات الجانبية تغطي أذنيها بشكل طبيعي.
أما شعرها من الخلف فجدلته في ضفيرة واحدة ورفعته منخفضاً لتكمل التصفيفة.
تسريحة كلاسيكية ورومانسية في آن، مألوفة لعصرها، أسعدت أنري كثيراً.
✩₊˚.⋆☾⋆⁺₊✧
“تشرفت بلقائك يا آنسة وينتوورث.”
سرعان ما تبادلت أنري التحيات مع الخدم الذين التقتهم خلال جولتها في القصر.
ركزت على حفظ ملامحهم وأسمائهم.
ومع أن عدد الموظفين الذين قُدِّموا لها تجاوز الخمسين، إلا أنها شعرت بتعب شديد في رأسها.
ولا يزال هناك المزيد ممن لم تتعرف عليهم بعد.
مع ذلك، وقفت أنري معتدلة، محافظة على ابتسامة رقيقة وسلوك مهذب.
أرادت أن تترك انطباعاً جيداً، لا هو بالمتحفظ كثيراً ولا المتساهل.
لكنها حافظت على ابتسامة رسمية إلى أن شعرت بعضلات وجهها تؤلمها.
ومع ذلك لم تستطع أن تتعامل مع الخدم ببساطة تامة.
«إنه فقط أسلوب الطبقة العليا الجاف في الكلام… ما زال غريباً عليّ.»
لم تستطع أن تخاطبهم بالود ذاته الذي كانت تخاطب به خدم منزل وينتوورث.
وفوق ذلك، ورغم أنه كان من المسلّم به أنها ستصبح دوقة بريستون قريباً، إلا أنها لم تكن بعد زوجة ولا دوقة رسمياً.
فالخدم، وهم بشر مثلها، لن يطيعوها طاعة عمياء لمجرد أنها نبيلة وصاحبة عملهم.
الهيبة والوقار، مقرونان بالاعتبار المعقول، هما ما يكسبان الاحترام الحقيقي.
فالمظاهر الاجتماعية لم تُوجد إلا كي لا يُجرح كبرياء أحد، مهما كانت منزلته.
وبذلك يحصل الطرفان على ما يريدان في إطار يحفظ الكرامة.
ورغم أنها دوقة مؤقتة، إلا أن أنري رغبت في ترك أثراً حسناً.
لذلك ظلّت مهذبة مع الخدم.
وبعد أن أنهت جولتها الكاملة في القصر، كتبت رسالة إلى والدها.
ثم حان وقت التوجه إلى دار إليزا.
كانت دار إليزا، حيث تقيم الدوقة الكبرى، ضمن أملاك دوقية بريستون، مثل دار مايفير.
لكن لبعدٍ يسير، كان لا بد من ركوب عربة صغيرة.
جلست أنري في عربة لاندو ذات مقعدين وجوانب مفتوحة.
واختلست نظرة إلى إدوين الجالس بجوارها، وعيناها تضيقان في ريبة.
«إنه وسيم للغاية…»
تحت قبعته الحريرية السوداء، كان أنفه مرتفعاً مستقيماً على نحو غير واقعي، أشبه بتمثال رخامي.
أما بدلته، فكانت أنيقة مرتبة كأنه دمية عرض.
في نظر أنري، بدا أكثر خيالية من كونه شخصاً حقيقياً.
“جلالتك.”
“…؟”
عند ندائها المفاجئ، التفت إدوين إليها بتعبير فارغ.
حدقت أنري مطولاً في عينيه.
لمن يمكن أن تكون هاتان العينان؟
لم تكونا تماماً كما تخيلتهما وهي تقرأ عنه في الكتب.
كانتا أعمق وأشد ظلمة، سوداوين على نحو مكثف.
«واو… الدوق وإدوين يبدوان كشخصين مختلفين تماماً.»
خشيت أن يُصاب بانقسام في الشخصية.
فهما الشخص نفسه بوضوح، لكن لأسباب ما لم تستطع أن تراهما متطابقين.
وأخيراً، وصلا إلى دار إليزا، وهو قصر أصغر بكثير مقارنةً بـ دار مايفير.
كانت الدوقة الكبرى قد انتقلت إليه قبل ثلاث سنوات، خوفاً من ألا تتمكن من رؤية زوجة ابنها إن بقيت تحت سقف واحد مع ابنها البالغ.
وقد سمّت القصر باسم إليزا تيمناً بنفسها.
وكان في الأصل صالة عرض تعرض فيها تحفها الفنية.
وهكذا، عقدت أنري العزم.
فهي ستُعرّف يوماً ما على مجموعة الدوقة الكبرى.
إذ لم تكن الدوقة تشارك مجموعتها مع أي شخص إلا إن ربطتها به صلة عاطفية متينة.
“هوووف! هوووف!”
ما إن دخلوا القصر حتى ركض كلب صغير لتحية أنري.
كان كلب بولدوغاً صغيراً، وجهه وأنفه وفمه سوداء، أما جسده فلونُه بني مائل إلى الأصفر.
«آه، أهو الكلب الذي ربّته الدوقة الكبرى، براوني؟ ذاك الذي غرق في البحيرة خلال نزهة ومات؟»
راقبت أنري الكلب النشيط وهو يقفز حولها وينبح بمرح، بعينٍ مشفقة.
في نظرها، بدا أكثر طرافة من كونه جميلاً.
لكن هذه السلالة كانت رائجة جداً بين سيدات النبلاء هذه الأيام.
«بما أن الدوقة الكبرى تحبه بعد إدوين مباشرة، عليّ أن أتقرب منه. سأخرج به في نزهات كثيرة أيضاً!»
سحبت أنري ذراعها بلطف من ذراع إدوين، وهمّت بالانحناء نحو الكلب.
“مرحباً، براو”
“مرحباً بكِ يا آنسة وينتوورث.”
خرجت الدوقة الكبرى من غرفة الاستقبال بابتسامة ودودة.
سرعان ما وقفت أنري، ورفعت طرف فستانها احتراماً.
“مرحباً يا صاحبة السمو. أشكركِ على دعوتكِ.”
“آمل أن تكوني قد وجدتِ كل شيء مريحاً.”
وضعت إليزابيث يدها المغطاة بالقفاز على صدرها بلطف.
فردت أنري ظهرها وضمّت يديها بخفة.
“بفضل عنايتكِ الكريمة، كان يومي مريحاً جداً. وأنا ممتنة للثياب التي أرسلتِها.”
تألقت عينا إليزابيث وهي تتفحص أنري.
“تبدين رائعة. الفستان يليق بكِ تماماً. أليس كذلك، إدوين؟”
لكن ردّه كان:
“…نعم، أظن ذلك.”
إجابة فاترة.
ألقى إدوين نظرة جانبية سريعة نحو أنري قبل أن يجيب بهذا الشكل على سؤال والدته.
“فلندخل جميعاً.”
ثم تقدّم نحو قاعة الطعام بخطوات طويلة.
تبادلت أنري والدوقة الكبرى نظرة عابرة، وكأنهما تشاركتا نفس الفكرة.
لكن التقاء الأعين كان قصيراً جداً، وسرعان ما سارتا خلفه.
وبعينين نصف مغمضتين، حدقت أنري خفية في مؤخرة رأس إدوين.
«إن انكشف أمر الزواج الزائف، فسيكون ذلك ذنب إدوين وحده.»
✩₊˚.⋆☾⋆⁺₊✧
وأخيراً، حين جلس الجميع إلى الطاولة، دخل الخدم وبدأوا بتقديم الأطباق.
رغم أنها لم تكن جائعة، إلا أن رائحة الطعام شدّت معدتها.
نزعت أنري قفازيها من الدانتيل بسرعة ووضعتها في حجرها.
“أتساءل إن كانت والدة الآنسة وينتوورث وعائلتها قد وصلوا بخير.”
ألقت الدوقة الكبرى نظرة لطيفة نحو أنري.
بادلتها أنري بابتسامة لا تؤذي أحداً.
“نعم يا صاحبة السمو. في هذه اللحظة، يفترض أن يكونوا يتناولون العشاء. لا بد أنهم وصلوا بالفعل.”
“هذا مطمئن. يبدو أن البلدة ليست بعيدة كما تخيلت.”
قهقهت الدوقة الكبرى في تعجب من كلمات أنري.
فقد كانت تظن أنها أبعد بكثير.
والحقيقة أن إليزابيث كانت تعاني من قلة النوم مؤخراً.
ورغم أنها دفعت بزواج أنري من إدوين بسرعة، إلا أن قلبها لم يخلُ من القلق.
ذلك الشك لم يكن ليتبدد قريباً.
فهي لم تُظهر لأنري سوى لطف شكلي ورسمي، وابتسامات.
بالتأكيد، كانت أنري فتاة جميلة طيبة.
فأسلوبها الساحر الرقيق قادر حقاً على أسر من ينظر إليها.
ولو التقت بها في المجتمع بوصفها سيدة شابة مثلها، ربما أصبحن صديقتين.
لكن، هل قدَرُهما أن تلتقيا كزوجة لابنها، وهي الأم؟
رغم أنهما تنتميان للطبقة النبيلة، إلا أن أنري جاءت من عالم مختلف تماماً.
ولم يتضح بعد إن كانت ستجيد إدارة شؤون الدوقية بمهارة ورشاقة.
صحيح أن وجود إدوين يطمئنها قليلاً، لكن دور سيدة القصر عظيم في جانب آخر…
إذ عليها أن تنجب وريثاً وتربيه.
وكان من غير المؤكد ما إن كانت فتاة ريفية مغمورة قادرة على التأقلم في المجتمع الراقي.
فإليزابيث لطالما استقبلت شابات أرستقراطيات أرقى، أكثر خبرة وثقافة ورهافة من أنري.
حتى من دون أن تتساءل إن كنّ قد وُلدن في العاصمة، كانت تدرك بسهولة أنهن نشأن وسط أرفع الثياب والطعام والترف.
تولت تربيتهن مربيات كفوءات، وغرسن فيهن الرهافة والرقة.
فتعلمن الفنون والآلات، ولم يعرفن سوى كل ما هو جميل وأنيق.
أما أنري، فما الذي عاشته حقاً؟
لم تكبر في ظل رعاية والدين حانيين.
وربما تعرضت لظروف خشنة غير مهذبة.
«إن مُ
سَّت كرامة أسرة الدوق بسوء…»
مجرد التفكير في ذلك الاحتمال جعل رأسها يدور.
أما حين رأت زوجة الأب وبنات زوجها، ازداد قلقها.
غير أن فرصة إليزابيث لاختبار قدرات أنري جاءت أسرع مما توقعت.
ـــــــ
للتواصل
الانستغرام : @the_dukes_wife_obsession
التعليقات لهذا الفصل " 28"