كان إدوين ينظر إلى أنري بصمت، لكن بنظرة ثابتة لا تفارقها.
أما أنري، فكانت يداها متشابكتين بأناقة حول حقيبتها الصغيرة، ترفع عينيها إليه باهتمام.
انسياب وجهها المستدير الرقيق إلى عنقها الطويل المعتدل، ثم كتفيها العاريين وقد غطتهما خصلات شعرها الناعمة، بدا كله رقيقاً ولطيفاً.
لم تكن أنري تتجهل معنى كلماته.
بل على العكس، كان في ملامحها شيء من الاستغراب، بل حتى التوبيخ الخفيف: من هو ليدّعي أنه “برسيوسها”؟
شعر إدوين بالحرج من كلماته المندفعة، لكنه لم يسمح لنفسه بالتراجع.
لم يقلها غضباً، ولا على سبيل المزاح.
“ولِمَ تسأل؟”
كما توقع، ردّت أنري بهدوء، وبنبرة فضولية حقيقية.
عيناها الواسعتان، مثل ياقوتتين زهريتين، رمشتا ببراءة مرتين أو ثلاث.
ظل يطيل النظر فيهما، حتى خُيّل إليه أنه يرى تركيبتها الكريستالية الدقيقة…وتمنى لو يحصيها.
لكن فجأة، تنحنح رجل مسن بصوت عالٍ، وكأنه قصد أن يسمعاه.
التفت الاثنان معاً، ليجدا عدّة أشخاص ينتظرون بملل أن يبتعدا عن أمام لوحة.
“آه، عذراً.”
تقدمت أنري بخفة، رافعة طرف فستانها بيدها.
لقد وقفا طويلاً أمام لوحة.
أما الرجل، فاكتفى بأن يدير وجهه بعيداً، من غير حتى أن يعتذر.
ثم قال وهو يلتفت إليها مجدداً:
“سأوصلكِ بعد أن تنتهي من التجوال.”
“….؟”
“في الحقيقة، أريد أن أطلب منك خدمة.”
طلب منها أن تختار لوحة ليقتنيها.
ورغم أنه لا يعرف ذوقها، لكنه كان واثقاً أنه أفضل من ذوقه.
تحمست أنري فجأة، وكأنها صارت شخصاً آخر.
بدأت تسأله كم لوحة يريد، وأي أجواء يفضل.
لكنه قال ببرود إنه لا يهم، وإن لم تُعجب والدته فذاك ذنبها لأنها لم تحضر بنفسها.
اختارت أنري خمس لوحات، من بينها لوحة “برسيوس وأندروميدا” التي وقفت عندها سابقاً.
سألته بفضول:
“اللوحات التي اشتريتها اليوم، هل تنوي إعادة بيعها أو إهداءها لأحد؟”
“لست متأكداً.”
“قد تندم لاحقاً.”
“لا أعلم لماذا، لكن سأنقل كلماتك لوالدتي.”
خرجت أنري من المعرض وهي تشعر بغبطة غريبة.
اختيارها لخمسة أعمال باهظة منحها شعوراً بالفخر، كأنها هي التي اشترتها لنفسها.
كلها لوحات لفنان واحد، وكان ثمن الواحدة وحدها يكفي ليرتجف قلبها.
لكن الرجل لم يُبد أي اكتراث.
فاستمتعت أنري بذلك.
كان الأمر ممتعاً أن تُنفق أموال غيرها بلا تردد. وبما أنها ليست نقودها، فلا ذنب عليها.
وأثناء طريقهما إلى العربة، كانت تستشعر نظرات سيدات النبلاء.
عيون تختلس النظر من وراء مظلات صغيرة ومراوح مزخرفة.
لم يكن غريباً؛ فمظهر الرجل الأنيق يلفت الانتباه بلا شك.
اليوم بالذات بدا أكثر جاذبية من المعتاد؛ ثيابه الرسمية الفاخرة زادت من هيبته.
رغم كل تحفظاتها نحوه، لم تستطع أن تنكر أنه بلا عيب في مظهره.
كأنه تمثال حي، أو بطل في رواية.
لكن.. من هو هذا الرجل حقاً؟
فتح السائق باب العربة وقال باحترام: “تفضلي يا آنسة.”
دخلت أنري أولاً وجلست في المقعد المقابل للسائق، كما هو متعارف.
المكان الطبيعي أن يجلس الرجل في الجهة الأخرى، وظهره للسائق.
لكنها فوجئت حين جلس إلى جانبها مباشرة، وأُغلق الباب.
“أ… أليس المفترض أن تجلس هناك؟”
لم يكن مألوفاً أن يجلس رجل بجوار امرأة إلا إن كان زوجها أو قريبها.
كانت حريصة أن تحافظ على هذه القاعدة بالذات.
فجلوسه ملاصقاً لها نصف يوم كامل أمر لا يُحتمل.
لكن إجابته جاءت عجيبة، وهو يتكئ براحة ويضع ساقاً على أخرى:
“إن جلستُ بالعكس… سأشعر بدوار.”
أنري ضغطت شفتيها غيظاً، وألصقت نفسها بالنافذة لتترك مسافة بينهما.
لكن فجأة اقترب قليلاً، قائلاً ببرود:
“حتى قرب الباب… يُصيبني الدوار.”
نفد صبرها، فقامت وجلست في الجهة الأخرى مبتسمة بسخرية:
“عذراً، لم أفكر كثيراً حين قبلت أن ترافقني. بالطبع، صاحب العربة أحق بالمقعد الأفضل.”
عندها، تراجع إدوين قليلاً نحو النافذة، فيما نظرتها تقول بوضوح: راضٍ الآن؟
جلسا بصمت، والعربة تنساب بهدوء عجيب.
لكن بعد قليل، بدأ وجه أنري يبهت.
لقد كان جلوسها بالعكس لأول مرة، وها هو الغثيان يتسلل إليها.
لاحظ الرجل ذلك بسرعة، فحرّك نفسه جانباً، مفسحاً لها مكاناً بجانبه:
“يبدو أن آنسة أنري أيضاً لا تتحمل الجلوس بالعكس.”
ترددت لحظة، ثم انتقلت إلى جواره.
همّت أن تشكره، لكن تردّدها أضاع عليها الفرصة.
جلست منتصبة، وشعرها الطويل انساب على كتفها كالشلال.
جلوسها قربه جعلها تشعر لأول مرة بمدى الفرق في الحجم بينهما؛ ركبته تتجاوز ضعف ركبتها.
في الحقيقة… هذه أول مرة أكون فيها وحدي مع رجل غريب منذ وُلدت.
ثم صححت في ذهنها: لا، كنت وحدي مع فتيان كورتني كثيراً.
تذكرت إعجاب الأولاد بها هناك: غيلبرت، ديفي، فريد، تشارلي، روي…
كانوا بالعشرات، يطلبون الخلوة ليعترفوا بحبهم.
لكنها لم ترَ في أحدهم رجلاً حقيقياً.
بل كانت تشعر بالحرج، وتود الهرب من ثقل اعترافاتهم.
أما الآن، فالوضع مختلف.
جلوسها قرب هذا الرجل جعل قلبها يتصرف على نحو غريب.
في تلك اللحظة، قطع إدوين الصمت فجأة:
“تبدين على وفاق جيد مع شقيقاتكِ.”
ابتسمت أنري برقة:
“نعم، نحن كذلك. لدرجة أنني أقلق أحياناً من تأخر زواجهن.”
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه:
“سيطول الأمر كثيراً قبل أن يحين دورك، آنسة أنري.”
ردت بخفة:
“في هذه الأيام، قد تتزوج الصغار قبل الكبار.”
أشاح بوجهه قائلاً بفتور:
“هذا حسن.”
لكن سرعان ما تابع، بنبرة مختلفة قليلاً:
“بل… أعني أنني أخشى أن أظل أنتظر حتى ذلك الحين.”
اتسعت عينا أنري بدهشة.
منذ ذكره كلمة “برسيوس”، وه
ي تشعر أنه يخفي شيئاً.
لذلك، لم تتهرّب من عينيه، بل قابلت نظرته مباشرة.
ـــــــ
للتواصل
الانستغرام : @the_dukes_wife_obsession
التعليقات لهذا الفصل " 14"