مهما كانت عمليةً عسكرية، فكيف يُتخذ قرارٌ بهذا الحجم دون حتى تلميحٍ واحد؟
“ولأي غرضٍ تحديدًا؟”
“قال لي أن الهدف هو قطع خطوط إمداد العدو. كلامٌ غير معقول. حسنًا، بالنظر إلى تحركاته الأخيرة، لم يعد شيء يثير الدهشة….”
عاد فريدريش ينظر إلى فانيسا.
“المهم أنه يتحرك الآن في اتجاه لا يمكن التنبؤ به إطلاقًا. وما حدث في براير مثالٌ واضح. في الظروف المعتادة كان سيلقي بالأمر على عاتقي فورًا. بل ربما كان سيتجاهله وينساه تمامًا.”
لكن بدلًا من ذلك، منح أحد خاصّته لقب كونتٍ وعيّنه سيدًا على قلعةٍ حدودية تحاذي سلسلةً جبلية.
كانت فانيسا تظن أنها تعرف فيلياس أكثر من أي شخص آخر. لكن ما سمعته الآن من فم ولي العهد كان بعيدًا كل البعد عن طبيعته المعهودة.
“السبب الذي جعلني أستدعيكِ لأقصّ عليكِ كل هذا….كما لا بد أنكِ خمنتِ، هو أن أطلب منكِ التدخل للتوفيق. لا أود أن أكون دراميًا، لكن….ما الفائدة من اندلاع صراعٍ داخلي في مثل هذا الوقت؟”
“صراعٌ داخلي….يبدو الأمر وكأنه تهديد. هل تطلب مني أن أُوقف الدوق الأكبر عن التوجّه إلى سايروس؟ لكن هل سيسمح جلالة الإمبراطور بمثل هذا التصرف المتهور؟”
فهزّ فريدريش رأسه بخفة.
“والدي يشكّ في كل شيء. والدوق الأكبر لطالما أحسن استغلال هذه الصفة فيه. وما زال يعتبر إرساله إلى الشرق خطأً فادحًا حتى الآن….شوكةٌ في العين ستذهب بقدميها إلى التهلكة، لا بد أنه لن يرفض.”
قال فريدريش ذلك بصوتٍ أكثر خفوتًا.
“لا أعلم ما الذي ينوي فعله هناك بالضبط، لكن أيًا كان، فلن ينتهي الأمر بسلام.”
فشعرت فانيسا بصداعٍ ينبض في رأسها.
“لا أفهم….لماذا تضع هذه التوقعات عليّ أصلًا. صحيحٌ أن فيليـ….أعني، سموّ الدوق يوليَني اهتمامًا، لكن….هذا ليس أمرًا يحق لي التدخل فيه. أنا مجرد….”
“ذلك الجندي قبل قليل….كان اسمه هيرمان، أليس كذلك؟ أطاع كلامكِ دون تردد. بينما تجرأ على عصيان أمري بلا خوف. ألا تفهمين حقًا ما الذي يعنيه ذلك؟”
“…….”
التوت شفتا فريدريش.
“تقولين أن هذا ليس شأنكِ؟ برأيكِ، لماذا يقدم الدوق الأكبر على كل هذه الأفعال أصلًا؟”
“هل كل هذا….بسببي؟”
تذكّرت فانيسا كلمات فيلياس التي قالها يومًا على طريق التلال. لقد قال بوضوح أنه سيجد طريقةً لإنهاء الحرب.
“أقسم لكِ أنكِ لن تنجرّي إلى صراعات المصالح داخل العائلة الإمبراطورية. وسأجد طريقةً لإيقاف هذه الحرب السخيفة مهما كلّف الأمر.”
وإلا، فسيضطر فعلًا إلى قضاء حياته كلها متنقلًا في الجبهات.
“سأتحدث مع الدوق الأكبر….سأحاول. لكن قد لا يسير هذا الحديث في الاتجاه الذي ترجونه، سموّك. كما تعلم، لا يسعني إلا أن أكون في صفّه، لا في صفّكم.”
“…….”
أطرق فريدريش بعينيه. وبعد صمتٍ قصير، أجاب.
“أعلم ذلك.”
وقبل أن تنهض فانيسا وتغادر الغرفة، سألت.
“سموّك….أنتَ تريد إنهاء هذه الحرب بسلام، أليس كذلك؟ من أجل السيدة إيفانجلين.”
عند سماع اسم إيفانجلين، رفع فريدريش رأسه. ثم ردّ بنبرةٍ يملؤها السخرية من الذات.
“من يدري….ما الذي يكون حقًا من أجل إيفانجلين؟ ولا أعلم حتى إن كنتُ أملك الحق في الحديث عن ذلك. فالذي حطّمها….لم يكن سواي أنا.”
نظرت فانيسا إلى جبين فريدريش الذي خيّم عليه حزنٌ عميق.
قيل إن ولي العهد في طفولته كان يثق بإيفانجلين ويتبعها أكثر من ثقته بوالدته.
و أن يُفقدها ذاكرتها بالكامل….لا بد أنه ألمٌ يفوق الوصف.
“حتى لو كان ما تقوله صحيحًا….فلن يكون هناك من يملك حق لومكَ. لأنكَ….لم تفعل سوى أن أحببتها. وقد فعلتَ أفضل ما يستطيع طفلٌ أن يفعله.”
نظر فريدريش إلى فانيسا بعينيه الودودتين المعتادتين.
“نعم. في وقفتكِ، وفي نظرتكِ. دائمًا تبدين واثقةً مما تفعلين.”
“…….”
“الآن….لا أندم على ما فعلت. لكن لو أُتيح لي مرةٌ واحدة فقط أن أسألها….لكان ذلك كافيًا. فإيفانجلين كانت دائمًا تجد أفضل حل….”
“أفضل حل؟”
“أعني الطريقة التي لا تُجرح فيها قلوب الجميع. كانت شجاعةً إلى هذا الحد، ولطيفةً إلى هذا الحد.”
بدا وكأنه غارق في ذكريات الماضي. وفي لحظة ما، ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ صبيانية مألوفة.
وعندما رأت فانيسا تلك الابتسامة، شعرت بأن كل شيءٍ غير عادل على نحوٍ مؤلم.
ذاكرة إيفانجلين، على الأرجح، توقفت قبل أن تبلغ العشرين. الذين يظنون أنها ماتت سيستمرون في تذكّرها كشخصٍ لطيف بلا شوائب.
لكن ماذا عن الذين جرحتهم؟ ألا ينبغي لولي العهد، على الأقل، أن يعرف الحقيقة؟
“كما قلتُ لكَ من قبل….ربما لم تكن السيدة إيفانجلين لطيفةً فقط كما تتصور.”
“….بالطبع، قد تكون ذاكرتي قد زيّنتها بعض الشيء. لكن من تعبير وجهكِ، يبدو أن لديكِ ما تريدين قوله.”
“في الواقع….”
شدّت فانيسا عزمها.
“هل تعلم أن السيدة إيفانجلين حاولت قتل الدوق الأكبر؟ وذلك حين كان لا يزال في السادسة من عمره.”
“ماذا؟”
‘كما توقعت، لم يكن ولي العهد يعلم شيئًا.’
كان ينظر إلى فانيسا بعينين مذهولتين لا غير. وبعد وقتٍ طويل، فتح شفتيه المرتجفتين أخيرًا.
“ما….ما معنى هذا الكلام؟ اشرحي الأمر بوضوح.”
“…ءسمعتُ أنه سرٌّ متداولٌ علنًا. قصة السيدة إيفانجلين التي وضعت حبل المشنقة حول عنق أخيها غير الشقيق وعلّقته خارج النافذة.”
فقبض فريدريش يده بقوة.
“هذا مستحيل….لا يمكن أن يكون صحيحًا. إيفانجلين كانت….”
وعجز عن إكمال كلامه.
“لستُ أحاول اتهامها. فلا أملك أصلًا حق فعل ذلك. لكن كلماتكَ….قد تكون جرحًا عميقًا للدوق الأكبر….”
“آنسة لانغ، هذا أمرٌ غير ممكن.”
“سموّك….”
و هزّ فريدريش رأسه بحزم.
“أنتِ تعرفين أيضًا، أليس كذلك؟ تعرفين القوة التي يمتلكها. لا أعلم من أين سمعتِ مثل هذا الكلام، لكنه حرفيًا أمرٌ مستحيل. مشنقة؟ لا أحد في هذا العالم سيحاول قتله بشيءً كهذا.”
“بل أنتَ من يقول أمرًا غريبًا، سموّك. في ذلك الوقت كان الدوق الأكبر، كان فيلياس، مجرد طفلٍ ضعيف بلا حول ولا قوة.”
فأطلق فريدريش ضحكةً جافة.
“لقد عشتُ طفولتي معه. وبحسب ما أعرفه، لم يكن يومًا طفلًا ضعيفًا، ولا للحظةٍ واحدة.”
أصاب كلام فريدريش عقل فانيسا بالشلل.
لم تكن مقتنعةً بكلامه، لكن نبرته كانت واثقةً إلى حدٍ مخيف.
“هل تقصد أنه كذب عليّ؟”
“هذا احتمالٌ وارد جدًا. فجميع من يحملون دم سايران دنيئون إلى أبعد حد.…لكن لماذا؟ لماذا يفعل ذلك؟ ربما….أراد أن يستدرّ تعاطفكِ. فالطريقة التي يطلب بها رجلٌ أخرق الحب معروفة.”
وفجأة، ومضت ذكرى في ذهن فانيسا.
“إذًا….واصلي التعاطف معي، من فضلكِ.”
إن لم تكن مخطئة، فقد كان فيلياس يبتسم في تلك اللحظة.
وما إن خطرت لها هذه الفكرة، حتى بدأ جسد فانيسا يرتجف بلا سيطرة. بينما اتسعت عينا فريدريش عندما لاحظ حالتها.
“انتظري، آنسة لانغ. قصدي لم يكن….أعتذر، لقد انسقتُ خلف عاطفتي أكثر من اللازم….”
تراجعت فانيسا إلى الخلف. ثم اندفعت خارج الغرفة وكأنها تهرب.
وفي اللحظة نفسها تقريبًا، دوّى تصفيقٌ هائل من قاعة الحفل أسفل الدرج.
التعليقات لهذا الفصل " 93"