ارتشفت فانيسا الشمبانيا بهدوء. ومع الانقلاب المفاجئ في الأجواء، شعرت حقًا بأنها عادت إلى العاصمة.
‘على كل حال، لم أكن أتوقع أن أعود إلى القصر الإمبراطوري بهذه الطريقة….’
وعند التفكير في الأمر، فإن حفل خطوبتها على كونراد كان قد أُقيم في هذه القاعة نفسها.
في ذلك الوقت، كانت فانيسا تؤمن بأن زواجها من كونراد هو الحل لكل المشكلات. وبالطبع، كانت صغيرة السن، وكانت تتوق بشدةٍ إلى الهروب من المنزل.
لكن مع ذلك، كان خيارًا أحمق.
‘الآن الأمر مختلف.’
لقد كانت منشغلةً بالبقاء إلى حد أنها لم تكن تدري إلى أين تمضي حياتها، لكن الآن الأمر مختلف.
كم هي حرةٌ الآن. يمكنها الذهاب إلى أي مكان، وأن تصبح أي شيء.
وبينما كانت غارقةً في تلك الأفكار، اقترب منها خادمٌ مألوف وألقى عليها التحية.
“هناك من يرغب في لقائكِ على انفراد، آنستي.”
كان هو الخادم نفسه الذي دلّها على الطريق عندما التقت بولي العهد سرًا في المرة الماضية.
“….تفضل وتقدّم.”
غادرت فانيسا قاعة الحفل. وكان هيرمان قد اقترب في وقتٍ ما ولحق بها من الخلف.
وعلى عكس سوريل، بدا أن هذا الرجل يتقن فعلًا إخفاء حضوره.
وعندما خرجوا من الباب الخلفي للقاعة وصعدوا الدرج، كان ولي العهد بانتظارها.
حدّق بها صامتًا للحظة، ثم تمتم بصوتٍ جاف.
“اليوم تبدين….جميلةً على نحو خاص، آنسة لانغ.”
“هذا لطفٌ مبالغٌ فيه.”
وعندما أدّت فانيسا التحية بأدب، ابتسم ابتسامةً يعلوها شيءٌ من المرارة.
وسرعان ما انتقل نظره إلى هيرمان الواقف خلفها.
“هل تمانع أن تنتظر قليلًا خارج الباب؟ هناك حديثٌ لا أرغب في مشاركته مع أحدٍ آخر.”
قال. لك بنبرةٍ أقرب إلى الرجاء، لكن أيّ شخصٍ كان يدرك أنها أمر. إلا أن هيرمان هزّ رأسه باقتضاب.
“أعتذر، لكن سيدي أمرني ألا أبتعد عن الآنسة.”
“نعم، توقعت ذلك.”
ابتسم فريدريش وهو ينظر إلى فانيسا.
“هلّا تساعدينني قليلًا؟”
“…….”
فألقت فانيسا نظرةً حولها.
‘أتذكر.’
في حياتها السابقة، كانت تستخدم هذا المكان كثيرًا.
لم يكن من السهل النجاة وحيدةً في القصر الإمبراطوري دون سند. وصورة الجميلة الساذجة التي لا تستحق حتى الحذر لم تُصنع من فراغ.
ولقطع التهديدات في مهدها، ولمراكمة الذهب الذي يحميها، كانت اللقاءات السرية مع شخصياتٍ مريبة أمرًا لا بد منه. وكان هذا المكان مثاليًا تمامًا للانسحاب من الحفل وإجراء محادثاتٍ سرية.
“هيرمان، هل يمكنكَ الانتظار في الأمام؟ إذا حدث شيء فسأصرخ على الأقل.”
“حسنًا، آنستي.”
وعلى غير المتوقع، أطاع هيرمان الأمر دون نقاش. ويبدو أن التعليمات بتقديم أوامر الآنسة على كل شيء ما زالت سارية.
“لستُ في موقعٍ يسمح لي بلقاء شخصٍ مثلكَ متى ما شئت.”
“آه، إذاً هذا اعترافٌ بأنكِ كنتِ تشتاقين لرؤيتي.”
“…….”
“أمزح، فلا تنظري إليّ هكذا. لأن الحديث سيكون….جديًا بعض الشيء.”
“هل للأمر علاقةٌ بالدوق الأكبر.…؟”
وبعد لحظة من التردد، فتح فريدريش فمه بنبرةٍ أثقل.
“….أنتِ تعلمين أن قلعة براير آلت إليه، أليس كذلك؟”
أومأت فانيسا برأسها.
منذ حادثة فرانسيسكا وذلك الشجار الصاخب، تظاهرت فانيسا بالجهل التام بشأن إقليم براير. لكنها كانت تعلم دون أن يُقال لها أن شان قد بدأ العمل على إعادة تنظيم الإقليم.
‘كان يعمل حتى وقت متأخر كل يوم، ومع ذلك بدا متحمسًا. ففي مثل هذه الأوقات، تكون الأراضي القريبة من الحدود ذات فائدة استراتيجية.’
وبالنسبة لدوقيةٍ تقع بعيدًا عن خطوط القتال، كانت قلعة براير أكثر من مجرد موقع استراتيجي. وربما كانت قادرةً على تقليص نفقات التموين العسكري ومواقع التمركز بشكلٍ كبير.
“إذاً، هل تعلمين من هو اللورد الجديد المعيّن لبراير؟”
وعند سؤال فريدريش، هزّت فانيسا رأسها بخفة.
“الكونت رينيا. هل الاسم مألوفٌ لكِ؟”
“رينيا.…؟”
‘هل هو ذلك الرينيا الذي أعرفه؟’
بالطبع كان اسمًا تعرفه. وإن كان ذلك من حياتها السابقة.
بعد دخولها القصر الإمبراطوري كزوجةٍ لولي العهد، كان أول ما قامت به فانيسا هو استمالة المسؤولين الذين لا ينتمون إلى أي فصيل.
وكان من بينهم كاتب وزارة المالية، رينيا.
ومن رينيل، الذي كان يبعث على نحوٍ غريب إحساسًا يشبه الأشرار، تعلمت فانيسا كيفية إنشاء مصادر تمويل لا يمكن تتبعها. وكانت معظمها حيلًا تستغل امتيازات زوجة ولي العهد.
‘وكان يجلب لي معلوماتٍ من وزارة المالية كثيرًا. وبفضله، لا بد أن رينيا راكم ثروةً لا بأس بها أيضًا.’
لكن رينيا الذي تعرفه فانيسا لم يكن يحمل لقبًا نبيلًا. فبعيدًا عن نفوذه في القصر، لم يكن سوى الابن الثالث لأسرةٍ بارونية نائية.
“سمعتُ الاسم….على نحو عابر، لكن الأمر غريب. على الأقل، أنا أحفظ أسماء جميع أسر الكونتات في الإمبراطورية.”
“من الطبيعي ألا تعرفيه. فلم يُقم حتى حفل منح اللقب المعتاد.”
“أتقصد أن أحدهم منح لقب كونت جديدًا؟”
ابتسم فريدريش ابتسامةً خفيفة وهو يراقب تعابير فانيسا.
“لا داعي للتظاهر بالجهل إلى هذا الحد. كم شخصًا في الإمبراطورية يملك صلاحية منح لقب كونت؟وفوق ذلك، من غيره قد يقدم على تصرف أخرق كهذا قبيل احتفالٍ عظيم مثل مهرجان التأسيس؟”
“هل يُعقل أن يكون فيلياس.…؟”
“آه، يبدو أنكما صرتما على درجةٍ من القرب تسمح لكِ بمناداته باسمه. ومع ذلك، ما زلتُ أنا مجرد ‘سموّه’، أليس كذلك؟”
قال فريدريش ذلك بنبرةٍ مازحة. أما فانيسا، فكانت غارقةً في الارتباك.
“هل كان رينيا وفيلياس على معرفةٍ سابقة؟ ومنذ متى؟”
إذًا فهذا يعني أن رينيا كانت له صلةٌ بالدوق الأكبر، ومع ذلك أخفى الأمر عن فانيسا طوال الوقت.
“لقد فوجئتُ أنا أيضًا كثيرًا. فهذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها حق منح الألقاب. لكن حسنًا، لنتجاوز ذلك….ما لم أكن أتوقعه هو أن أحدًا لم يظهر قط، وبشكلٍ صريح، أنه….من خاصّة الدوق الأكبر.”
“من خاصّته.…؟”
“وبالعكس، يمكن القول أن الدوق الأكبر لم يستعرض نفوذه ولو مرةً واحدة. كنتُ أعلم، مثلكِ، أنه نشر عيونه وآذانه في أرجاء العاصمة، لكن أن يمنح لقبًا على هذا النحو الاستعراضي، ويعيّن تابعًا له في منطقةٍ حدودية….فهذا ما لم أتوقعه.”
لم يعد بوسع فانيسا أن تتظاهر بالجهل أكثر.
“لكن السيد رينيا، أعني، الكونت رينيا، أليس رجلًا صنع نفسه بنفسه؟ لم أسمع قط أنه على صلة بالعائلة الإمبراطورية.”
كان لا بد أن فريدريش أدرك أنها تتغافل عمدًا، لكنه لم يبدُ مضطربًا.
“حتى أنا كنتُ أظن ذلك إلى وقتٍ قريب.”
“…….”
إذًا، هل كان رينيا منذ البداية رجل فيلياس؟ وهل كانت مساعدته لفانيسا في حياتها السابقة نابعةً فعلًا من إرادته؟
‘الآن وقد فكرتُ في الأمر….’
قبل نحو عشرة أيام من مقتل فانيسا، كان رينيا قد زارها في القصر المنفصل خارج الأسوار.
“إياكِ أن تغادري العاصمة، مهما كان السبب.”
قال ذلك فقط، ثم غادر على عجل.
‘كنتُ أظن الأمر غريبًا. فخلال إقامتي في العاصمة، كان محيط القصر هادئًا على نحوٍ مريب.’
كان كونراد في حالة هلع، مقتنعًا بأنه قد يُغتال في أية لحظة، وكان مصممًا على مغادرة العاصمة بأسرع وقت. بل واتهم فانيسا بأنها متواطئةٌ حين حاولت ثنيه عن ذلك.
وفي اللحظة التي يموت فيها كونراد، لن تعود فانيسا زوجة لولي العهد. لن تكون سوى ابنة سكير، ولن يبقى أحدٌ ليساعدها.
وفي النهاية، استسلمت فانيسا لليأس وخرجت مع كونراد.
وبفضل أنها كانت قد أعدّت مسبقًا طريقًا للفرار، تمكّنا من مغادرة العاصمة بسلام….أما ما حدث بعد ذلك، فلا حاجة لذكره.
“….لكن حتى لو كان الأمر كذلك، أليس هذا مدعاةً للقلق بالنسبة لسموك؟ كما تفضلت، للدوق الأكبر حق منح الألقاب، وما فعله لا يعدّ كونه استخدامًا لحقّه المشروع.”
قالت فانيسا ذلك وكأن الأمر لا يعنيها، لكن حتى أذنها التقطت الكلمات كأنها مجرد تبرير.
“برأيكِ، أين يكون الدوق الأكبر الآن؟”
فوجئت فانيسا بالسؤال المفاجئ.
“أليس في اجتماعٍ داخلي.…؟”
فردّ فريدريش وهو لا يزال يبتسم.
“صحيح. اجتماعٌ داخلي. إذًا، ما الذي أفعله أنا هنا الآن؟ كما تعلمين، القائد الأعلى للجبهة الجنوبية هو أنا.”
أطبقت فانيسا شفتيها بإحكام.
ما الذي يريد قوله بالضبط؟ هل يعني أن فيلياس يكذب عليها؟
‘أيخدعني مرةً أخرى؟’
انزلق بصر فريدريش نحو النافذة.
“إنه الآن مع الإمبراطور، يطلب الإذن بحملةٍ عسكرية على سايروس.”
التعليقات لهذا الفصل " 92"