رغم أن الجبهة الجنوبية كانت تمرّ بحالة من الهدوء النسبي، إلا أن المناوشات الصغيرة لم تتوقف يومًا. وكان على جميع أبناء العائلة الإمبراطورية أداء واجبهم في القتال.
وفوق ذلك، كان فيلياس ذا بنيةٍ ضخمة.
لم تدرك فانيسا ذلك عندما كان يرتدي زيه الرسمي، لكنها الآن، حتى من تحت الوشاح، استطاعت أن ترى أنه جسدٌ صُقِل بالتدريب الطويل.
عندما أمسكت فانيسا أدوات الطعام، بدأ فيلياس هو الآخر بتناول طعامه.
وبينما كانت تغمس المعجنات في الحليب الساخن، كان هو يقطع شريحة الستيك بسكين كبيرة.
“على أية حال…..عندما أعود، سأضطر لتعيين معاونٍ جديد. كم أكره المقابلات الوظيفية.”
“…..يا سموّ الدوق، ألا تنوي المشاركة في تلك المناسبات أصلًا؟”
ثم اختفت قطع اللحم المبللة بالدماء في الظل الذي غطّى وجهه.
“كما تعلمين، أنا لستُ بارعًا في آداب الحديث يا آنسة فانيسا.”
“وهل يُعد ذلك مشكلة؟ أنت أحد الدوقين فقط في هذا البلد، ومن ذا الذي يجرؤ على انتقاد آداب الدوق؟”
“حتى سخريتُكِ تبدو راقيةً جدًا يا آنسة فانيسا.”
“آه…..نعم….شكرًا على مجاملتكَ.”
“لو كانت سيدةٌ راقية مثلكِ ترافقني، لاستغنيتُ عن عناء تعيين معاونٍ جديد.”
‘هاه، إذاً هذا هو لبّ الموضوع؟’
قطّعت فانيسا قطعة من الزبدة بسكينها، وكان المعجن هشًا رقيق الطبقات.
“أعلم أن الأمر مزعج، لذا أود أن أقدّم لكِ عرضًا صغيرًا، ليس بديلاً عنه بالضبط، لكن ربما يخفف عنكِ.”
“أوه، عرض؟ والآن أنا مهتمة..…”
“سأكتب لكِ سند قرض، وسأتكفّل بديونكِ…..معظمها على أية حال في يد دوق فاليندورف. سأشتري منه سندات الدين.”
كادت قطعة الخبز أن تعلق في حلقها، لكنها تمالكت نفسها. فقد بدا كتفا الدوق وكأنهما يهتزان بخفة.
‘هل…..يضحك؟’
لكن كلماته لم تنتهِ بعد.
“بإمكانكِ أن تسددي الدين لي…..أو لا تسدديه على الإطلاق. لا أجل محدد، ولا رهن، ولا فائدة. هل أغفلت شيئًا؟”
“هذا كثيرٌ جدًا مقابل ثلاث مرافَقاتٍ يا دوق.”
“حسنًا، فلنجعلها خمسًا إذاً.”
تابع فيلياس طعامه ببرود، بينما كانت فانيسا عاجزةً عن الرد.
بالطبع…..كانت تنوي طلب مساعدةٍ مالية منه في النهاية. كانت بحاجة ماسّة إليها، ولم يكن في حياتها الآن من يمكن الوثوق به سواه.
لكن حتى هذه “الثقة” كانت واهية. فكل ما كانت تعرفه عنه هو أنه واقعٌ في حبها.
‘لكن بهذه الطريقة…..ألن أكون كمن تستغلّه؟’
و بعد تفكيرٍ طويل،
“سأقبل كتابة السند يا سموّ الدوق، لكني أريد المال بنفسي، وليس عبر الدوق فاليندورف. نقدًا…..خمسة آلاف كراون ستكون كافية.”
“أنا أستمع.”
“الفائدة 15%. تُحسب بالفائدة المركّبة. وسأسدّد المبلغ خلال نصف عام.”
أمال فيلياس رأسه قليلًا، وقد أنهى للتو طبقه من اللحم.
“لكن وفق كلامكِ هذا، سيزداد دينكِ بدل أن ينقص.”
“لن أسمح لكَ أن تسدّد دَيني عني.”
“هل جرحتُ كبرياءكِ بعرضي ذاك؟ كنت أظن أني تصرّفت بلطف، لكن يبدو أني كنتُ ناقصًا مرة أخرى.”
“الأمر ليس كذلك. أريد فقط أن أطلب منكَ المساعدة بالقدر الذي أحتاجه. أكثر من ذلك…..آسفة، لكنني لا أستحق.”
“لا أتفق معكِ في ذلك…..لكن يا آنسة فانيسا، ألا يمكن أن أتحمل أنا المبلغين معًا؟”
“ولماذا تقولها بنبرةِ من يرجو شيئًا؟”
أسند فيلياس ذقنه إلى كفه وصمت طويلًا. ثم مدّ يده وانتزع عنقود عنب من الطبق أمامه.
“لا أريد أن يبقى دوق فاليندورف مرتبطًا بكِ بعلاقة دينٍ يا آنسة فانيسا.”
“هل تكرهه؟”
بدأ فيلياس يرمي حبات العنب في فمه واحدة تلو الأخرى، وكانت كلٌ منها تختفي في الظل الذي يغطّي وجهه.
“يا دوق؟”
“السبب الوحيد الذي يجعل الدوق فاليندورف ما زال حيًّا…..هو أن مقري بعيدٌ عن العاصمة. لكن…..هذا حديثٌ لا يليق بمائدة الطعام. أعتذر إن بدوتُ قاسيًا.”
شعرت فانيسا ببعض الدهشة، لكنها لم تُبدها.
‘حقًا، إن فكّرنا في الأمر، فهما خصمان سياسيان. أليس الدوق فاليندورف التالي في ترتيب الخلافة بعده مباشرة؟’
“على أية حال، سيتم كل شيء كما ترغبين يا آنسة فانيسا. وسنتحدث في التفاصيل بعد الإفطار في مكتبي.”
ساد المائدة جوّ ثقيل بعض الشيء، بينما استمرّت حبات العنب الحمراء بالاختفاء في الظلال واحدة تلو الأخرى.
“هذا موضوعٌ مختلف قليلًا، يا دوق. تلك العباءة التي ترتديها…..لا بد أن عليها سحرًا، أليس كذلك؟ من المستحيل ماديًا أن لا يُرى ما تحتها من أي زاوية.”
في الواقع، كانت هذه من الأسئلة التي طالما أرادت أن تطرحها.
ففي إمبراطورية ران، لم يكن السحر إلا امتيازًا ممنوحًا لأبناء العائلة الإمبراطورية وحدهم. ينتقل عبر الدم، وغالبًا ما يكون ذا قوةٍ تدميرية يصعب فهمها.
وقد كان ذلك السر يمنح العرش شرعيته جيلاً بعد جيل.
حتى في حياتها السابقة، لم تكن فانيسا تعلم الكثير عن ذلك. فعدا ما كان يخص رفاهية القصر الإمبراطوري، كان السحر موجودًا فقط في ساحات الحرب.
حتى كونراد في حياتها السابقة، كان يتجنب الحديث عنه بشكل غريب.
“كنتِ فضوليةً بشأن هذا إذاً.”
قبض فيلياس كفه ثم بسطه، وفي لحظة بدا كأن ضوءًا اشتعل داخل قبعته، فتلاشت الظلال التي كانت تغطي وجهه.
و رأت فانيسا خطّ فكه الأنيق وشفتيه المبتسمتين.
“أن تسمي هذا سحرًا مبالغٌ فيه، هو مجرد خداع بصري بسيط.”
للحظة وميض، ثم عاد الظلام. وعاد فيلياس ليجلس أمامها في هيئة شبيهة بملك الموت.
“وما الأشياء الأخرى التي يمكنكَ فعلها؟”
“يختلف الأمر من شخصٍ لآخر، أما أنا فلا أقدر إلا على الحرق والتدمير. لو كانت لدي قدراتٌ أكثر فائدةً لكِ، لكان ذلك أفضل، لكن..…”
“حتى بدون ذلك، أنت تقدم لي ما يفوق حاجتي يا دوق. ولكن، بالمناسبة..…”
“نعم، يا آنسة فانيسا.”
“شفاهكَ جميلةٌ جدًا.”
تحطّمت عنقود العنب في يده فجأة، وتناثرت الحبات والعصارة على الطاولة. فابتلعت فانيسا ضحكتها بصمت.
“إذًا، هل ستخبرني يومًا ما؟”
“عما…..تتحدثين؟”
خرج صوته مبحوحًا.
“الجميع يتحدثون عن وجهكَ يا دوق. يقولون أنه مليء بالندوب، أو مغطى بالحراشف…..أو أنكَ قبيحٌ جدًا، حدّ الفزع. طالما أنكَ تُخفي وجهكَ بهذا الإصرار، فلا بد أن هناك سببًا، أليس كذلك؟”
جاءت الخادمة بمنديل جديد، ومسح فيلياس يديه المبتلتين. و لاحظت فانيسا حينها كم كانت أصابعه طويلة.
لم تعرف كيف يبدو وجهه، لكن يديه كانتا مغطاتين بالندوب، معظمها من حروق وجروح قديمة.
ثم ارتدى قفازيه السوداوين مجددًا وسألها،
“…..هل أطلب أن يُحضَر لكِ قهوة؟”
“أفضل الشاي، شكرًا.”
نظر فيلياس إلى فنجان القهوة الساخن أمامه، ثم مس شفتيه بيده، أو هكذا بدا.
“لو كان هناك قصةٌ مثيرة وراء هذا، لكان الأمر أفضل. لكن لا يوجد سببٌ خاص. أنا فقط لا أحب أن يراني الناس.”
“ولماذا ذلك؟”
“لأنهم حين يرون وجهي…..يبدأون بالكلام.”
“وما المشكلة في ذلك؟”
“الكلام مع من لا يهمني أمرٌ مزعج.”
تنهدت فانيسا دون أن تشعر.
“يبدو أنني لست الوحيدة التي تحتاج إلى المساعدة هنا.”
فابتسم فيلياس بهدوء.
“وأنا أيضًا أظن ذلك، يا آنسة فانيسا.”
***
دخل مبلغ الخمسة آلاف كراون الذي وُعدت به إلى يد فانيسا فور كتابة سند الدين. ولأنها لم تكن تملك بعد حسابًا مصرفيًا، فقد استلمته نقدًا بالكامل.
‘حتى لو كان واقعًا في حبي…..كيف يمكن لشخص أن يكون بهذه السذاجة؟ هل يدير إقطاعيته جيدًا أصلًا؟’
ومع ذلك، لم يكن في نيتها التراجع.
وفقًا لذكرياتها من حياتها السابقة، كانت فرصةً عظيمة لجمع ثروة وشيكة.
قالت لفيلياس أن السداد سيكون خلال نصف عام، لكنها تخطط في الحقيقة لمضاعفة المال خمس مرات خلال ثلاثة أشهر فقط.
‘حسنًا، لا داعي للقلق. أربح المال وأعيده، ببساطة.’
في المساء استدعت أغنيس إلى القصر. و كانت الخادمة جالسةً في غرفة الاستقبال بوجه متوتر، وما إن رأت فانيسا حتى أجهشت بالبكاء.
“آنستي! كنتِ حقًا هنا! قالوا أنكِ ذهبتِ بدعوة من الدوق، فخشيت أن يكون أحدهم أطلق إشاعةً خبيثة…..لم أنم طوال الليل من القلق!”
“آسفة لأنني أقلقتكِ، لكن لدي طلبٌ عاجل. قبل ذلك..…”
وضعت فانيسا كيسًا من الذهب على طاولة القهوة، فشحَب وجه أغنيس.
“هذا أولًا، الأجور المتأخرة والمكافأة. خذي إجازةً مع حفيدتكِ لبعض الوقت.”
“يا إلهي..…”
وسقطت أغنيس على الأريكة من شدة الدهشة.
_____________________
لذا الدرجة راتبها متأخر؟ ولا شافت الدوق؟
بس ياخي يافيلياس ياغبي من يسدد ديون عشان مرافقه في حفل؟ قلها تتزوجك! طلع اي عذر من تحت الارض وتزوجوا بعقد😭
بس ماتوقعت سبب تغطية وجهه عشانه مايبي احد يحكي معه😂😂
المهم فانيسا كفو يوم مدحته هاااعاعاها عقبال باقي الوجه
التعليقات لهذا الفصل " 9"