انحنى كونراد برأسه بعمق. فنظر إليه فيلياس بنظرةٍ لا مبالية وسأله.
“هل بقي لديكَ ما تقوله؟”
“…….”
هزّ كونراد رأسه نفيًا، ثم استدار فجأةً وبدأ يمشي، وسرعان ما قفز هاربًا إلى خارج السور.
و تقدّم فيلياس ووقف إلى جوار فانيسا. و ابتسم لها بلطف، ثم مدّ يده وأزاح خصلات شعرها خلف أذنها.
“يبدو أنني غبتُ طويلًا. ألم تشعري بالملل؟”
“أعرف أنكَ مشغول. وعلى العكس، استمتعتُ بالاسترخاء منذ مدةٍ طويلة. لكن….هل الأمر بخير؟”
سألت فانيسا وهي تنظر إلى الجهة التي اختفى فيها كونراد.
لم يكن لدى كونراد من الجرأة ما يكفي للانتقام، لكن إن ضخّم الأمر وحوّله إلى مادةٍ للثرثرة، فقد يسيء ذلك إلى سمعة فيلياس.
فأومأ فيلياس برأسه.
“إذًا لا يصح أن نتركه يذهب بسلام. سأذهب حالًا لأحفر على وجهه….”
“لا، لا، من فضلكَ لا تفعل. أظن أن سموّه قد فهم الرسالة جيدًا.”
فسارعت فانيسا إلى منعه.
‘على كل حال، لا يبدو أن هناك سمعةً يمكن أن تسوء أكثر….’
وفي تلك الأثناء، وقعت عينا فيلياس على ديوان الشعر الذي كانت فانيسا تحمله.
“هذا الكتاب يبدو مألوفًا.”
“آه….”
و ترددت فانيسا قليلًا، ثم ناولت الديوان إلى فيلياس.
“آسفة لأنني تصفحته دون إذن. لكن….بخصوص الاسم….”
فقلب فيلياس الغلاف وابتسم.
“أفهم ما الذي خطر ببالكِ….لكن في الحقيقة، هذا أمرٌ شائع إلى حد ما. كان يُمنح كاسمٍ أوسط لأبناء الزوجات اللاحقات أو أبناء الخليلات. واسم ‘بيسينتي’….كان أشبه بتحذير.”
“تحذير؟”
“بعبارةٍ أخرى….لا تجرؤ على التفكير في ما لا يليق. الزم الصمت، وأطع الأوامر الإمبراطورية، ولا ترفع رأسكَ.”
‘….وإلا فستفقد حياتكَ. بلا أثر، مثل بيسينتي الصغير.’
“ياله طفوليٍ وحقير.”
“إنه إرثٌ عائلي.”
فرفعت فانيسا حاجبيها عند كلامه.
“….كنتُ أمزح. دعينا نترك هذا الحديث. هناك أمرٌ أحتاج إلى رأيكِ فيه.”
“رأي.…؟”
ثم عاد الاثنان معًا إلى الملحق. وعندما وصلا أمام باب غرفة فانيسا، توقّف فيلياس.
“سأنتظر في الطابق السفلي.”
قال ذلك بملامح بدت قلقةً على نحوٍ ما.
“لماذا؟”
“لأنني أحتاج فعلًا إلى رأيٍ صادق.”
“وما الذي….”
“سيدتيييي!!”
كانت نيكولا تركض في الممر بوجهٍ محمرّ من شدة الحماس.
“سيدتي، سيدة، سيدتي! لقد رأيتُه.”
“….ماذا؟”
“لم أرَ شيئًا كهذا في حياتي!”
“وما هو؟!”
لم تستطع نيكولا كبح نفسها وصرخت.
“آه! أريد أن ألبسكِ إياه فورًا! الآن! حالًا! أريد أن ألبسكِ إياه حالًا!”
وبسبب إلحاح نيكولا، لم تجد فانيسا فرصةً للسؤال أكثر ودخلت الغرفة. بينما كان فيلياس قد اختفى إلى مكانٍ ما بالفعل.
بعد قليل، طَق طَق، سُمِع طرقٌ على الباب، وظهر وجهٌ مألوف من خلال شقّه.
“تشرفتُ أخيرًا بلقائكِ شخصيًا، آنسة لانغ. أنا أنيت كلارك، من هيئة الخياطة الإمبراطورية. كنتُ أتطلع للقائكِ منذ زمن.”
“أوه، هل أصبحتُ مشهورةً إلى هذا الحد؟”
ابتسمت فانيسا مازحة، لكن أنيت لم تضحك، بل أومأت برأسها بحماس.
“بالطبع! ليس مجرد شهرة! جميع مصممات الأزياء النسائية في العاصمة كنّ ينتظرن عودة الآنسة لانغ! لا تعلمين كم دفعتُ من الرشاوى لأحصل على هذه الفرصة.”
“لا أعرف من أين أبدأ بالاعتراض….”
تمتمت فانيسا. ثم رفعت أنيت نظارتها الدائرية وابتسمت ابتسامةً عريضة.
أنّيت كلارك، نائبة كبير مصممي هيئة الخياطة الإمبراطورية وصانعة فساتين.
إذا نظرنا إلى أنها نالت منصب النائبة في سن صغيرة، فلا بد أن موهبتها كانت استثنائية، لكن فانيسا لم تتح لها فرصة التحقق من ذلك حتى الآن.
كان الأمر كذلك في حياتها السابقة أيضًا. فالأميرة الإمبراطورية الوحيدة كانت في عداد المفقودين، والإمبراطورة نادرًا ما ظهرت علنًا، فلم يكن هناك من يرتدي فساتين أنيت.
وأي عملٍ كان يُسند إليها نادرًا ما كان يصل إليها، إذ كان كله يذهب إلى كبير المصممين، فلم يكن أمام أنيت سوى إهمال موهبتها.
و حين دخلت فانيسا القصر الإمبراطوري لأول مرة، كانت أنيت قد حاولت التواصل معها على انفراد.
“دعيني أقِس عليكِ فحسب.”
قالت ذلك فجأة وهي تمسك بيد فانيسا. لكن هيئة الخياطة لم تكن راضيةً عن زوجة ولي العهد الجديدة.
خصوصًا كبير المصممين، الذي كان من أتباع دوقية براير، فاستغل علنًا عار أسرة لانغ.
في ذلك الوقت كانت الدوقية تسير تدريجيًا نحو الانحدار، لكن تماسك الفصيل الذي تشكّل مسبقًا لم يكن بالأمر السهل تجاهله.
وفي النهاية، لم ترتدِ فانيسا في حياتها كلها فستانًا واحدًا من تصميم الخياطة الإمبراطورية.
‘بالطبع، لو طالبتُ بذلك رسميًا، لما استطاعت الهيئة الاعتراض….لكن تصاميم كبير المصممين كانت كلها قديمةً ومملة. أما هذه المرأة….’
“ربما لا تعلمين….”
قالت أنيت ذلك وهي تفرك أصابعها بخجل.
“فستان الموسلين الذي ارتدته الآنسة لانغ في الربيع الماضي كان من تصميمي.”
يبدو أنها كانت تقصد فستان الموسلين الأبيض الناصع الذي ارتدته في حفل رقص الكونت.
“يا إلهي!”
فقفزت نيكولا واقفةً وهي تصرخ.
“إذاً كان من تصميمكِ! آه، لقد كان فستانًا مذهلًا حقًا! كم كان يليق بسيدتي! بدت تمامًا كحورية الشمس الخارجة من كتاب حكايات!”
فأضاءت عينا أنيت حماساً.
“هذا طبيعيٌ طبعًا! لقد صممتُه وأنا لا أفكر إلا بالآنسة لانغ وحدها! عندما رأيتها من بعيدٍ في حفل الظهور الأول فكرتُ: آه، هذه هي! هذه وحدها القادرة على تحويل حلمي إلى واقع!”
“أمم….أنتما الاثنتان….أرجوكما، كفى قليلًا….”
قالت فانيسا ذلك وهي تضع يدها على خدّيها المحترقين.
ورغم أنها كانت تقول بنفسها دائمًا أن جمالها منطقي، إلا أن هذا النوع من المديح المباشر كان من الصعب عليها التكيف معه.
“لكن، بخصوص ما قلتِه قبل قليل عن الرشاوي، ماذا تقصدين يا آنسة أنيت؟ هل طلبتِ العمل مباشرة من الدوق الأكبر؟”
فابتسمت أنيت.
“مستحيل! كيف لي أن أفعل ذلك! كم من الناس اختفوا دون أن يتركوا أثرًا لمجرد أنهم تجرؤوا على مخاطبته بتهور!”
“……هاها.”
بالفعل، كانت هناك شائعاتٌ من هذا القبيل. مع أن فيلياس لم يكن من النوع الذي يتكبد عناء مثل هذه التصرفات المزعجة.
“في الحقيقة، أخي يعمل تحت إمرة سمو الدوق. اسمه هيرمان، وربما تكونين قد التقيتِ به من قبل.”
“أوه، حقًا؟ لكنكما لا تشبهان بعضكما أبدًا.”
فابتسمت أنيت ابتسامةً عريضة.
“كما توقعت، نظرتكِ ثاقبة.”
ثم صفّقت بيديها. وبعدها بقليل، فُتح الباب ودخل المساعدون وهم يحملون فستانًا مغطى، مسندين إياه بأيديهم.
“إذًا، هل تسمحين لنا بالقياس الآن؟”
عند هذا السؤال الذي بدا مألوفًا على نحوٍ غريب، ابتسمت فانيسا بسخريةٍ خفيفة.
في النهاية، كان سبب تقديم موعد القدوم إلى العاصمة هو المفاجأة التي أعدّها فيلياس. وكما توقعت، كانت هديته فستان حفل افتتاح يوم التأسيس.
كان قد أُنجز أكثر من نصفه، لكن بما أن طول فانيسا ازداد قليلًا، كان لا بد من إعادة القياس.
‘حتى لو كبرتُ….فكم؟ ثلاثة سنتيمترات تقريبًا؟ لا أظن أن الأمر يستحق كل هذه الضجة.’
لكن ما إن أُزيح الغطاء الذي كان يخفي الفستان، حتى فقدت فانيسا قدرتها على الكلام.
فنظرت أنيت إليها وارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ واثقة منتصرة.
كان فستانًا من حرير الأورغانزا بلونٍ خوخي ناعم.
أكمامه الشفافة الرقيقة كانت تلتف حول الذراعين، وياقته القلبية الناعمة أبرزت خط العنق. أما التنورة المتسعة أسفل الخصر، فكانت تتلألأ بريشٍ مطرّز بخيوطٍ فضية، تتخلله أحجارٌ كريمة مصفوفةٌ بإحكام.
“وااو….”
خرجت من فانيسا شهقة إعجابٍ دون وعي.
بلا شك، كان فستانًا جميلًا.
إذا كان هذا ما ينوي إهداءه، فلماذا كان فيلياس متوترًا إلى هذا الحد؟
‘قال أنه بحاجة إلى رأيي. ومن الذي يطلب رأيًا وهو يقدّم هدية؟’
“سيدتي!”
“نعم؟”
“يا إلهي! لا تقفي هكذا شاردة، أسرعي وارتديه!”
أخذت نيكولا، المفعمة بالحماس، تُلحّ على فانيسا. فاستسلمت بذهول بين يدي نيكولا الماهرة.
وكان الفستان مناسبًا تمامًا. كما هو الحال دائمًا.
“هل يمكن أن تكون أنا من صنعت هذا….؟”
تمتمت أنيت وهي تحدّق في فانيسا المرتدية للفستان بذهول.
“لماذا لا توجد ديانةٌ رسمية في الإمبراطورية….أنا الآن أرغب حقًا في شكر الخالق…..”
تمتمت نيكولا بدورها. ويبدو أن الاثنتين نسيتا حتى أن تريَا فانيسا المرآة.
‘سأبقى صامتةً فقط….’
و فكرت فانيسا مبتسمة.
“لكن يا آنسة أنيت….هذا الفستان….باهظ الثمن جدًا، أليس كذلك.…؟”
“طبعًا! باهظٌ إلى حدٍ يُبكي! كما أُمرتُ تمامًا، لم أوفّر في الميزانية فلسًا واحدًا وصرفتُ كل شيء! أما القماش فلا داعي للحديث عنه، وفي الحقيقة، ما يلمع هنا عند ذيل التنورة….كله ألماس. هاه….”
تنهدت أنيت بزهو.
“ربما أستغل الفرصة وأتقاعد مبكرًا وأفتح متجرًا. آه، آنسة لانغ، هل تحتاجين إلى مصممةٍ خاصة بدوام كامل؟”
التعليقات لهذا الفصل " 86"