فيلياس لم يكن ثملًا ولو قليلًا، وفريدريش لم يكن سوى ضحيةٍ لمسرحية مكشوفة.
“هاه، أيها الوغد الماكر كالثعلب….لهذا كنتَ ثرثارًا على غير العادة….”
كان لمشروب فودكا الشمال القاري تأثيرٌ قوي فعلًا، فموجة الثمالة التي اجتاحته فجأة منعت فريدريش من إكمال جملته، ودارت الدنيا أمام عينيه.
ثم، طخ-
انهار فريدريش منبطحًا فوق الطاولة.
و حتى بعد أن ارتطم جبينه بقوة، لم يستعد وعيه، ولعله حين يستفيق لن يتذكر حتى سبب الألم.
راقبه فيلياس للحظة، ثم التقط معطفه الذي كان قد نزعه، وبحث في بطانة السترة قبل أن يُخرج شيئًا. و كان خنجر صيد.
أمسك بذراع فريدريش المترنحة، ولم يبقَ من مظهره الثمل قبل قليل أي أثر.
رفع اليد التي تمسك بالخنجر، وحدّ النصل، ثم غرسه تحت الكم مباشرة.
طق، انقطع سوار العقدة الأحمر وسقط على الأرض، ثم فشّ، لم يبقَ منه سوى قليل من الرماد والغبار قبل أن يختفي تمامًا.
“أحلامكَ كبيرةٌ فعلًا، فريتز.”
بعد أن شرب ما تبقى من الفودكا دفعةً واحدة كأنه ماء، نهض فيلياس من مكانه.
‘لِمَ لا أخرج للاستقبال؟’
ثم غادر الغرفة تاركًا ولي العهد مخمورًا حتى الثمالة خلفه.
***
في الوقت الذي كان فيه فيلياس يحدّق في بطاقة الدعوة المجعّدة فوق رأس كونراد، كانت فانيسا قد وصلت إلى بيت البارون سيري.
وكان السبب الرئيسي هو مناقشة تجارة أشوكا، وعلى عكس مخاوفها، وعد البارون سيري بدعمٍ غير مشروط.
لم يكن هناك حتى داعٍ لشرح الطريق الجديد المتجه شرقًا، فمهما يكن، كانت فانيسا بالنسبة له منقذة ابنه الوحيد.
و بعد أن اتفقا على مناقشة التفاصيل في القلعة، سلكت مع مايسون ممر التنزه الذي اعتادا السير فيه.
وفي نهاية هذا الطريق الغابي القصير كان يقع قصر الكونت لانغ، منزل فانيسا القديم.
“إذًا، خلال إقامتكِ في العاصمة ستبقين طوال الوقت في القصر الإمبراطوري؟”
هزّت فانيسا رأسها ردًا على سؤال مايسون.
“نعم، فالمكان الذي أقمتُ فيه سابقًا هو حرفيًا مقرٌ للضيوف الكبار، وأظن أنه من الأفضل تركه للزوار القادمين من أماكن أبعد.”
“مهلًا، هل تسمين هذا تنازلًا؟ حتى دون أن أراه، أشعر أن القصر الإمبراطوري أكثر فخامةً بكثير.”
قال مايسون ذلك ضاحكًا.
“حسنًا، هذا صحيح، لكن….على أي حال سأقيم في الملحق الذي كان يستخدمه فيـ.…، سمو الدوق. آه، وبالطبع لن نكون في الغرفة نفسها!”
“لم أقل شيئًا أصلًا.”
ضحك مايسون بخفّة، بينما احمرّ وجه فانيسا وعضّت شفتيها دون داعٍ.
حين دعته لمرافقته إلى بيت سيري، اعتذر فيلياس بحجة وجود أمرٍ عاجل. و لم تُظهر ذلك، لكن فانيسا شعرت بالارتياح سرًا.
لسببٍ ما، كان فيلياس يتحفظ كثيرًا تجاه مايسون، ولو التقيا مباشرةً لكان من الواضح كم سيكون فظًا.
“إذًا، ماذا أردتَ أن تريني حتى جلبتني إلى هنا؟ هل تظهر أشباحٌ في البيت المهجور؟”
سألت فانيسا وهي تتلفت حولها، فهزّ مايسون كتفيه.
“لا أعلم إن كانت الأشباح تظهر أم لا، لكن….من الصعب تسميته بيتًا مهجورًا الآن. آه، ها هو هناك.”
وعند المشهد الذي ظهر أمامها، توقفت فانيسا فجأة.
كان من المؤكد أنه بيتٌ احترق واختفى، حتى هيكله ذاب ولم يبقَ سوى بقايا سوداء. لكن ما كان أمام عينيها الآن هو….
“مستحيل، كيف.…؟ لم تمر سوى ثلاثة أشهر.”
“الجزء الخلفي لا يزال بحاجةٍ إلى وقتٍ طويل حتى يكتمل، ولم يُركَّب السقف بعد، لكن المظهر الخارجي يبدو لائقًا، أليس كذلك؟”
عجزت فانيسا عن الكلام للحظة. لم تعرف ما الشعور الذي ينبغي أن تشعر به وهي تنظر إلى القصر الذي يُعاد بناؤه.
صحيحٌ أن لون الواجهة مختلفٌ تمامًا، وإذا دققت النظر ستلاحظ اختلاف عدد النوافذ ومكان المداخل.
لكن البنية العامة للمبنى كانت كما كانت قبل الحريق. كان أمرًا طبيعيًا بالنظر إلى شكل الأرض، لكن رغم ذلك….
“فانيسا؟”
‘عندما احترق….ظننتُ فقط أنني لم أعد متعلقةً به. لكن هذا….آه….’
“هل….فعلتُ شيئًا غير ضروري؟ بفضلكِ بقيت القافلة التجارية سالمة، فأردتُ أن أرد لكِ الجميل بأي شكل. وفوق ذلك….من الأفضل لكِ أيضًا أن يكون لديكِ مكانٌ تعودين إليه.”
قال مايسون ذلك وهو يراقب ملامح فانيسا بصمت. فأسرعت بهز رأسها.
“لا، فقط تفاجأت. شكرًا جزيلًا لكَ، مايسون. لطالما أقلقني أن أتركه رمادًا، والآن يمكنني أن أطمئن.”
“لا داعي للشكر، هيا لنقترب.”
ترددت فانيسا قبل أن تخطو إلى الأمام. و عبرت البوابة المفتوحة ودخلت الساحة التي كانت يومًا حديقة.
ومن خلال نافذةٍ بلا زجاج، أمكن رؤية السلم المؤدي إلى الطابق الثاني. السلم ذاته الذي صعدته ونزلته وهي تُسحب من شعرها.
حتى لو حسبت حياتها السابقة، فقد مرّ على ذلك ثماني سنوات، وكانت الذكريات قد بهتت كثيرًا.
‘ومع ذلك، الشعور لا يزال مقرفًا. لا عجب أنني فكرتُ وقتها بالقفز في القناة الكبرى.’
كانت صغيرةً فعلًا آنذاك، فكرت فانيسا بذلك مبتسمة بسخرية.
“آه، بالمناسبة يا مايسون، هل تذكر ما حدث في يوم ميلادكَ العام الماضي؟ اليوم الذي اختفيتُ فيه فجأة أثناء الحفلة.”
“آه.”
تنحنح مايسون لسببٍ ما.
“لماذا تذكرين هذا فجأة؟”
“لا أذكر ذلك اليوم تقريبًا. تعرف، كانت أول مرةٍ أشرب فيها الشمبانيا و ثملت.”
“….صحيح.”
“أنتَ من جاء يبحث عني حتى القناة الكبرى، أليس كذلك؟ هل رأيتَ هناك أحدًا غيري؟ لو رأيتَ لكنتَ عرفته فورًا، شخصًا كان معي-”
“انتظري، فانيسا.”
ثم سأل مايسون بابتسامةٍ متكلفة.
“أنتِ لا تمزحين معي الآن، أليس كذلك؟”
“……؟ ولماذا أمزح معكَ أصلًا؟”
“حقًا لا تتذكرين؟ في ذلك اليوم، عند القناة الكبرى….أنا….قلتُ لكِ….ذاك….”
“ما بكَ تتردد هكذا؟ أنا حقًا لا أذكر شيئًا. لا أعرف حتى كيف عدتُ إلى البيت.”
“لقد اعترفتُ لكِ.”
“…،اعترفتَ؟ بماذا؟”
أطلق مايسون زفرةً عميقة.
“هل أنتِ جادّةٌ حقًا.…؟ لقد اعترفتُ لكِ بأنني أحبكِ.…، اعترفتُ في ذلك اليوم. كنت أظن أنكِ تتجاهلين الأمر عمدًا، لكنكِ تقولين الآن أنكِ لا تتذكرين شيئًا فعلًا؟”
حدّقت فانيسا في مايسون بذهول للحظة، ثم سألته من جديد.
“تحبني؟ ….أنتَ؟ أنا؟ لماذا؟ لا، أقصد….هل تعني هذا المعنى الذي أفكر فيه الآن؟”
“يا لكِ من قاسيةٍ فعلًا. ما هذا أصلًا….حقًا.”
حين أدار مايسون رأسه بدهشة واضحة، شعرت فانيسا بقليلٍ من الحرج.
لكن الأمر كان شيئًا لم يخطر ببالها قط. فبالنسبة لفانيسا، كان مايسون أشبه بأخٍ لها.
كانت تشعر بالذنب تجاهه، لكن كلما استمعت إلى حديثه كادت تضحك دون قصد.
“ذلك….أنا آسفة. لكن….منذ متى وأنتَ تشعر هكذا؟”
“دعيكِ من هذا. في ذلك اليوم كنت فقط….أردتُ أن أُخرج ما في قلبي. كنتُ أعلم منذ وقتٍ طويل أنكِ لا تنظرين إليّ بهذه الطريقة. والآن….”
واصل مايسون كلامه وهو يركل حجرًا كان يتدحرج في الساحة الفارغة بلا سبب.
“هل أكون أنا أصلًا أهلًا للمقارنة؟”
“…….”
ساد صمتٌ محرجٌ للحظة، قبل أن يبادر مايسون بالكلام.
“وأيضًا، لم أستطع قول هذا قبل قليل….لكنكِ تبدين سعيدةً جدًا.”
“آه….حقًا؟”
“في السابق كنتِ دائمًا متوترةً كأنكِ مشدودة الأعصاب. و الآن….تبدين أكثر ارتياحًا بكثير. في الحقيقة كنتُ قلقًا عليكِ. فالشرق سيّئ السمعة من نواحٍ كثيرة.”
“عندما تذهب إليه بنفسكَ، ستجد أنه ليس سيئًا إلى هذا الحد.”
لم يكن ذلك مجرد كلام للمجاملة. ففانيسا كانت قد بدأت فعلًا تُحب الشرق، بل أشوكا نفسها.
شعرت بذلك فور عودتها إلى العاصمة. لقد اشتاقت بالفعل إلى هواء وضجيج تلك المدينة المينائية النابضة بالحياة.
وعندما رآها مايسون على هذه الحال، ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ مرّة.
“إذًا….لم يتم تحديد التاريخ بعد، صحيح؟”
“أي تاريخ؟”
فضيّق مايسون ما بين حاجبيه قليلًا.
“أي تاريخٍ تسألين عنه.…؟ أليس الزواج واضحًا؟ يجب أن تخبريني بالتوقيت التقريبي حتى أضبط جدول القوافل التجارية.”
“ماذا؟ أي زواجٍ هذا.…؟ من سيتزوج أصلًا؟”
“…….”
فتصلّب وجه مايسون فجأة.
“لا تقولي لي أنكِ لم تتلقي عرض زواجٍ بعد؟”
“هاه.…؟”
“ها.”
أطلق مايسون ضحكةً جافة، ووضع يديه على خصره وهو يتمتم.
“هذا الشخص غريبٌ فعلًا. يأخذ فتاةً بريئة إلى هذا الحد، ثم كيف استطاع إلى الآن….”
التعليقات لهذا الفصل " 83"