شرب الاثنان الفودكا بصمت. و امتلأت الكؤوس وتفَرغت مراتٍ عدة، ولم تمر خمس دقائق حتى أضيفت زجاجةٌ فارغة أخرى إلى الطاولة.
ثم فتح فريدريش زجاجةً جديدة.
“لن يتنازل والدي بسهولة عن حق إنشاء خط السكك.”
“هذا واضح. وإلا لما كنتُ مضطرًا للجلوس معكَ هكذا أصلًا.”
فضحك فريدريش بسخرية.
“إذاً فالدوق الأكبر….يقوم الآن بالضغط عليّ، هكذا فهمت.”
“أرتور يثق برأيكَ أكثر من رأيي.”
“والدي لا يثق بأحد.”
قطع فريدريش الكلام بشيءٍ من الحدة، فأدار فيلياس عينيه بلا اهتمام.
“هذه مشكلتكَ، لا مشكلتي. وقلت لكَ سابقًا….أنتَ مدينٌ لي بحياتكَ.”
“يا لكَ من.…”
و هزّ فريدريش رأسه وكأن الحديث يرهقه.
“حق بناء سكة الجنوب حصلت عليه بولينا موروزوف، صحيح؟”
أجاب فيلياس وكأن ردّ الآخر لا يعنيه شيئًا.
“نعم. لكن المشروع سقط بعد أن فقد براير سلسلة الجبال الحدودية. على ما يبدو كانت قد جهّزت المواد أيضًا. خسارةٌ كبيرة.”
“سأشتريها.”
قال فيلياس ذلك وشرب الكأس دفعةً واحدة.
“….وتنوي استخدام ذلك بديلًا عن مشاركتها في حملة الشتاء.”
بصفتها من سلالةٍ فرعية للعائلة الإمبراطورية، كان على بولينا واجب المشاركة العسكرية.
لكنها امرأةٌ تربي طفلًا وتدير أسرةً وحدها. الذهاب إلى ساحة الحرب كان ضربًا من المستحيل.
وفي يومٍ من الأيام سيؤدي ابنها، اللورد موروزوف، واجبه بدلًا عنها. لكن الآن، لا خيار سوى أن يتولى طرفٌ آخر هذا الالتزام.
وكذلك كان حال العديد من أسياد المقاطعات غير القادرين على الحفاظ على جيوشٍ نظامية، فيعتمد كثيرون منهم على القوة العسكرية لدوقية الشرق.
“صراحة…..هذا موضوعٌ مزعج. كمية الذهب التي تجرفها بتلك الطريقة وحدها.…”
“اختياركَ للكلمات متهور.”
فنقر فريدريش بلسانه.
“لكن أليست هذا غريباً؟ أنتَ تكره العاصمة، فكيف تخطر لك فكرة ربطها بأشوكا؟”
لم يحصل على إجابة. فمدّ فريدريش يده وفتح صندوق السيجار. و أشعل عود الثقاب بتركيز، ثم نظر إلى فيلياس أمامه مرة أخرى.
ملامح بلا حياة. عينان خامدتان تُنهكان من يراهما.
ورغم أنه وُلد بملامح يندر أن يملكها أحد، إلا أن ما يشعّ منه كان حزنًا قاتمًا لا غير.
كان يفضّل ألف مرةٍ شكله حين كان يغطيه بالعباءة الثقيلة.
قد تعتبره العائلة الإمبراطورية كلب صيد، لكن فريدريش لم يره هكذا يومًا. كيف يمكن تشبيه شخص كهذا بمخلوقٍ شرس؟
ثم نفث الدخان ببطء.
وكما كان فريدريش ولي عهد مثاليًا، كان فيلياس سايران طفلًا متفوقًا.
ورغم تعبيره الخالي من الحماسة، كان ينجز كل ما يُطلب منه من دون أدنى صعوبة.
وليس غريبًا كيف كانت النظرة إليهما من قبل النبلاء في ذلك الوقت.
ومع ذلك، ورغم كل التحريض، لم يعتبر فريدريش فيلياس خصمًا يومًا. لأنه عرف أن شيئًا ما….ناقصٌ في هذا الرجل.
لا الشرف، ولا السلطة، ولا النفوذ….لم يكن أي شيءٍ من ذلك يثير اهتمامه. كان فقط يحرق ويحطم كل ما يوضع بين يديه، وكأنه صُنع لذلك.
وكان يظن أنه سيظل هكذا….إلى أن جاء يوم الجدال في قاعة الحصن.
“أرجوكَ يا فريتز….ساعدني. أرجوكَ….لا تدُر حوله.”
“…….”
في وجود فانيسا لانغ، أصبح فيلياس شخصًا لا يشبه الرجل الذي يعرفه إطلاقًا.
كصديق، كان ذلك شيئًا يفرح له. وكخصمٍ سياسي، كان دافعًا للتفكير في طريقةٍ للاستفادة من الوضع.
وأما كمنافس عاطفي….بل، هل يمكنه حتى الآن أن يسمي نفسه منافسًا؟
‘كم هو مؤلم.’
فكّر فريدريش بذلك وهو يرفع الزجاجة بيده الخالية من السيجار.
“ما الذي تخطّط له….هل هو حقًا ما تريده الآنسة لانغ؟ المرأة التي أعرفها….تفضّل أن تنجز كل شيءٍ بنفسها.”
“لا تتفوه بالهراء.”
و امتلأ وجه فيلياس بالسخرية.
“أنتَ لا تعرفها. ولا قليلًا.”
خفض فريدريش عينيه. و تلاشى دخان السيجار كأنه زفرة طويلة.
“ربما….ربما أنتَ محق. لكنني أعرفكَ أنتَ. وهذه الطريقة العمياء التي تتبعها….حتى لو لم يكن شأني، هل تعتقد حقًا أن ما بينكما علاقةٌ صحية؟”
فقطّب فيلياس حاجبيه.
“لستَ آخر من يحق له إعطاء النصائح. تقول أنني مجنونٌ وغير منضبط….لكن بصراحة، هل يوجد شخصٌ واحد في هذه العائلة لم يفقد عقله؟”
“فيلياس.”
ابتسم فريدريش قليلًا وهو يرى صديقه النادر يتحدث مدافعًا عن نفسه على غير عادته.
“بهذا الوجه القَلِق….لن تُقنع أحدًا.”
“…….”
ملأ فريدريش الكأسين مرةً أخرى حتى فاضا.
“كنتُ أظنّ….أنها تحمل لكَ المشاعر نفسها.”
فابتسم فيلياس بسخرية.
“مستحيل. لو عرفت ما الذي أتخيّله كلما نظرتُ إليها، لفرّت هاربةً فورًا.”
ثم شبك ذراعيه حول رأسه وتنهد طويلًا.
“لكن لماذا أنا أحدّثكَ بهذا الكلام أصلاً.”
ثم وضع فريدريش سيجارته في المطفأة.
“لأني صديقكَ الوحيد، لا أكثر.”
“وفّر عني هذا الكلام المقزز يا فريتز.”
ضحك فيلياس بخفّة فيما ظلّ يغطي وجهه بيديه. أما فريدريش فألقى نظرةً جانبية على صفّ الزجاجات الفارغة.
“قد أفوز هذه المرة.”
“ماذا؟”
“رهاننا.”
“……؟”
رفع فيلياس رأسه بملامح شاردة، واضحٌ أنه بدأ يثمل.
فابتسم فريدريش وهو يرفع يده إلى فمه يخفي ضحكته.
“آه، لا تهتم. المهم….ماذا تعتقد أن الآنسة لانغ تفكر بشأنكَ؟”
“لا أعرف. ربما هي نفسها لا تعرف. ليست مثلنا، لا تغرق في رأسها طوال الوقت.”
“إذًا؟”
“هي تنظر إلى الأمام فقط. لكن.…”
اتكأ فيلياس على ظهر المقعد، متحدثًا وكأنه يخاطب نفسه.
“أحيانًا يبدو ذلك….خطيرًا جدًا. في يوم الحادث في دار الأوبرا….كانت تضحك وتلقي نكتة. مع أنها لو وصلتُ متأخراً قليلًا لكانت سقطت من ارتفاعٍ يقتل فورًا.”
“فيها جانبٌ….متهوّرٌ حقًا.”
هزّ فيلياس رأسه نافيًا.
“ليس تهوّرًا. إنها فقط لا تتعلق بالأشياء. المهم عندها هو القادم، لذا فالإصابة أو الألم لا يهمّان. كأنها….كأنها شخصٌ عاد لتوّه من مواجهة الموت. وعندما أراها هكذا، أشعر أنها قد.…تختفي.”
في أي لحظة. تمتم فيلياس.
“….…”
“ماذا أفعل؟ حين أكون بجانبها….أشعر فجأة بأنني أريد أن أعيش.”
لم يعرف فريدريش ماذا يقول، فرفع كأسه وشربه.
وعندما كاد يسقط الكأس من يده أدرك أنه أكثر ثمالةً مما ظن.
“ألن تشرب؟”
سألهُ فيلياس فجأة.
“نعم.…”
رفع فريدريش الكأس المتماوجة. و شعر أنه إن شرب أكثر فلن يستطيع الحفاظ على وعيه.
لم ينتبه حتى أنه تجاوز قدرته على الشرب وهو يحاول مجاراة الآخر في السرعة.
رمق وجه فيلياس. و ما زال يحدّق في كأسه بنظراتٍ شاردة.
‘كأسٌ أخيرة وستنتهي هذه المنافسة السخيفة.’
تردد فريدريش قليلًا ثم شرب ما تبقى دفعةً واحدة. فوضع فيلياس كأسه الفارغة على الطاولة بصوتٍ طفيف، ثم ملأها من جديد بلا تردد.
“ألا….تعتقد أنه من الأفضل أن نتوقف هنا؟ أنتَ….تبدو عيناك شبه زائغتين.”
“أنا هكذا دائمًا.”
“…..؟ هكذا؟”
هكذا.…؟ في تلك اللحظة مدّ فيلياس كأسه، فاصطدم به فريدريش دون تفكير. وانسكبت الفودكا الباردة على الطاولة.
“لا، حقًا….أظن علينا التوقف الآن.…”
ابتسم فيلياس وهو يرى فريدريش يجرّ صوته بالكاد.
‘ما هذا الوجه؟ قبل لحظات كنتُ أظنه ثملًا. تباً….يبدو أنني سأخسر الرهان….’
طقطق-
صوت أنامله وهي تنقر على مسند الكرسي جعل فريدريش ينتبه فجأة. و قد كان فيلياس ينظر إليه بصمت…..كأنه ينتظر شيئًا.
_____________________
عسا فريدريش خسر
وفيلياس شكله لاتكلم عن فانيسا تغيرت ملامحه لذا الدرجة عشان كذا حسبه سكران؟ مجانين
التعليقات لهذا الفصل " 82"