“لا أحب رجال الشرق، فهم فظّون جدًا. وأكره الجنود أكثر من ذلك. أما أنا، فسأتزوج رجلًا من العاصمة حتمًا. رجال العاصمة كلهم راقون ولطفاء.”
“تقولين هذا حتى بعد أن رأيتِ الدوق؟”
انفجرت صوفيا ونيكولا ضاحكتين من كلام فانيسا، فهما تعرفان أنه لا يبالي ولو قيل هذا الكلام أمامه مباشرة.
وكما كان متوقعًا، كان فيلياس يزيل أعناق الكرز ببرودٍ دون أن يكترث.
“يحق لي أن أحلم! وإن بحثتُ جيدًا فلا بد أنه يوجد في مكانٍ ما، أليس كذلك؟”
فابتسمت نيكولا بسخرية خفيفة.
“نعم نعم، في مكانٍ ما بالتأكيد. ذاك الجميل الذي تتحدثين عنه دائمًا….الوسيم الأشقر الرقيق الذي لا يعرف أنه وسيم. يا إلهي، ما زلتِ صغيرة….صغيرةً جدًا.”
“و….وما شأنكِ أنتِ يا نيكولا؟ ألا يوجد لكِ رجل مثاليٌ أنتِ أيضًا؟”
“والآن وقد ذكرتِ الأمر….ذلك الشاب كان فضوليًا جدًا. طلب مني أن أسألكِ بالتحديد.”
فسألت نيكولا بفضول،
“من هو؟”
“ألا تعرفين؟ ذاك الذي يورّد لنا النبيذ هذه الأيام….آه، صحيح، فيليكس.”
خمدت ملامح نيكولا فورًا.
“….أنا أحب الشاب الأصلع.”
“لماذا؟ لم يعجبكِ؟ إنه شابٌ مجتهد. وقد ادّخر مبلغًا جيدًا في سنه هذه.”
“ولدي الكثير من المال أنا أيضًا. فقط أخبريه….أنني أحب الشاب الأصلع.”
ردت نيكولا بفتور. وفي تلك اللحظة، لمحَت فانيسا أصلعاً مألوفًا يمر في طرف رؤيتها.
‘أرفين؟’
“فيلياس، انتظرني لحظة.”
خرجت من الباب الخلفي فوجدت أرفين ينتظرها.
“كنت على وشك أن أبعث في طلبكِ. بما أنكِ هنا….هل يعني أنكِ وجدتِ خيطًا ما؟”
“أنا فقط أتيتُ لأتفرج. هل اكتشفت أنتَ شيئًا بخصوص البضائع المفقودة؟”
“وردت شهادةٌ بأن شحنةً مشابهة لما نبحث عنه نُقلت إلى مبنى ساحة القتال. وقد تحدثتُ مع المسؤول هناك….لكن مهما حاولتُ استفزازه لم أحصل منه على أي رد.”
“ولا يمكننا إبلاغ حرس الأمن….فلا دليل سوى الشكوك.”
“هل نقوم بالمداهمة و التفتيش؟”
انتفضت فانيسا والتفتت، فإذا بفيلياس يقف متكئًا إلى الجدار وذراعاه متشابكتان.
“آه، يا سيدي الدوق. ظننت أنكَ تكره مثل هذه الأماكن.”
انحنى أرفين احترامًا. فعبس فيلياس قليلًا.
“تعرف وجهي؟”
“….أنا قائد فرقة الدفاع الذاتي في حيّ التجارة يا سيدي. جئتَ أكثر من مرة في الشتاء الماضي لتدريبنا.”
“آه.”
“لكن….مداهمة؟ بأي ذريعة؟”
سألت فانيسا، فربت فيلياس على ذقنه متظاهرًا بالتفكير.
“يمكن دائمًا اختلاق ذريعةٍ مناسبة.”
“لا، ممنوع. هذا سلوكٌ يليق بسيدٍ فاسد.”
فابتسم فيلياس.
“إن كانت البضائع المسروقة هنا فعلًا، فأقرب مكانٍ يمكن إخفاؤها فيه هو الخزنة.”
“إذاً لا حل سوى متابعة المباراة حتى النهاية. فالفائز يجب أن يستلم الجائزة، ولأجل ذلك سيفتحون الخزنة.”
قالت فانيسا ذلك بتفكير. لكن أرفين هز رأسه بعجز.
“الأمر ليس بهذه البساطة. الجائزة تُمنح فقط إن نجح البطل في الدفاع عن لقبه، أو ظهر بطلٌ جديد. لكن لم تُقم أي مباراة دفاعية منذ أشهر.”
“ولماذا؟”
“النظام يعتمد على خروج فائزٍ من التصفيات والنهائيات أولًا….لكن بعض المتسابقين صاروا يماطلون حتى نهاية الوقت. أعتقد أن المنظمين يتلاعبون بالأمر….لكن لا دليل ولا نستطيع فعل شيء.”
“وما الذي يدفعهم لذلك؟ حتى لو وفّروا المال الآن، فسوف يخسرون الجمهور لاحقًا.”
“نظن أن السبب ماليٌ فحسب.”
“إذاً….يكفي أن نُخرج البطل من مخبئه.”
خطر لفانيسا شخصٌ ما….بائع الفطائر الذي التقت به في الميناء. وصاحب الشارب كان يناديه: “بطل العام الماضي”.
“أرفين، هل تعرف من بطل ساحة القتال العام الماضي؟”
“العام الماضي….نعم، كان شخصًا مميزًا نوعًا ما، أذكر هذا. اسمه….ربما كان جونسون. وسمعت أنه افتتح متجرًا صغيرًا قريبًا.”
“متجر.…؟”
‘كم أخذ منكَ ذلك اليوم أيها الأمير.…؟’
هزّت فانيسا رأسها برفق.
بعد قليل عاد أرفين وهو يعرف مكان المتجر، فانطلق الثلاثة إلى الساحة.
***
جون جونسون. بطل ساحة القتال للعام الماضي.
اسم متجر الفطائر الذي افتتحه وسط الساحة، “صانع الفطائر”، كان اسمه في الحلبة أيضًا.
رن الجرس. ومع فتح الباب، داعبت رائحة الفطائر الطازجة أنوفهم.
بين الزبائن ظهر بائع الفطائر بقبعته البيضاء. كاد يحيّي فانيسا حين وقعت عيناه عليها فاتسعت دهشة.
“متجركَ رائعٌ حقًا. ويبدو أن عملكَ يسير جيدًا كما هو دائمًا.”
قالت فانيسا ذلك مبتسمة.
“هذا كله بفضلكِ! هل ذاك الشاب الأشقر معكِ؟ أردتُ حقًا أن أشكره.”
ضحك فيلياس بسخريةٍ خفيفة على كلام بائع الفطائر. فألقت فانيسا نظرةً خاطفة على تعابير وجهه.
ذلك الشاب الأشقر….لا بد أنه يقصد ولي العهد.
‘هل ما زالا على خلاف.…؟’
“همم….قبل ذلك، هل يمكنني أن أطلب منكَ طلبًا واحدًا؟”
ظهر على وجه بائع الفطائر شيءٌ من الارتباك لوهلة، ثم هز رأسه بثبات.
“نحن أهل سايروس يردّون المعروف دائمًا.”
“حقًا؟ لقد سمعتُ أنكم لا تنسون الضغائن.”
“ننسى الضغائن، لكن اسم العدو نحفظه جيدًا.”
“آه….هذا مفهوم.”
“إذاً، ما هو هذا الطلب.…؟”
“قاتلْ مخاطِرًا بحياتكَ.”
كان القائل فيلياس. فالتفتت فانيسا إليه بوجهٍ مذهول.
“….أنتَ تمزح، أليس كذلك؟”
“بالتأكيد.”
ابتسم فيلياس، لكن ملامح جون جونسون كانت جادّةً للغاية.
نزع مئزره الأبيض بقوة وردّ بنبرةٍ مهيبة،
“تفضلوا، سأتقدمكم.”
وبعد قليل، عادوا إلى ساحة القتال.
“حسنًا! أول مباراةٍ انتظرتموها طويلًا ستبدأ قريبًا! نكرر رجاءً: من كان في حالة ثمالة، فليخرج بنفسه، ورجاءً لا ترموا الطعام على الحلبة حتى لو لم يعجبكم اللاعب!”
صرخ المذيع المرتَّب المظهر، فانطلقت صيحات الاستهجان من الجمهور.
“إذاً ليديروا المباراة كما يجب! وإن بدأوا بالمماطلة مرة أخرى، فلن أراهن بعد اليوم!”
صرخ أحدهم من الصفوف الأمامية، فتعالت همهمات الغضب تباعًا. لكن المذيع لم يتراجع.
“حسنًا، لدينا اليوم لاعبٌ مميز للغاية! بطل العام الماضي! ’صانع الفطائر ‘، جون جونسون!”
بدأ الجمهور يضطرب.
“صانع الفطائر؟”
“هل عاد صانع الفطائر؟!”
صفّق المذيع فوق رأسه بحماسة.
“هيا، هيا! استقبلوا البطل بالتصفيق!”
ظهر جون جونسون على المنصة وسط تصفيق مدوٍّ. و رفع ذراعيه فورًا وأطلق صرخةً هائلة.
لا يُعرف إن كانت مجرد استعراضٍ أو محاولة لبسط الهيبة، لكن الجمهور تحمّس بدوره وصرخ.
“جون جونسون! جون جونسون!”
هتف الجميع باسمه، ومن بينهم صوتا صوفيا وليا.
وبينهما كانت نيكولا تفتح فمها نحو فانيسا بصمت،
“سيدتي….أنا خائفة.…”
فأدارت فانيسا رأسها نافيَة وهي في الأسفل قرب المقاعد.
التعليقات لهذا الفصل " 75"