ضُرب رأس الأمير على الطاولة و في اللحظة نفسها استيقظت فيها فانيسا من نومها.
“……؟”
ارتجّ جسدها برعشةٍ خفيفة. و ما إن نزلت من السرير حتى بدا ضوء القمر الشاحب يتسلل من النافذة.
“يبدو أنني رأيتُ حلمًا…….”
كان شيءٌ ما يلوح في الذاكرة، كأنه على وشك أن يتضح، لكن اضطراب رأسها لم يسمح لها بالتفكير بتركيز.
‘لأتمشَّ قليلًا.’
أرادت أن تستنشق هواء الليل وهي تتجول في الحديقة.
وما إن ارتدت معطفًا خفيفًا ونزلت إلى الطابق الأول، حتى وجدت نفسها وجهًا لوجه مع فيلياس الواقف في الردهة.
“ستذهب إلى تدريب الفجر؟”
بدت على فيلياس علامات ارتباكٍ غريب. و كان القميص الرقيق الذي يرتديه مبتلًا بالعرق، و هناك منشفةٌ معلّقةٌ حول عنقه.
هيئةٌ خفيفة، و هي ما يرتديه حين يقود التدريب بنفسه.
“لا، انتهى التدريب الليلي منذ قليلٍ فقط…….”
“في هذا الوقت؟”
و عندما حاولت فانيسا الاقتراب، تراجع فيلياس خطوةً إلى الوراء فجأة.
“ما بكَ؟”
“آه، لقد….تعرقتُ كثيرًا…….”
تمتم فيلياس بخجل، ضاغطًا المنشفة على فمه.
‘يا للطف.’
كتمت فانيسا ابتسامةً كادت تفلت منها.
“حسنًا. لا بد أنكَ مرهق، اصعد لترتاح.”
“وأنتِ.…؟”
“آه، أردتُ فقط استنشاق بعض الهواء. استيقظتُ بسبب حلمٍ ولم أستطع العودة إلى النوم….”
“حلم؟”
‘الآن وقد ذكرتُ ذلك….أي حلمٍ كان؟’
“أظن أنكَ كنتَ فيه. لكنني لا أتذكره جيدًا.”
اتسعت عينا فيلياس بدهشةٍ عند سماعها، لكن سرعان ما انتشرت على وجهه ابتسامةٌ حالمة كأنها تذوب.
‘آه، لعلّي ما كان يجب أن أقول ذلك.’
“أتعنين أنكِ حلمتِ بي؟”
“أعني….ربما.…؟ لا أتذكر التفاصيل….”
“يبدو إذًا أنكِ تفكرين بي كثيرًا.”
“….كيف وصلتَ إلى هذه النتيجة.”
“لأن الحلم في النهاية انعكاسٌ للاوعي. في الواقع، أنا أيضًا حلمتُ بكِ ليلة أمس….”
أنزل فيلياس المنشفة عن فمه. شفاهه—التي لطالما رأتها جميلة—وقد بدت أكثر احمرارًا الليلة.
“هل ترغبين بسماع محتواه؟”
كان صوته حلوًا حدّ الإغواء. فشعرت فانيسا بحرارةٍ مفاجئة تتصاعد إلى وجهها.
“لا….ليس بالضرورة.”
هبّت نسمةٌ باردة من النافذة المفتوحة. فاندفعت المنشفة المعلّقة حول عنق فيلياس بفعل الريح، وسقطت على الأرض بخفة.
وفي اللحظة التي رأت فيها عنقه المكشوف، خطرت بذاكرتها لقطةٌ عابرة.
‘أقول لكم، ذاك الطفل سيتسبب بهلاكنا جميعًا!’
‘إيفانجلين. أظنني رأيتُ إيفانجلين في الحلم.’
لكن لماذا؟ لم تلتقِ فانيسا بإيفانجلين سوى مرةً واحدة، ولوقتٍ قصيرٍ جدًا أيضًا.
‘آه، الآن تذكرت.’
كانت قد نسيت تمامًا. في يوم لقائهما في جزيرة الميناء، قالت لها تلك الكلمات حين ودّعتْها،
‘بلّغي سلامي من أجلي.’
لم تفهم قصدها حينها، لكن الآن—بدت العبارة وكأنها تشير إلى ريف كريستال، مقاطعة لوكتر الصغيرة.
لكن أن تطلب منها إيصال السلام….هل يعني أن هناك أحدًا تعرفه هناك؟
“فيلياس، هل….تعرف شيئًا عن لوكتر؟ إنها مقاطعةٌ صغيرة في مكانٍ ما بالشرق….”
أمال فيلياس رأسه للحظة مندهشًا من السؤال المفاجئ، لكنه أجاب ببساطة،
“إنها المقاطعة التي تركتها والدتكِ لكِ. تقع قرب الحدود الجنوبية لغابة الضباب. هل لديكِ ما يثير فضولكِ بشأنها؟”
توقعت فانيسا أنه يعرف أساسيات الموضوع بصفته العَظيم الوحيد في الشرق. لكنها بدأت تشعر أنه يعرف أكثر من مجرد “الأساسيات”.
“أحيانًا أشعر أنكَ تعرفني أكثر مما أعرف نفسي..…ولا تبتسم، فهذه ليست مجاملة.”
ما تعرفه فانيسا عن لوكتر لا يتجاوز أنها قريةٌ صغيرة تقع بمحاذاة الغابة، معتمدةً عليها في مواردها.
كان نائب الحاكم ابن عمٍ بعيد لها، يرسل الضرائب كل ربع سنة نقدًا. لم يكن مبلغًا كبيرًا، لكنه يكفي لمن يعيش ببساطة.
لم تلتقِ هذا القريب من قبل، وكل ما بينهما من تواصلٍ هو تبادل رسائل بسيطة لتحديث عنوانها الجديد.
“إن رغبتِ، يمكننا زيارتها معًا. قد لا يكون الأمر سيئًا.”
قال فيلياس ذلك وهو يرفع خصلات شعره المبتلة عن جبينه. لكن فانيسا هزت رأسها.
“ليس بالضبط….سيكون من الغريب أن أظهر الآن كحاكمة. وقريبي—على ما يبدو—يدير الأمور بشكلٍ جيد….”
“حتى تسميته قريبًا يبدو مبالغًا فيه. إنه زوجُ ابنةِ ابنِ عمِّ أمكِ الراحلة….أو شريك زواجها الثاني، على ما أظن.”
“أسألكَ بجدية، كيف تعرف مثل هذه الأشياء أصلًا؟”
فابتسم فيلياس بخفة.
“بالاهتمام….وبالحب.”
“هذا لا يُصدَّق، فعلًا.”
ثم تبادلا تحية الليل.
وعندما التفتت فانيسا عند قوس الباب المؤدي إلى الحديقة، كان فيلياس لم يعد ينظر إليها. و كان واقفًا أسفل الدرج، منكس الرأس، يتأمل شيئًا أمامه.
“……؟”
كانت يداه خاليتين تمامًا. لكنه كان يحدّق في راحتيه المليئتين بالندوب، كأنه يحاول التأكد من أمر ما.
فتذكّرت فجأةً أنها رأته هكذا مرة من قبل، لكنها لم تستطع تذكر متى.
لم تستطع مناداته، واستدارت عائدةً نحو الحديقة. و لسببٍ ما، كان قلبها ينبض بعنف.
***
“فيلياس، هل أنتَ متعب؟”
“……هذا مستحيل.”
“إذًا لنجرب مرةً أخرى.”
اقترب الخياط مسرعًا يحمل القميص الثالث للتجربة.
وقد كان هذا الشاب كثير الكلام مفعمًا بالحيوية منذ البداية.
“يا لها من مفاجأةٍ أن يتفضل الدوق بنفسه على متجري، وفوق ذلك يمنحني كل هذا الوقت! إنني حقًا ممتنٌ لدرجةٍ لا توصف!”
باستثناء العاملين في الحصن القريب، لم يكن في أشوكا الكثير ممّن رأوا وجه الدوق. وكان هذا الخياط أحد أولئك القِلّة.
فقد عمل لسنواتٍ في الحصن، لكنه لم يتحادث مع الدوق قط، وعدد المرات التي سمع فيها صوته يكاد يعدّ على الأصابع.
وقال أنه كان معتادًا على العمل بصمتً وسرعة، لأن أي تأخيرٍ أو ثرثرة كانت كفيلةً بأن يُطرد من الغرفة حتى أثناء أخذ المقاسات.
“لا داعي للعجلة اليوم. الدوق خصص كامل فترة ما بعد الظهر لهذا الغرض.”
فتنهد فيلياس قليلًا عند سماع فانيسا.
“هل من الضروري حقًا كل هذا؟ لا أظن ما أرتديه بهذه الأهمية….”
“همم؟ ومن الذي يدفع اليوم؟”
“لقد قلتُ لكِ إن هذا لا داعي له….”
“اشش، عندما أدفع، تقول فقط: شكرًا.”
ثم جاء مساعد الخياط يدفع عربةً متنقلة. كانت عليها الملابس التي طلبتها فانيسا احتفالًا بيوم التأسيس — والتي أصرت وناقشت حتى دفعت عربونها من مالها الخاص.
وإن لم يقل الخياط ذلك بوضوح، إلا أنه كان واضحًا أنه يملك الكثير من الملابس التي لطالما أراد أن يراها على الدوق.
‘حسنًا….فمثل هذا الجسد ليس أمرًا مألوفًا.’
نظرت فانيسا إلى ظهر فيلياس العريض وإلى حركة لوحي كتفه تحت القماش، ووجدت ابتسامةً فخرٍ صغيرة ترتسم على شفتيها من دون أن تشعر.
“لكن، فانيسا….هل نحتاج فعلًا لكل هذه القمصان الرسمية؟”
سأل فيلياس بينما يمد ذراعيه بصبرٍ للخياط، وكان عليه مسحةُ إرهاقٍ بسيط.
“بالطبع. ليس لأن اللون واحدٌ يعني أن القمصان كلها متشابهة. موضة هذا الموسم للرجال تعتمد على إبراز الخصر بخطٍ أنيق. وليس كل شخصٍ قادرٌ على ارتداء هذا.”
وافقها الخياط بحماس، و عيناه تلألأتا.
“آه، آنستي تعرف جيدًا ما تقول! وفوق ذلك، دائمًا ما ظننت أن قامة الدوق ونِسَبُ جسده من النوادر! هل تتخيلين كم كان يعتصرني الألم بسبب تلك العباءة اللعينة التي تُخفي كل هذا؟!”
“لديكَ عينٌ فنية. إنها روحٌ مهنية جميلة.”
أومأت فانيسا موافقة، بينما لم يفعل فيلياس سوى أن حرك عينيه بضجر.
“وبما أننا نتحدث عن النِّسَب، آنستي….ما رأيكِ بهذه الثنية في البنطال؟ الدوق طويل القامة للغاية، لذلك أظن أن هذا الجزء من القماش…”
وبينما يتكلم، مدّ الخياط يديه يعبثان بلا قصد قرب ركبة فيلياس. وفي اللحظة نفسها شعر بنظرةٍ باردة جعلته يرتجف ويتراجع بخوف.
فنظر إليه فيلياس من أعلى إلى أسفل و تحدّث بصوتٍ منخفض،
التعليقات لهذا الفصل " 72"