“أرجوكَ، لا تقل ذلك بهذه الطريقة، الأمر حقًا…..يجعلني أشعر بعدم الارتياح.”
ابتسم فيلياس بخفة.
“أعلم ذلك.”
بعد لحظات، جلس الاثنان جنبًا إلى جنب في الفناء حيث تتدفق النافورة.
“إذًا…..لأي سببٍ طلبت رؤيتي يا سمو الدوق؟”
“ليس بالضرورة أن هناك سببًا محددًا لزيارتكِ، لكن هناك أمرٌ يجب أن أخبركِ به أولًا. الآنسة فانيسا، أنتِ موضع اشتباه في قضية قتل والدكِ.”
دقّ قلبها بشدة. هل يقول هذا وكأن الأمر عادي؟
قلبها أخذ ينبض بعنف، لكنها لم تُظهر شيئًا. فالتظاهر بالهدوء سهل، لكن هل من اللائق أن تبقى هادئةً في موقف كهذا؟
“كيف علمتَ بذلك يا دوق؟”
“إنه لأمرٌ محزن أنكِ لا تناديني باسمي، لكن يبدو أن لقبي يكون ذا فائدة في مثل هذه المواقف. فعندما أسأل أيّ شخصٍ في القلعة عمّا يحدث، لا يملك إلا أن يجيبني.”
“…….”
فكرت أنها ربما مضت الأمور بسلاسة أكثر مما ينبغي. لكن أن تُتَّهَم بالقتل؟ هل سبق أن سارت إجراءات العدالة في هذا البلد بهذه السرعة؟
“ولماذا تخبرني بهذا أصلًا؟”
“لأني أريد مساعدتكِ حتى لا تتورطي في مأزق يا آنسة فانيسا.”
“أتقصد أنكَ تنوي مساعدة مشتبهةٍ بها في جريمة قتل؟”
“منذ تأسيس الإمبراطورية، لم يفلت قاتل أحد والديه من العقاب قط. ومع ذلك، لن أسمح بأن تُسجني أو تُدانِي بالأشغال الشاقة، سواءً كانت التهمة صحيحة أم لا، فالأمر سيّانٌ بالنسبة لي.”
“حتى لو كنتُ أنا من قتلتُ والدي؟”
قبل أن تُنهي كلامها، أدركت فانيسا تهورها وندمت فورًا.
لكن الأوان كان قد فات. و لم يكن أمامها إلا أن تأمل أن يكون فيلياس قد اختار مكانًا مناسبًا لهذه المحادثة السرية.
“أخبرني يا سموّ الدوق، لو كنتُ فعلًا قاتلة، ماذا كنتَ ستفعل؟”
اكتفى فيلياس بهز كتفيه.
“لابد أن لديكِ سببًا وجيهًا.”
“لكنكَ لا تعرفني جيدًا.”
“ولهذا بالضبط يا آنسة فانيسا.”
“ماذا تعني……؟”
“كنتُ على وشك أن أتعرف إليكِ حقًا. لكن لو أُخذتِ إلى السجن أو إلى معسكر الأشغال، فلن أستطيع رؤيتكِ مجددًا، أليس كذلك؟”
“هذا…..سببٌ يليق بكَ حقًا يا سموّ الدوق.”
“أليس كذلك؟ انظري، أنتِ أيضًا بدأتِ تتعرفين عليّ.”
قال فيلياس ذلك بنبرةٍ يملؤها السرور.
“عذرًا يا سموّ الدوق، لكني لستُ في مزاج يسمح لي بالمزاح الآن.”
“آه، أعتذر. لقد تصرفتُ مجددًا بما لا يليق بالموقف.”
كان محقًا. فوفقًا لقانون الإمبراطورية، جريمة قتل أحد الوالدين أشد قسوة من جريمة القتل العادية. حتى وإن وُجد سببٌ مقنع، لا يُخفف ذلك من العقوبة.
ما إن فكرت في الأمر حتى شعرت بالدم يبرد في عروقها ورأسها يخلو من كل دفء.
“هل انتهى التحقيق الميداني بالفعل؟”
سألت وقد اختفت الابتسامة الرسمية من وجهها. ومع ذلك لم يُبدِ فيلياس أي اضطراب.
“لم ينتهِ تمامًا بعد، لكنه يتقدم بسرعة. حتى الآن، أنتِ المشتبه بها الوحيدة التي لا تملك عذرًا يثبت براءتها. في تلك الليلة كنتِ وحدكِ بعد أن غادر الخدم جميعًا، فلا أحد يمكنه تأكيد ما تقولين.”
“لكن إن كان التحقيق لا يزال جاريًا، فهذا يعني أنه لا دليل مادي بعد، أليس كذلك؟”
“صحيح. لكن منذ البداية…..لم يكن لديكِ دافعٌ للجريمة، أليس كذلك؟ التحقيقات لها ترتيبٌ وأولويات.”
“وإن كان لي دافع؟”
ترددت فانيسا قليلًا، ثم فكّت الشريط حول عنقها.
و رأى فيلياس آثار الأصابع البارزة على بشرتها فلم يقل شيئًا، بل أدار بصره إلى مكانٍ مجهول وظل صامتًا لحظة طويلة.
“سأوصلكِ إلى المنزل.”
قال ذلك بصوتٍ منخفض بعد صمتٍ لم يكن قصيرًا. فأعادت فانيسا ربط الشريط حول عنقها وتبعت فيلياس الذي سار أمامها.
وحين خرجا من الحديقة، كانت العربة التي جاءت بها بانتظارها.
فتح لها فيلياس الباب وأمسك يدها كي تصعد بثبات، ثم أشار إلى السائق قائلاً شيئًا قبل أن يجلس مقابلها.
و بدأت العربة تتحرك، لكن فيلياس ظل صامتًا.
‘هل كان عليّ أن أقول ذلك؟’
شعرت فانيسا بانقباضٍ في صدرها وشيءٍ ثقيل يغمر قلبها. وحين لم تعد تحتمل الصمت، تكلّم فيلياس أخيرًا.
“هل هناك ما يشغل بالكِ؟ أتمنى أن أستطيع مساعدتكِ.”
كان في داخلها الكثير مما يشغلها، بل أكثر مما تستطيع احتماله. ولسببٍ ما، شعرت برغبةٍ في أن تبوح بكل ذلك لهذا الدوق الغامض.
فالهموم دائمًا أسهل اعترافًا أمام الغرباء.
ثم إن كان فيلياس حقًا كما يبدو عليه، فلن تقلق من أن يتسرب سرّها إليه.
‘رغم أن ما بقي لديّ من أسرار…..لا يستحق أن يُخفى بعد الآن.’
روت فانيسا سلسلة الأحداث التي مرت بها. الديون التي تركها الكونت لانغ، وتشابك علاقات الاقتراض المعقدة، وذلك القصر والأراضي الموروثة التي أصبحت ملكًا للإمبراطورية…..
و فكر فيلياس قليلًا قبل أن يجيب،
“أسهل حلٍ هو أن تتزوجي بأسرع وقتٍ ممكن يا آنسة فانيسا. ويُفضل أن يكون الزوج شخصًا يسهل عليكِ التحكم فيه.”
كان جوابه واضحًا إلى حد جعلها تشعر كأنه يحل مسألةً حسابية، وكأن الأمر لا يعنيه إطلاقًا.
‘هذا الذي كان يقول لي ألا أنظر حتى إلى من يرقص…..كلما عرفته أكثر، ازددتُ دهشةً منه.’
كانت تعلم أن الوقت غير مناسب، لكنها لم تستطع كبح رغبتها في ممازحته.
“الزواج، الزواج إذاً…..آه، ربما بهذا تنحل الأمور فعلًا. ألم يدعني اليوم سمو ولي العهد سرًّا للقائه؟ ما رأيكَ يا سموّ الدوق؟ هل يبدو هذا ظنًا متعجرفًا؟”
نظر إليها فيلياس لحظةً بذهول، ثم بدأ يطرق بحافة أصابعه على ذراع الكرسي بتوتر.
طق، طق، طقطق-
“أعتقد…..أنه من الأفضل إعادة التفكير في ذلك. فالأمير فريتس أكثر تصلبًا في طباعه مما يبدو، ولن يسهل استخدامه كما تشائين.”
“أحقًا؟ إذاً ماذا عن الأمير كونراد؟ أعلم أن الفكرة وقحةٌ قليلًا، لكنها تبقى افتراضًا فحسب.”
“لو أشرتِ بيدكِ فقط، فسيجثو كل رجال الإمبراطورية أمامك.”
“عفوًا؟”
“آه، لا، كانت زلة لسان…..على أي حال، كونراد أيضًا لا يصلح.”
“ولِمَ لا؟”
“لأن كونراد طفلٌ مدلل كثير البكاء. لا أظن أنك كنتِ لتختاريه أصلًا.”
‘صحيح…..لِمَ لم أدرك ذلك في حياتي السابقة؟’
كظمت فانيسا ضحكتها وهي تلوّح بمروحتها.
“يا لكَ من قاسٍ يا سموّ الدوق، أليس في كلامكَ مبالغة؟”
“رغم أنه…..محبوبٌ من كثير من السيدات، إلا أنني…..أرجو فقط ألا تكوني تفكرين فيه حقًا يا آنسة فانيسا.”
طق، طق، طقطق-
بدا عليه القلق فعلًا هذه المرة.
“لا أفكر به، لكن…..الحلم مسموحٌ، أليس كذلك؟”
“حتى ذلك لا أنصحكِ به.”
“ولمَ لا؟”
“لأن الأمر خطرٌ للغاية. لكونراد أعداءٌ كُثُر، وإن اقتربتِ منه، فستصبحين في خطرٍ أنتِ أيضًا.”
فكرت فجأة أنه ربما كان عليها في حياتها السابقة أن تتحدث إليه أكثر.
ولو أنها لم تتعامل مع رسالة زواجه حينها كمجرد مزاح…..
“قل لي يا سموّ الدوق، أعلم أني أقول كلامًا غير لائق، لكن، لو—افترضنا فقط—أن الأمير كونراد وقع في حبي وطلب الزواج مني، فماذا كنتَ ستفعل؟ لو أني كنتُ سأسلك طريقًا تراه أنتَ طريق شقاءٍ لي، فكيف كنت ستتصرف؟”
توقف فيلياس أخيرًا عن النقر المزعج على الكرسي، وانحنى رأسه قليلًا وكأنه يفكر بعمق، ثم أجاب كمن توصّل لحلٍ نهائي،
“سأطلب يدكِ أنا بنفسي.”
كان جوابه حاسمًا وواضحًا كعادته، ثم نظر إليها وكأنه ينتظر منها مديحًا على إجابته المثالية.
وحين رأت فانيسا ذلك، شعرت بوخزةٍ خفيفة من الذنب، لكنها ابتسمت وسألته،
“ولماذا تظن أنني سأقبل عرض زواجكَ يا سموّ الدوق؟”
“هاه..…”
“…….”
“آه، فهمت…..كنتِ تمزحين إذًا.”
أدار فيلياس وجهه نحو النافذة بصمت، لكن حين بدأت فانيسا تضحك بخفة خلف يدها، لم يستطع هو الآخر إلا أن يبتسم.
“والآن بعد أن ذكرتِ الأمر، يا آنسة فانيسا…..في حفلة ظهوركِ الاجتماعي، كنتِ تتوقعين أن أطلب منكِ رقصة، أليس كذلك؟”
“بالضبط. لم أتصور أنكَ ستخبرني بعدم الرقص مع أحد بدلًا من أن تدعوني بنفسكَ.”
“لأني لم أرغب برؤيتكِ ترقصين مع أي أحدٍ غيري. لكن لو أني دعوتكِ حينها، هل كنتِ ستقبلين؟”
“هممم…..لا، لم أكن لأقبل، لا منكَ ولا من غيركَ. كنت قد قررت ألّا أرقص في تلك الليلة.”
“كنتُ أتوقع ذلك.”
ظل فيلياس يحدق من النافذة. و كانت أشعة الشمس تتسلل إلى داخل العربة، ومع ذلك ظل وجهه في ظلالٍ خافتة.
“بالمناسبة يا آنسة فانيسا، هل تذكرين ما قلته لكِ حينها في الشرفة؟ عندما سألتِ إن كنتُ قد وقعتُ في حبكِ.”
بالطبع كانت تذكر. بل وحتى النبض الذي نبض تحت أصابعه وقتها لم يُنسَ.
“أجل، قلتَ أنكَ ما زلتَ تفكر في الأمر، أليس كذلك؟ هل انتهى تفكيركَ الآن؟”
“نعم.”
“وما النتيجة؟”
“…..نعم، لقد وقعتُ في حبكِ.”
ثم تعثرت العربة وتوقفت فجأة.
________________________
واااااااو واااااااااااااااااااااااااو متى قد شفت اعتراف في الفصل 7 ؟ مدري 😭
التعليقات لهذا الفصل " 7"