لكن ذلك كان كل ما تعرفه فانيسا. لم تحاول يومًا معرفة المزيد، ولا فكّرت فيه أساسًا.
راقبتها ليرا وهي تتردد، فمالت برأسها باستغراب.
“كنتُ….أظن أن الآنسة فانيسا هي حبيبة الدوق….ألم يكن الأمر كذلك؟”
حبيبة؟ يا له من لفظٍ مُحرِج.
و اضطرت فانيسا لأن تسعل بخفة.
“ليس….ليس أنه غير صحيح تمامًا….لكن….للأسف لم تتح لنا فرصة التحدث في ذلك بعد. وإن كان لا يزعجكِ الأمر، هل يمكنكِ أن تشرحي لي قليلًا؟ عن السيدة شيريو.”
أشرق وجه ليرا فجأة، كأنها كانت تنتظر بفارغ الصبر من يسألها هذا السؤال.
“هل توجد مكتبةٌ في القلعة؟ سيكون أفضل إن كانت فيها كتبٌ من يونو.”
اصطحبتها فانيسا إلى أقرب قاعة كتب. لم تكن مكتبةً متخصصة، لكنها احتوت على مجموعاتٍ أساسية من الكتب الأجنبية.
“بدأتُ دراسة «القوة» لأن الناس في الشرق الأقصى يرونها نذير شؤم. أمرٌ غريب، أليس كذلك؟ فالإمبراطورية أصبحت سيدة القارة بفضل تلك القوة نفسها، ومع ذلك هم يمجّدون الإمبراطورية ويحرّمون القوة!”
مرّت ليرا بإصبعها على صف الكتب على الرف.
“آه، ها هو. سمعت أن مواطني الإمبراطورية لا يحبون الأساطير، لكن في الشرق الأقصى….حتى الأطفال يعرفون هذه الحكاية.”
كانت حكاية كيانين. “دِليمي” و”ريمون”؛ كيان الشمس والقمر.
كانا يدوران حول القارة في اتجاهين متعاكسين، فيضيئان نهار العالم وليلَه.
وذات يوم، أثناء مرور ريمون بوسط القارة، قابلت أميرًا قويًا وجميلًا.
وقع كلاهما في الحب سريعًا، ومنحت ريمون الأمير الخلود وقوةً تحكمه بالقارة.
ثم صنعت قمرًا من الخزف ليضيء السماء ليلًا بدلًا عنها، كي تتمكن من البقاء إلى جانب حبيبها إلى الأبد.
ومضت الأيام، فأقام الأمير إمبراطوريةً ونصّب نفسه إمبراطورًا.
أبناؤه الذين وُلدوا من ريمون غدوا جميعًا محاربين بارزين؛ لا يشيخون ولا يموتون، أشبه بالأساطير.
ولم يشك أحد في أن مجدهم سيظل خالدًا.
وفي يوم ما، اشتاقت ريمون لشقيقتها دِليمي، فقررت ترك الإمبراطور لبعض الوقت. لكن الإمبراطور لم يستطع الوثوق بها. وإن رحلت ولم تعد، فسينهار مجده كلّه.
توسّل إليها….غضب عليها….حاول ابتزازها بأطفالها، لكنه لم يستطع تغيير قرارها.
وحين عجز عن منع رحيلها، قرر أن يمنع السبب نفسه.
في يومٍ كانت فيه الشمس أكثر انخفاضًا، صعد الإمبراطور إلى أعلى جرف، وأطلق سهمًا أصاب دِليمي التي كانت تقود الشمس، فأسقطها.
وحين علمت ريمون بالحقيقة، تحطّم قلبها، وقررت أن تلحق بأختها في الموت.
لكن الإمبراطور لم يسمح لها حتى بذلك. قيدها ودفنها حيةً في قمة جبل ثلجي، ثم ألقَ عليها تعويذةً تمنع أي أحد من العثور عليها.
وبذلك فقد الإمبراطور وذريته الخلود. فلم تعد الكيانات تنير النهار والليل.
ولم يبقَ من ريمون سوى قوة الدمار التي ورّثتها لنسلها جيلاً بعد جيل.
“لا عجب أن شعب الإمبراطورية لا يحب هذه القصة….فمؤسس عائلتهم الإمبراطورية يبدو كمتعصّبٍ تافه.…”
ألقت ليرا عليها نظرةً متحمّسة، كأنها تنتظر تعليقًا. وقد اختفى خجلها تمامًا.
“إنها حكاية فريده.…ومؤلمة. لكن….ماذا عن الشمس؟ من يضيئها الآن إن كانت دِليمي قد ماتت؟”
“همم، تختلف الروايات، لكن بعضهم يعتقد أنها ما زالت حية. وأن دمها، حين فرّت شرقًا هاربةً من السهم، أحدث ظواهر غريبة في القارة الشرقية.”
“حسنًا…..لكن ما علاقة هذه الحكاية بالسيدة شيريو؟”
أغلقت ليرا الكتاب.
“القوة لا تظهر إلا في العائلة الإمبراطورية….لكن أحيانًا نادراً يولد في الشرق الأقصى أشخاصٌ يملكون قوة مشابهة. يُسمّون «المغطّين بدم دِليمي». وبما أنّ الناس هناك يعدّون ذلك عارًا….كثيرٌ منهم يخفون قدراتهم.”
“عار؟ ولماذا؟”
“لأنها ليست قوةً طاغية مثل قوة العائلة الإمبراطورية…..ولأن البشر بطبيعتهم يخشون ما لا يفهمونه. فمن يُكشف أمره قد يُقتل…..أو يُباع عبدًا.”
“هذا مروّع.”
ظهر الألم في ملامح ليرا.
“وما زال يحدث حتى الآن. وهم قلّة، فلا يكاد يُسمع صوتهم. لكن السيدة شيريو….كانت مختلفة. وُلدت بقوة عظيمة، وكانت تملك إرادةً أعظم. كان يمكنها أن تعيش بنعومة كغيرها من النبلاء…..لكنها اختارت طريقًا آخر.”
“طريقًا آخر؟”
“أرادت أن تقاتل من أجل أولئك المولودين بهذه القوة. أرادت الاعتراف بهم….وأن تُستثمر قدراتهم لصالح الجميع.”
قبضت ليرا يدها بشدة، كأن قلبها ينبض حماسة.
“….لكن بما أنها وصلت إلى هذا المكان وحدها….فخُططها لابد أنها فشلت.”
عند كلام فانيسا انطفأ وجه ليرا، وتنهدت بعمق.
“في النهاية أصبحت ضحيةً لصراع السلطة. فبغض النظر عن قوة المرء، لا يمكنه إحراق دولة بأكملها.”
“إحراق.…؟ هل كانت السيدة شيريو تتحكم بالنار أيضًا؟”
“نعم. وهذه قدرةٌ نادرة جدًا. وأحب أن أسميها «نار دِليمي».”
‘هل يمكن أن تنتقل القدرات بهذه الطريقة؟’
تساءلت فانيسا في سرّها.
“كان يضايقها أن أفراد العائلة الإمبراطورية يحتفظون بالقدرات لأنفسهم وكأنها أسرار، لكن اكتشاف أنها لم تكن قدرةً خاصة إلى ذلك الحد كان مثيرًا للسخرية.”
“إذاً، السيدة شيريو كانت قد لجأت إلى هنا نوعًا ما.”
أومأت ليرا برأسها ردًا على كلام فانيسا.
“هذا مجرد تخمين، طبعًا. فدولة أون دولةٌ شديدة الانغلاق، ومن الصعب فهم مجريات الأمور فيها. لكنني….أعتقد أن للسيدة شيريو خططها الخاصة. ولو أمكن، أود معرفة ما كانت تنوي فعله بعد ذلك من خلال الدوق.”
“لكن….السيدة شيريو توفيت بعد فترةٍ قصيرة من وصولها إلى الإمبراطورية. حتى لو كان الدوق ابنها، لا أظن أنه يحتفظ بذكرياتٍ عنها.”
“مع ذلك، ربما أجرى نوعًا من التحقيقات بشأنها. فهي والدته في النهاية.”
‘همم….لا أدري….لا يبدو لي شخصًا عاطفيًا إلى ذلك الحد.…’
في تلك اللحظة تذكّرت فانيسا الكتب المتراكمة قرب مدفأة غرفة فيلياس—كتبٌ من الشرق الأقصى تملؤها الملاحظات اللاصقة.
‘هل كانت آثارًا لبحثٍ ما؟’
“آنسة ليرا، لدي حدسٌ بشأن شيءٍ ما….هل يمكنكِ الانتظار هنا قليلًا؟”
“بالطبع! سأشغل نفسي بتصفّح الكتب!”
واختفت ليرا بخفّة بين صفوف الرفوف.
“واو! هذه النسخة الأولى من تاريخ الحروب الإمبراطورية!”
ومع صدى الصيحة المرِحة خلفها، توجهت فانيسا نحو غرفة فيلياس.
***
دُووم-
أغلقت فانيسا الباب بسرعة. ومن خلف الباب المغلق، سمعت خطوات فيلياس تقترب.
“لماذا تهربين؟ ظننتُ أنكِ جئتِ لرؤيتي.”
“هروب ماذا! فقط….تفاجأتُ قليلًا، هذا كل ما في الأمر. ألم تكن في اجتماع؟”
“تركت أحد المساعدين ليتولّى الأمر. بدا وكأنه يريد قول الكثير.”
“أه، حسنًا….على كل حال آسفة، سأعود لاحقًا.”
كانت على وشك الابتعاد عندها امتدت ذراعٌ من خلال فجوة الباب وأمسكت بيدها.
“لا تذهبي.”
غطّت فانيسا وجهها بيدها الحرة بسرعة، صارخةً داخل نفسها. ‘بِحقّ…..’
“كيف تخرج بهذه الحالة؟!”
فقطّب فيلياس حاجبيه غير مدرك.
“لا يوجد هنا أحدٌ غيركِ على كل حال. ولا أفهم أصلًا لماذا أنتِ منفعلةٌ هكذا.”
و صرخت فانيسا وما زالت تغطي وجهها.
“لماذا تخلع قميصكَ في وضح النهار؟!”
“..…؟ حتى المرة السابقة لم يكن الليل أيضًا، على ما أذكر.”
التعليقات لهذا الفصل " 68"