ارتفعت ألسنة اللهب ببطء ناشرةً حمرةً ملتهبة في كل موضعٍ مرّت به. أحرقت رمال الشاطئ السوداء وفي النهاية طوقت منطقة الصخور.
وقف فيلياس عند مقدمة السفينة يراقب الجزيرة وهي تُبتلع تدريجياً بالحرائق. و كان البحر هادئاً والسفينة تسير بسلاسة.
ثم.
كييييييك—صدر إنذارٌ حاد يمزق الأعصاب.
‘فانيسا……؟’
طقطق، طقطق-
النيران التي أفلتت من نطاق سيطرته حطمت الزجاج وسقطت فوق الجزيرة الموحشة. بينما أخرج فيلياس جهاز الإرسال على شكل ساعة ويده ترتجف.
وبالكاد حرّك شفتيه،
“……أين أنتِ.”
وبعد صمتٍ بدا طويلاً على نحوٍ مرعب، جاء الرد.
[فيلياس.]
‘ها…….’
لحسن الحظ، كان صوتها واضحاً كعادتها. فحاول فيلياس تهدئة نفسه،
“هل تأذيتِ؟”
[لا. لم أصب بأذى. فقط……تعثرتُ قليلاً. يبدو أن عتبة الألم لديّ منخفضة.]
‘آه.’
يبدو أن مساعده الثرثار تسبّب في هذا.
[قبل ذلك، أنتَ بخير أليس كذلك؟ كنتُ قلقة، وفجأة……]
“تعنين أنكِ سقطتِ عمداً.”
خرجت كلماته بنبرة تحقيقٍ دون أن يشعر. فسمع صوت فانيسا وهي تضحك ضحكةً قصيرة مرتبكة عبر الاتصال.
[……هذا ليس المهم الآن. ألا تحتاج إلى دعم؟]
أي شيءٍ أهم من ذلك؟ كان ما فعله كله فقط كي لا تتعرض للأذى.
“فانيسا، حقاً….لم يكن عليكِ فعل هذا.”
[أعرف. لكن……]
“أرجوكِ، فقط لا تقومي بتصرفاتٍ خطرة. أحياناً أتساءل إن كان لديكِ حياتان.”
[قلت لكَ أنني فقط تعثرت! ولم يؤلمني حقاً.]
“لستُ بهذا القدر من السذاجة.”
[حسناً. إذاً لا تصدق. لكن هل أنتَ حقاً في موقعٍ يؤهلكَ لتلقيني موعظة؟]
ششت—
ساد الصمت. و لم يتكلما. و لم يُسمع سوى التشويش للحظات.
“سنتحدث وجهاً لوجه. سأصل خلال ثلاث أو أربع ساعات.”
[كما تشاء.]
وانقطع الاتصال. فحدّق فيلياس مطولاً في الجهاز الصامت.
“لا أعرف ما الذي حدث، لكن عليكَ الاعتذار.”
قال سوريل ذلك وهو يجلس على السطح وينفض الرمل عن حذائه.
“على أية حال، كل شيء ذنبكَ يا سيدي الدوق. فقط قل لآنستي أنكَ مخطئ وانتهى.”
ضحك فيلياس واستدار نحوه.
“يبدو أنني أصبحت متساهلاً هذه الأيام، أيها الفارس سوريل.”
“آه، أممم….أنا……”
“لا، هذا أمرٌ جيد. سأكون ممتناً لو واصلت إسداء النصائح.”
“……لا، المعذرة يا سيدي.”
وانسحب سوريل وهو يحتضن حذاءه.
ثى نظر فيلياس إلى الدخان الأسود المتصاعد فوق الجزيرة، وشعر بكآبةٍ بلا حد.
***
أقيم العشاء الرسمي في الحديقة الخلفية للقلعة كما خُطط له.
وقبل وصول الضيوف، كانت فانيسا تتفقد آخر مرة زينة الطاولة.
لقد كان قرارها بالاعتماد على طابع القلعة العتيق هو القرار الصائب. فستائرٌ شفافة كانت تتماوج تحت مظلة السقف، وعلى الجدار الحجري القديم تتفتح ورود الكرمة الحمراء.
اليوم اختارت فانيسا فستاناً كلاسيكياً بلون الكريما. حتى أقراط اللؤلؤ البسيطة كانت قطعةً قديمة تم تجديدها.
رفعت قليلاً حافة قبعتها وهي تنظر إلى الغيوم العائمة في السماء الصافية.
‘أنا مرهقة.’
في الحقيقة، كانت تستطيع إعداد مثل هذا العشاء مغمضة العينين لكثرة خبرتها. لكن لم يكن يجوز لها أن تبدو بارعةً أكثر من اللازم.
كان عليها أن تبدو كعملٍ مقبول من ابنة كونت لم يمض على ظهورها في المجتمع سوى فترة قصيرة متقنٌ دون مبالغة، ومتواضعٌ دون خلل. وهذا كان أصعب مما يبدو.
“فانيسا.”
عندما رفعت رأسها للصوت الهادئ، وجدت فيلياس واقفاً عند أعلى الدرج، ينظر إليها.
كان يرتدي زيّاً رسمياً خفيفاً بألوان هادئة، كما طلبت منه مسبقاً. فشعرت فانيسا بأن التجعيدة التي كانت بين حاجبيها انبسط تلقائياً.
“……لقد غيّرتَ تسريحة شعرك.”
أومأ فيلياس برأسه.
“هل تبدو غريبة؟”
“لا. ليست سيئة.”
قالت ذلك، لكن الحقيقة أنها كانت أفضل بكثير من “ليست سيئة”. و كانت ترغب في إغداق الثناء على من اعتنى بشعره وملابسه بهذا الإتقان.
بدت الهالات حول عينيه وكأنها من الإرهاق بسبب جدول أعماله المزدحم، لكنها لم تزدْه إلا جاذبية.
لكن قول ذلك بصوتٍ مسموع كان صعباً، فالعلاقة بينهما الآن كانت باردة للغاية.
‘ما أحرج هذا…….’
فمنذ عودته لم تتح لهما فرصةٌ واحدة ليتحدثا حديثاً حقيقياً.
عند نزوله من السفينة، لم يتوجه إلى القلعة، بل إلى مقر قيادة البحرية الشرقية. وبالرغم من أنها لم تعرف التفاصيل، فإن احتراق إحدى جزر الأرخبيل بالكامل كان يستدعي اجتماعاتٍ طارئة.
أما فانيسا، فانشغلت بحفظ اللوائح الضريبية الخاصة بالسلع الفاخرة.
فالذي كانت تنوي اقتراحه على سفيرة يونو خلال هذا العشاء هو عقد احتكار استيراد اللؤلؤ المستزرع. ومع أنها وضعت بعض الخطط، فإن المفاوضات نفسها كانت من مسؤولية اللورد.
لكن فيلياس عاد إلى القلعة البارحة فقط، وفي ساعة متأخرة، فلم تستطع إلا أن تسلّم له كومةً من المستندات دفعةً واحدة.
‘لكن لا فائدة من التفكير الآن. الباقي……متروكٌ للحظ.’
“آه، كدتُ أنسى إخباركَ. عندما يصل الضيوف، هلّا تعاملني كما تعامل الآخرين؟”
أمال فيلياس رأسه قليلاً مستفهماً.
“كما أُعامل الآخرين……؟”
“أعني، ببرودٍ ولا مبالاة. كأنكَ رجلٌ بارد لا يملك قلباً. هكذا سيأخذني الضيوف على محمل الجد.”
“…….”
“هل هذا يناسبكَ؟”
“سأفعل….كما ترغبين. لكن….هل تقولين هذا لأنكِ غاضبةٌ مني؟ أم لأنكِ حقاً-”
في تلك اللحظة، هرع أحد الخدم يخبرهما بوصول الضيوف. فأصلحت فانيسا قبعتها.
“حسناً، لنذهب.”
***
مضى العشاء كما خُطط له تماماً. من شراب الاستقبال وحتى الحلوى، كل شيءٍ كان مناسباً ومنسجماً.
وبدا أن معظم الضيوف لا يزالون مذهولين لكونهم تلقّوا دعوةً إلى هذا الحدث، لكن ذلك لم يمنعهم من إغداق الثناء على فانيسا مرةً بعد أخرى.
أما أكثر من كانت تخشى منه—فيلياس—فكان مذهلاً لدرجةٍ مُحبِطة.
أبدى قدراً من المجاملة يليق بدوقٍ إمبراطوري، وهالة راقية عصيّة على الاقتراب لكن يصعب صرف النظر عنها.
حتى أنه بادل بعض الضيوف ابتساماتٍ بدت صادقةً إلى حدّ ما.
وفهمت فانيسا كلياً ما قالته فرانسيسكا عن السيدات اللاتي وقعن في غرامه. فمع وجه كهذا وتعبيرٍ كهذا، تستطيع أي امرأةٍ تقبّل أي كلمات قاسية تخرج منه.
‘إن كان يجيد هذا إلى هذا الحد، فلماذا لم يفعله حتى الآن؟’
هكذا فكرت وهي تشق شرائح لحم السلمون المشوي بالشوكة.
بعد انتهاء العشاء، كان اللورد سيجتمع سراً مع سفيرة يونو. أما فانيسا، فكانت ستقود بقية الضيوف نحو البحيرة الاصطناعية.
“الآنسة لانغ.”
التفتت فإذا بفيلياس ينظر إليها. وبنفس التعبير الرسمي الصارم الذي طلبت منه استخدامه،
“هلّا تحضرين الاجتماع؟”
“……بالطبع يا سيدي الدوق. إنه لشرف.”
أجابت بابتسامةٍ هادئة، لكنها لم تستطع النظر مباشرةً إلى عينيه.
و بعد قليل، داخل قاعة الاجتماعات في الطابق الأول من المبنى الرئيسي.
“إذاً، حضرتكِ الكونتيسة لانغ، أليس كذلك؟ إن لم يكن في السؤال إساءة، ما سيرتكِ؟ لقد عشت في الإمبراطورية نحو عشر سنوات، ومع ذلك لم أسمع اسمكِ قط.”
كانت سفيرة يونو امرأةً في منتصف العمر بعيونٍ تبتسم برٍاحة، لكن كلامها لم يكن يحمل أياً من تلك الوداعة.
“يسعدني اهتمامكِ إلى حد التدخل في شؤون التعيينات الإمبراطورية.”
دمدم فيلياس وهو يضع فنجان القهوة على الطاولة. و تصلّبت ملامح السفيرة للحظة. فسارعت فانيسا إلى التدخل.
“لا بأس. أعترف أن خبرتي قليلةٌ لحضور مثل هذه الاجتماعات. لكنكِ تعرفين أيضاً كم يصعب على الدوق الوثوق بالناس. لذا وجودي هنا لا بد أن له سبباً، أليس كذلك؟”
حدّقت السفيرة في وجه فانيسا طويلاً قبل أن تزفر.
“حسناً، سأكون صادقة. أنا……لستُ واثقةً من مشروع شقيقي.”
“هل يمكنني معرفة السبب؟”
“اللؤلؤ سلعةٌ فاخرة، والسلع الفاخرة تستمد قيمتها من ندرتها. أما اللؤلؤ المستزرع……فمهما بدا متقناً، فالمُقَلَّد يبقى مُقَلَّداً. ولا أظن سيدات الإمبراطورية يرغبن بمجوهرات مزيفة.”
‘مجوهرات مزيفة، هه……صحيح، هذا ما ظنه الجميع في البداية.’
_________________
وي حسبت مع رجعة فيلياس به مشاعر وكذا خيبة امل خير يافيلياس
مفروض اول مارجع يقول اسف ويبوس يدها ويرجع عندها هنا فانيسا تحسها انتصرت وتضحك وخلاص😭
المهم يارب يخلص ذا الاجتماع بسرعه وش لنا بالسياسه ياخي Dana
التعليقات لهذا الفصل " 66"