“همم، لحسن الحظ أنكِ تتقبلين الأمر بهدوءٍ أكثر مما توقعت، كنت أظنكِ ستفزعين.”
“بصراحة، أنا الآن لستُ في حالةٍ تسمح لي بالحكم الموضوعي، لذا….نعم….دعنا نتعامل أولًا مع ما هو أمامنا، إلى أي درجةٍ من الإصابة يجب أن أتعرض؟”
“هذا هو الجزء الصعب نوعًا ما، كما تعلمين، عتبة الألم تختلف من شخصٍ لآخر، فهناك من ينهار طَوال اليوم من مجرد وخزة قلم……مثلي مثلًا، وهناك من يُطعَن في بطنه ثم يحرقُ أربعة قواعد أمامية كاملة، مثل الحاكم.”
“آه، إذاً الندبة التي كانت في خاصرتك أيضًا حدثت حينها.…”
توقفت فانيسا عن الكلام فجأة، وأدركت متأخرةً ما قالته، فحوّلت بصرها بعيدًا.
“هم، همم.”
تظاهر شان بعدم الانتباه وسعل سعالًا مصطنعًا ثم تابع.
“عمومًا، تكون عتبة الألم لدى النساء أعلى قليلًا من الرجال، وكلما اعتاد الإنسان الألم الجسدي احتاج إلى محفزٍ أقوى، وبما أنني لا أستطيع أن أمدّ يدي إلى جسدكِ، فلو أمكن….”
تردد شان.
“في النهاية تريدني أن أفعلها بنفسي، أليس كذلك.”
فتنهدت فانيسا.
“……فهمت.”
وضعت قدمها على طاولة القهوة ورفعت تنورتها سريعًا حتى فوق الركبة.
“آآآاه! ماذا تفعلين الآن بالضبط؟!”
صرخ شان مذعورًا وهو يستدير بعيدًا، وبدلًا من أن تجيب، أخرجت فانيسا الخنجر الذي كانت تثبته في رباط الفخذ.
جرّبت أن توخز طرف إصبعها برأس النصل الحاد، وخزًا خفيفًا، ولم يحدث شيء.
ثم أحدثت جرحًا بطول ثلاثة سنتيمترات تقريبًا في باطن كفها، وسرعان ما تجمّع الدم، ومع ذلك ظلّ الحجر بلا أي استجابة.
“هل هذا الجهاز يعمل حقًا؟”
حين استدار شان ثانيةً نحوها، كان وجهه شاحبًا كرقعة من الورق.
“كيف تجرحين نفسكِ هكذا!! هل تريدين أن تري شخصًا يموت؟!”
“أليست هذه إصابة؟”
“ولِمَ برأيكِ أخرجتُ هذا الكلام الآن بالذات! لقد كان آخر، آخر وسيلة! كنتُ مستعدًا حتى لتحمّل خصم من راتبي، لكن إن علم الحاكم أنكِ جرحتِ يدكِ….”
“ردّة فعلكَ مبالغٌ فيها.”
“وماذا تعرفين أنتِ! لقد هلكنا جميعًا…….”
بدا شان على وشك البكاء.
‘إذًا هكذا الأمر.’
“طالما أننا هالكون على أي حال، فلنذهب إلى النهاية.”
وضعت فانيسا يدها اليسرى على الطاولة ورفعت الخنجر عاليًا، وفي اللحظة التي همّت فيها أن تطعنه في ظهر يدها، اندفع شان نحوها مذعورًا.
كُدَنْغ!
فطار الخنجر من يد فانيسا في الهواء. ثم، طاخ!
“آآه….”
ارتطم جبين فانيسا بحافة طاولة القهوة، وخرجت دمعة صغيرة من عينها، وكان من المؤكد أن ورمًا كبيرًا سيظهر بعد الظهيرة.
“كيف تدفعني هكذا فجأة!”
لكن فانيسا توقفت حين رأت شان جالسًا على الأرض وقد شحب وجهه تمامًا، فقد تفادى الخنجر بالكاد، وكان من حسن الحظ ألا يُثقب فخذه.
و في تلك اللحظة.
تشِش، تشِشِش……
خرج الصوت من الجوهرة. و ركز الاثنان أنظارهما على كاحل فانيسا.
“[……أين أنتِ؟]”
خرج صوتٌ يخترق الضجيج.
كان صوت فيلياس.
***
قبل نحو ساعة واحدة. كان فيلياس يسير على الساحل الشمالي لجزيرة “الرأس”، وهي إحدى الجزر الست في الأرخبيل.
كلما رسم علامةً على الرمل الرطب بغصن شجرة، كان سوريل الذي يتبعه يدفن قارورةً زجاجية واحدة تلو الأخرى في الموضع المحدد.
في الحقيقة، لم يستغرق قمع أحداث الشغب التي وقعت قبل أسبوع سوى أقل من ساعتين.
كان مثيرو الشغب مجموعةً من شباب الجزر الذين يدّعون أنهم قوةٌ مستقلة، وكان المحرّض الرئيس ابن حاكم جزيرة الرأس الأصغر.
أقام الحاكم مأدبةً صغيرة اعتذارًا، وحاول سوريل أن يرفض كعادته، لكن فيلياس تعمّد حضورها وشرب كل كأس قدّمه له الحاكم دون أن يردّ.
وبعد ساعة، خرج سوريل حاملاً فيلياس على ظهره بعدما سقط وهو يتقيأ الدم. وما تلا ذلك كان قتالاً ضارياً بكل ما تعنيه الكلمة.
“ماء.”
قال فيلياس ذلك وهو يرمي الغصن من يده. وبعد أن دفن آخر قارورةٍ زجاجية، أخرج سوريل قربة الماء وأعطاها له وهو ينقر بلسانه مستنكراً.
“هل كان لابدّ أن تتصرف دائماً بهذه الطريقة المتهورة؟ بما أنكَ عرفت أن فيها سماً، كان يمكنك أن تجعلني أشربها بدلاً منكَ. ما الذي يعنيه أن تأتي من دون حتى مُسعِف واحد؟”
“لن أموت.”
“ومن يجهل ذلك؟ تعرف أن هذا الدم العظيم يجري في عروقي أيضاً، أليس كذلك؟”
“نسيت. من الآن فصاعداً أنتَ الذي ستشرب الشراب المسموم إذاً.”
أجاب فيلياس ببرود وهو يشرب ماء القربة.
وكان من المعلومات السرية أن أصحاب الدم الإمبراطوري يتمتعون بسرعة تعافٍ وتنقية للسموم تفوق البشر بكثير.
فالسم الذي يفتك بغيرهم لا يؤثر فيهم إلا بعد أن يبتلعوا قدراً ضخماً من ذلك الروم المقزّز حتى يظهر مفعوله.
وقد كان وجه الحاكم، حين رأى اللورد يتقيأ الدم وصرخ من الفزع، مشهداً لا يُنسى. فلم يخطر بباله قط أن يرتكب ابنه الأصغر المدلل مثل هذه الحماقة.
استغرق تعافي فيلياس نصف يوم، واستغرق جيش الدوقية النخبوي الذي كان قد تم نشره مسبقاً يومين كاملين ليحوّل المستوطنة إلى رماد.
أما الأيام التالية فانشغلوا فيها بإجلاء السكان الذين استسلموا إلى الجزر المجاورة.
والآن كانوا ينتظرون عودة السفينة التي أقلّت آخر السكان، بينما يقضون على فلول الهاربين المختبئين في الصخور.
“حسناً، انتهى الأمر على خير في النهاية، لكن هل كان لابد من كل هذا الاستعجال؟ لو احتجتَ مبرراً، كان بإمكاننا دائماً تلفيقه لاحقاً.”
لم يزل سوريل مستاءً من أن فيلياس تصرّف بلا أي إشارة مسبقة.
فرمى له فيلياس القربة الفارغة،
“لننجز ما أمامنا خطوةً بخطوة.”
“تقول كلاماً لا يشبهكَ إطلاقاً.”
جلس فيلياس كيفما اتفق على الرمال السوداء.
‘ترى…..هل تقلق فانيسا عليّ الآن؟’
سيكون ذلك جيداً لو كان صحيحاً، هكذا فكّر.
‘وربما…..ربما تكون غاضبة.’
فقد خرج بلا كلمةٍ واحدة، ومضى أسبوعٌ من دون أن يرسل إليها أي خبر.
و في الأساس، لم تكن تلك الباقة الزهرية كافيةً لتغفر له.
‘غضبها لطيف.’
ابتسم قليلاً وهو يتذكر حاجبي فانيسا المرفوعين وشفتيها المنطبقتين بإحكام.
لكن أفكاره انزلقت—كالعادة—إلى اتجاه خطير.
“من أجل امرأة واحدة ستُبعد ولي عهد دولةٍ كاملة؟ لا يمكنني أن أحب شخصاً يفعل أمراً كهذا.”
حين قالت ذلك ورفعت وجهها تنظر إليه، كان يستطيع أن يقرأ الارتجاف الخافت في عينيها.
للأسف، كان فيلياس بالفعل من يفعل أموراً كهذه. متطرفاً، لا يشعر بوخز ضمير. هكذا كان…..دائماً.
كل ما رغب به هو أن تراه إنساناً غير مؤذٍ. لكنه يعرف أن ذلك مستحيل ما دام الجحيم يضطرم في رأسه.
فحدّق في الأفق بشرود. كان يريد العودة إليها في أسرع وقت، لكنه في الوقت ذاته….لم يكن يريد ذلك.
وربما كان شربه للكأس المسمومة، وهو يعلم حقيقتها، مجرد محاولةٍ لتأخير عودته.
أحياناً…..فقط أحياناً، كان يشعر أنه من الأفضل أن تخشاه. فالشفقة شعورٌ عابر في النهاية. وستكتشف يوماً أنه ليس شخصاً يستحق الرحمة.
وحين يأتي ذلك اليوم—ماذا سيفعل فيلياس؟ بل هل سيتمكن حتى من إدراك أن تلك اللحظة قد جاءت؟
هل سيفهم عقلُه المحطم أن قلبها يميل ويبهت؟
كانت هناك أيامٌ يودّ فيها أن يمسك يدها ويجرّها إلى الوحل، أن يخرّب قلبها كما هو خراب قلبه.
وليالٍ أراد فيها أن يستنزفها حتى آخر قطرة، أن يقيدها للأبد. حتى لا تفكر في أي شيء غيره. كما تفعل هي معه.
وبالرغم من ذلك كلّه، كان يجرؤ على القول أنه يجلّها.
‘يا للغثيان.’
كان يشمئز…..من نفسه.
“سيدي الدوق.”
رفع رأسه فإذا بسفينةٍ شراعية تلوح من بعيد.
“أخيراً سنعود إلى المنزل.”
قال سوريل ذلك بارتياح.
وحين رفع فيلياس يده، اشتعل الفتيل الذي صنعوه على عجل.
ستتحول الكمية المحفوظة من الكحول في القناني إلى مادة مشتعلة فور خروجها من مدى السهام.
سيسمح ذلك بتقليل حجم الحريق، وإن أحسن حساب اتجاه الريح فلن يستنشق أحدٌ الدخان.
ومع أن الطريقة بدت بدائيةً بعض الشيء، إلا أنها فعالةٌ وسهلة بلا جهد يُذكر.
وبعد قليل، ومع إقلاع السفينة التي يستقلها فيلياس، بدأت القناني الملتهبة ترتفع في الهواء.
___________________
صقعت جبهتها وزان يضحك😭 يعني الدم اقل الم
شان شاف شريط حياته قدامه يوم رفعت فانيسا الخنجر😭😭😭
التعليقات لهذا الفصل " 65"