“هل يكفي أن تقول فقط أن كل شيء بخير؟ أي نوعٍ من المساعدين هذا؟”
بعد يومين كان من المقرر إقامة مأدبةٍ رسمية، وكان شان يجزم بثقة أن فيلياس سيعود قبل ذلك، وحتى الآن لم يبدُ عليه القلق كثيرًا.
“آه، لولا هذا القدر من سعة الصدر، كيف لي أن أتحمّل طبع سيدي؟ على كل حال، آنسة، هل يمكننا الجلوس قليلًا لنتحدث؟ سأطلب أن يُحضَر الشاي.”
“……لا حاجة للشاي.”
أسندت فانيسا ظهرها إلى الكرسي بفتور.
كان الموسم موسم ضبابٍ بحريٍ كثيف، لذا لم يكن بوسع فرق البحث أن تتحرك بحرية، كما كان إرسال الحمام الزاجل حول الجزر محظورًا.
و لو كان في خطر فعلًا، لانكشف موقعه في تلك الجزيرة الصغيرة المعزولة بالكامل.
رغم أن شان هو من أصرّ على المضي قدمًا في التحضير للمأدبة وفق الجدول، فإن فانيسا وافقته على أنه لا يمكن تأجيل الحدث.
فبقاء هذه المدينة الغارقة في المستنقعات إنما هو بفضل وجود الحاكم وحده، ولو علم أمراء الحرب في الشرق وقطّاع الطرق بما جرى في أشوكا لما كان في ذلك خير.
لكن أسبوعًا كاملًا قد مرّ بالفعل. أي مأدبة تُقام أصلًا في قصرٍ بلا صاحبه؟
“أكرر ما قلتُه، لا تقلقي يا آنسة، سيدي الحاكم بخير، لا شك أن الأمور تشابكت قليلًا وهو ينهي الترتيبات هناك.”
“وإن لم يكن كذلك؟”
“وإن لم يكن كذلك……فلن يكون هناك داعٍ لهذا القلق أصلًا، فنحن جميعًا قد هلكنا وسنموت قريبًا.”
ابتسم شان ابتسامةً عريضة، كأنما يثبت أن الضد النقيض يلتقيان فعلًا، تفاؤلٌ متطرف في صلبه تشاؤمٌ مطلق.
“إذًا……كل ما علينا فعله هو ألا نفعل شيئًا؟ نبقى جالسين هكذا نحتسي الشاي؟”
ارتشف شان رشفةً من قهوته الباردة الموضوعة على المكتب.
“قبل أن ندخل في صلب الموضوع، هناك أمرٌ واحد أود سؤالكِ عنه.”
وتردد على غير عادته.
“بما أنكِ لا تحبين الرسميات، فسأكون صريحًا، عندما جئتِ إلى أشوكا في البداية، ظننتُ أنكِ تسعين إلى جني مصلحةٍ ما من سيدنا الحاكم.”
رفعت فانيسا إحدى حاجبيها، ولوّح شان بيده وكأنه ينفي أي سوء نية.
“من الطبيعي حساب الأرباح والخسائر، فأنتِ ذكية، وبما أنكِ تطلبين منا هذا وذاك، قد يبدو كلامي مضحكًا، لكن……لأنني ظننتُ أن لكِ هدفًا، تمكنتُ أنا أيضًا من طلب تعاونكِ بسهولة.”
“ومثل ماذا توقعتَ أن يكون هدفي؟”
“وماذا غير الذهب؟ لو وافقتِ فقط، لسلمكِ الحاكم هذه المدينة كاملة، وحتى بالنسبة إلى أشوكا……لم يكن ذلك سيُعدّ خسارةً كبيرة، ثم إن الحاكم بدا مستقرًا على نحو ملحوظ ما دمتِ إلى جانبه، ظننتُ أنها صفقةٌ نظيفة للطرفين.”
“صفقة؟”
سخرت فانيسا.
“يا للخزي، بالنظر إلى الوضع الآن، يبدو أنني حتى لو عشتُ عمرًا كاملًا فلن أسترجع رأس المال.”
فطقطق شان بأصابعه.
“هذا هو مقصدي تمامًا، فالصفقة تعني أن يسعى كل طرف إلى مصلحته، لكنني أرى أنكِ الآن تتكبدين الخسارة طوعًا، ولذلك……ما أعنيه هو……أنكِ تحبينه، أليس كذلك؟ تحبين الحاكم.”
‘هل أحبه؟’
نعم، لا بد أن الأمر كذلك، فلو لم تحبه لما حاولت فهمه إلى هذا الحد، ولما تقبّلت كل تلك الأعذار.
ولو لم تحبه أصلًا لما جاءت إلى هذا المكان البعيد من الأساس.
فبفضل ذكريات حياتها السابقة، لم تكن فرص كسب المال محصورةً في سفن الغرق وحدها.
ومع ذلك، كان من الصعب جدًا أن تنطق بذلك بصوت عالٍ، هل بوسعها أن تقول بسهولة أمام رجل يصرّح علنًا بإجلاله لها: “أحبه”؟
“لي أربع أخوات تركتهن في مسقط رأسي يا آنستي.”
قال شان ذلك وهو ينظر إلى فانيسا الغارقة في حيرتها.
“……؟”
“لو أن إحدى أخواتي جاءت برجل، وكان ينظر إليها كما ينظر الحاكم إليكِ، لما سمحتُ له حتى بدخول البيت، بل لو استطعتُ، لضربته ضربًا مبرحًا في الحال.”
“……وأي نظرةٍ تقصد؟”
“وما تكون؟ نظرة مجنونٍ بالطبع.”
لم يكن هناك مجالٌ للاعتراض، فمهما اعتادت فانيسا على الأمر، كانت نظرات فيلياس إليها لا تزال توحي بالافتتان، وبعطشٍ غامض لشيءٍ ما.
“هممم……لكن أليس في ذلك شيءٌ من اللطافة……؟”
“هل سمعتُ خطأً؟”
“لا….لكنه يشبه ذلك تمامًا، عندما ترى القطط الضالة طائرًا مثلًا……تسودّ أعينها وتحدّق فيه بلا رمش….”
“إنها تنظر إليه لأنها تريد أن تفترسه.”
“…….”
هزّ شان كتفيه.
“على أي حال، ما يجري بينكما ليس من شأني لأتدخل فيه، لكن هل أنتِ حقًا بخيرٍ مع هذا الوضع يا آنستي؟ صحيحٌ أنني مدينٌ بالفضل للحاكم، لكن بصراحة، هو لا يملك سوى المظهر، أما نفسيًا فهو غير مستقر، أليس كذلك؟ سمعتُ أنه تحدث مؤخرًا عن قتل وليّ العهد أو عدم قتله؟ غيرة الرجال قبيحةٌ أصلًا، لكن هذه ليست مجرد غيرة.”
“كان لذلك أسباباً وظروفاً مختلفة…….”
توقفت فانيسا فجأة. لماذا أدافع عنه أنا؟
ثم تابع شان.
“أنتِ قادرة على أن تجدي رجلًا أفضل منه بأضعاف، هو لا يستحقكِ أصلًا.”
“أنتَ تعلم أنني أستطيع أن أنقل كل هذا إليه، أليس كذلك؟”
“وهو أيضًا لا بد أن يعلم، إن كان لديه ذرة ضمير، ثم إنني لا أقول هذا إلا من أجلكِ، خلال ثلاث سنواتٍ وأنا أتابع شؤونه، لم أره قط متشبثًا بشيءٍ كما هو متشبث بكِ الآن، يبدو أن طريقة تفكيره كلها باتت تتمحور حولكِ، مجرد مراقبته عن قرب يجعلني أرتعد خوفًا.”
“ألا تبالغ قليلًا؟”
هزّ شان رأسه وكأن الأمر بديهي.
“أنتِ تعلمين أن كل الأنشطة في الميناء توقفت يوم وصولكِ أول مرة، أليس كذلك؟ بل أُقيمت في ذلك اليوم حواجز تفتيشٍ خارج القلعة، وكان الجميع يضجّون ظنًا أن جلالة الإمبراطور نفسه سيزور المكان.”
“…….”
“ولا بد أنكِ لا تعلمين أن ساحة تدريب الحرس نُقلت مؤخرًا إلى أسفل الجرف، قيل أن ضجيج التدريب عند الفجر كان يزعج نومكِ، حسنًا، بصراحة هذا الأمر أسعدني لأنني أنام ثلاثين دقيقةً إضافية، أما مزارع الشاي في الجزيرة الجنوبية كلها فقد اشتراها دفعةً واحدة، وهذا لا بد أنكِ تعرفينه.”
“اشترى ذلك المكان؟ لكن لماذا تحديدًا……؟”
“قال أن صاحب المزرعة أشقر، وأن ذلك يجلب له النحس.”
فعجزت فانيسا عن الرد للحظة.
“ما زال الأمر في بدايته يا آنستي، الآن ستسمعين كلامًا أكثر إزعاجًا.”
عن أي شيء يتحدث؟ بدأت فانيسا تشعر بالقلق.
“كما قلتِ أنتِ، مرور أسبوعٌ مدة طويلة، وقد حان وقت التحرّك، يمكننا أن نرسل فرقة بحثٍ رغم المخاطر، لكن….هناك طريقة أبسط، إن كنتِ مستعدةً لتحمّل قدرٍ بسيط من الإزعاج.”
“بدأتُ أشعر بالخوف فعلًا الآن…….”
“أتوسل إليكِ أن تخافي، يجب أن يكون لديكِ بعض الحذر، لا تنخدعي بتمثيل الدوق اللطيف، إنه أخبث مما تتصورين بمرتين أو ثلاث.”
“لكنني لم أعتبره لطيفًا يومًا!”
وضع شان فنجان القهوة جانبًا وسألها.
“تلقيتِ هديةً منه، أليس كذلك؟ من الحاكم، مجوهراتٍ مثلًا.”
و فوجئت فانيسا بالسؤال المفاجئ.
“مجوهرات…….”
نظرت لا إراديًا إلى كاحلها، وكان الحجر الأبيض المعلّق في السوار يلمع تحت أشعة الشمس.
“ذلك جهاز اتصال كان يُستخدم في القصر الإمبراطوري، يعمل بنظام الاستقبال القسري المشروط.”
تجمد عقلها من شدة المفاجأة، كانت ترتديه منذ أول مرة أُهديَ لها دون أن تخلعه يومًا، لكنه جهاز اتصال؟
وتابع شان شرحه.
“المرسِل والمستقبِل زوجٌ واحد، ولا يعمل جهاز الاستقبال، أي الذي بحوزتكِ، إلا عند تحقيق شرطٍ معين، وهو مصنوعٌ خصيصًا لكِ، فلا يستجيب لأي شخص آخر.”
“إذاً المرسِل…….”
“لا بد أنه مع الحاكم.”
وضعت فانيسا يدها على جبينها دون وعي.
“قلتَ استقبالًا مشروطًا، فما هو هذا الشرط؟”
تنفّس شان بعمقٍ مرة واحدة.
“أن تتعرضي لإصابة.”
‘إذا تعرضتُ لإصابة يُفَعَّل الاستقبال قسرًا….بتعبيرٍ ألطف، يعني أنه وسيلة حماية.’
التعليقات لهذا الفصل " 64"