بعد قليل، سُمِع طرقٌ خفيف على الباب. وما إن دخل رجلٌ أشقر حتى انحنت فانيسا بسرعة مؤديةً التحية.
ثم سُمِع صوت خطواتٍ مترددة تقترب، تلاها صوت قال:
“ارفعي رأسكِ.”
.…؟ هذا الصوت..…؟
رفعت فانيسا رأسها، وكادت تصرخ من الدهشة.
“صـ، صاحب السمو ولي العهد..…؟!”
لم يكن القادم كونراد، بل شقيقه الأكبر، ولي العهد فريدريش نفسه.
‘هل هذا…..صحيح؟ هل من اللائق أن أكون هنا؟’
منذ جلوسها أمام ولي العهد، لم تستطع فانيسا نطق كلمةٍ واحدة. حتى الشاي الذي صبّه الخادم مجددًا برد تمامًا.
‘لكن…..لماذا هو؟ ولماذا أنا؟ ومنذ متى؟’
إنه وريث الإمبراطورية، الأمل الحقيقي للأمة، نجمها اللامع، الرجل الذي ستنتهي حياته بعد ثماني سنوات بسقطةٍ من على جواده…..ولي العهد فريدريش التعيس.
ارتشفت فانيسا الشاي بهدوء وهي تتأمل وجهه بحذر. ولحسن الحظ، لم يشبه كونراد كثيرًا رغم أنهما شقيقان.
الشيء المشترك الوحيد بينهما كان الشعر الذهبي، لكن شعر كونراد كان بلاتينيًا باردًا، بينما كان شعر فريدريش ذهبيًا ناعمًا كلون القش.
وأخيرًا، تكلم ولي العهد.
“لقد سمعت بوفاة والدكِ. لو علمتُ أبكر لكنت أرسلت من ينوب عني في التعزية، آسفٌ لتأخري.”
“لا داعي لذلك يا سموّك، يكفيني شرف اهتمامكَ الكريم. لكان والدي فرحًا بهذا في السماء.”
‘رغم أنه في الأغلب في الجحيم.’
“لستُ متأكدًا إن كنتِ تعلمين، لكن القصر يتحدث عنكِ كثيرًا مؤخرًا. يقولون أن أجمل آنسة في حفلة الظهور الأول لهذا العام غادرت دون أن ترقص رقصةً واحدة.…”
“آه….ا…الشرف لي، يا سموّك..…”
بدا الارتباك واضحًا على ولي العهد إثر ردها المتردد.
‘لماذا…..يبدو وجهه كجرو مرتبك؟ ما هذا..…؟’
كان فريدريش في ذاكرتها سياسيًا مثاليًا، واثقًا بنفسه، لبقًا في حديثه، وسيّد الموقف دائمًا. لكن رؤيته بهذا الخجل أربك فانيسا إلى أقصى حد.
‘لقد كان رجلًا طيبًا…..رغم أنني بالكاد تحدثت معه آنذاك…..’
على الأقل، كان دائمًا مؤدبًا معها.
“أمّ….سموّ ولي العهد…..هل يمكنني أن أسأل عن سبب استدعائكَ لي؟”
تردد فريدريش طويلًا قبل أن يجيب.
“كنت أظن…..أنكِ قد أدركت الأمر بنفسك. تلك الليلة…..في الحفلة، ألسنا قد تبادلنا النظرات خمس مراتٍ على الأقل؟”
‘..…؟ أنا؟’
ليته كان يمزح، لكن نظرته كانت جادةً جدًا. فاختارت فانيسا كلماتها بحذر كي لا تبدو فظة.
“بصراحة يا سموّك…..لا أظن أنني لاحظت. يؤسفني قول ذلك، لكني أعاني قليلًا من قصر النظر…..لم أكن أراك جيدًا من هناك..…”
قبل أن تُكمل فانيسا كلامها، احمرّ وجه ولي العهد حتى صار كجمرة متقدة.
“آه، إذاً…..يبدو أنني كنتُ مخطئًا تمامًا..…”
و شعرت فانيسا بثقل الذنب يسحق صدرها عند رؤيته على تلك الحال.
“لكن، حسنًا، يشرفني دعوتكَ لي يا سموّك. غرفة الاستقبال رائعة….ورائحة الشاي راقية جدًا أيضًا. ثم…..لم أرَ في حياتي حلوى بفُتاتٍ دقيق كهذه من قبل؟”
“آه، هذا هو رأيكِ؟”
ابتسم ولي العهد مجددًا، ووجنتاه لا تزالان متورّدتين.
‘ما هذا بحق؟ ما الذي يحدث؟ لماذا رجال هذه العائلة جميعًا يتصرفون هكذا معي؟!’
“أنا حقًا إنسانةٌ سيئة، يا سموّك.”
“هم؟ ماذا قلتِ؟ أظن أن هناك نحلةً بالقرب، أزيزها جعلني لا أسمع جيدًا.”
“لا….لا شيء، يا سموّك..…”
ثم خيّم الصمت الثقيل على المكان للحظاتٍ طويلة.
نظر ولي العهد بصمتٍ نحو الشرفة، ويبدو أن الجناح قد أُفرغ تمامًا قبل مجيء فانيسا، إذ لم يكن هناك أي ظلٍ في الحديقة الفسيحة بالخارج.
بعد برهة، وكأنه اتخذ قرارًا ما، تكلم أخيرًا.
“رغم أنني كنتُ مخطئًا…..إلا أن فيكِ شيئًا…..لست متأكدًا كيف أصفه، لكن فيكِ سحرٌ من نوعٍ خاص، هالةٌ من الرقي. ولستُ أقول هذا مجاملة. لا أعلم كيف استطاعت ابنة أسرة نبيلة حديثة العهد بالمجتمع الراقي أن تمتلك تلك المهابة، لكن تعابيركِ وحركاتكِ…..تذكّرني كثيرًا بأفراد العائلة الإمبراطورية أنفسهم.”
‘طبيعي، فقد قضيت ثماني سنوات وأنا أتعلمها بدموعٍ ودمٍ…..’
رغم محاولتها إخفاء ذلك، بدا أن عاداتها القديمة تسللت إلى تصرفاتها دون وعي.
“قد يبدو ما سأقوله غريبًا، لكنكِ تذكرينني بالسيدة إيفانجلين في شبابها.”
‘إيفانجلين..…؟’
كانت أخت الإمبراطور الوحيدة، والأميرة الوحيدة في العائلة الحاكمة، التي رحلت إلى القارة الشمالية منذ سنواتٍ وانقطعت أخبارها تمامًا.
كل ما تعرفه فانيسا عنها أنها كانت ملكة المجتمع الراقي في زمنها….وأنها…..
“؟!”
فجأة، شعرت بشيءٍ يلمس ظهر يدها، فانتفضت واقفة بفزع.
مدّ ولي العهد يده بسرعة وأمسك بذراعها قبل أن تسقط من على الكرسي، وتمكنت بالكاد من استعادة توازنها.
وكان ما حطّ على يدها مجرد نحلةٍ صغيرة. طافت بينهما للحظات وهي تطنّ بلطف، ثم خرجت من النافذة إلى الحديقة.
“آه، معذرة.”
قال ولي العهد ذلك وهو يحرر ذراعها بسرعة.
“لا بأس يا سموّك، أشكركَ على إنقاذي.”
عندها احمرّ وجهه مرة أخرى.
“أمم، إن لم يكن الأمر يزعجكِ…..هل يمكننا أن نلتقي أحيانًا لتناول الشاي معًا؟ سأطلب من الطاهي إعداد فطائر أكثر رقّةً وأجمل من هذه في المرة القادمة..…”
“ليس هناك داعٍ لذلك يا سموّك. كيف لي أن أرفض دعوةً منكَ أصلًا؟”
“لا، ليس هذا ما أقصده..…”
تنهد ولي العهد بخفة،
“أعلم أن الأمر صعب، لكن أتمنى ألا تشعري بالكلفة تجاهي. ثم إنكِ إن عشتِ وحدك فستواجهين الكثير من المشقات. لذا….إن احتجتِ لأي مساعدة، فلا تترددي في إخباري.”
‘إذًا، أقرضني بعض المال يا سموّك…..’
كادت الكلمات تفلت من فمها لكنها كتمتها في اللحظة الأخيرة.
فلو بدأت بشرح وضعها المالي بالتفصيل، لانتهى الأمر بذكر أمورٍ لا تودّ الخوض فيها، كما أن منح هذا الرجل سلاحًا كهذا ضدها سيكون حماقة.
قبل أن يزداد الموقف حرجًا، أسرعت فانيسا بالنهوض وأدت التحية ثم غادرت غرفة الاستقبال، بينما يتبعها الخادم لإرشادها.
لكن عندما نزلت الدرج ومرت في الممر، اعترض طريقها شيءٌ ضخم أسود اللون. ققفز الخادم من الفزع، وسقطت المروحة من يد فانيسا.
“أوه.”
تحدّث الصوت من أمامها، ثم انحنى والتقط المروحة وقدّمها لها.
“هل أفزعتكِ يا آنسة؟”
انحنى الخادم سريعًا حتى لامس رأسه الأرض.
“يا، يا صاحب السمو الدوق! أعتذر بشدة! لقد كنت غافلًا! هل أصابكَ مكروه؟!”
“كفى، لا داعي لذلك…..خذ هذه.”
ووضع في يد الخادم ثلاث عملاتٍ ذهبية.
“اذهب الآن، اشرب الشاي أو الخمر إن شئت، سأرافق الآنسة بنفسي.”
بينما كان الخادم لا يزال مصعوقًا ينظر إلى العملات في يده، اقترب الرجل الأسود الطويل من فانيسا ومدّ ذراعه نحوها.
“لنتحدث ونحن نسير.”
فترددت فانيسا للحظة، ثم وضعت يدها على ذراعه أخيرًا.
_______________________
مقدر شقومهم كلهم صدق يحبونها كل العائلة نفس الذوق😂😂😂😭
التعليقات لهذا الفصل " 6"