كان فيلياس واقفًا على برج المراقبة المفضل لديه يطل من أعلاه على أسوار القلعة.
منذ أن جاء إلى أشوكا لأول مرة في الثامنة عشرة أحب هذا الحصن. تلك الجدران السميكة المتينة المبنية من الغرانيت الداكن. فقد كانت الجدران دائمًا في صفه، من الداخل كما من الخارج.
“أتبكي؟”
ما زال فيلياس حتى الآن لا ينسى ملامحها حين سألته ذلك السؤال.
“إن بكيتُ…..هل ستبقين هنا معي؟”
آه، لكن لسوء الحظ، وبقدر ما يتذكر، لم يذرف فيلياس دمعةً واحدة في حياته.
ثم—
“سمو الدوق، أنتَ…..لستَ غريبًا أبدًا.”
كم كان جميلًا ذلك اللمعان الحنون في عينيها الخضراوين. و ملامسة خدّها لكتفه، وشعرها الأحمر، ودفء جسدها، وتنفسها، ورائحتها……
وفي تلك اللحظة عرف فيلياس. عرف كيف يمكنه أن يقيّد هذه المرأة إلى الأبد.
كم سار كل شيءٍ بسلاسة حتى الآن. لقد جاءت إليه بقدميها حتى هذا المكان، وإن ضيّع هذه الفرصة فلن يغفر لنفسه أبدًا.
كان يرى من بعيد الفناء الداخلي. و كان ولي العهد واقفًا تحت المصباح يشعل سيجارة.
شعر فيلياس بالغضب يغلي في داخله. فذلك الرأس الأشقر اللعين كان يجعله يشعر بالغثيان كلما رآه.
وإذا تبِع نظره، فهناك في شمال الحصن تظهر نافذة الغرفة الأكبر والأجمل منظرًا. وصاحبة الغرفة لم تنم بعد فيما يبدو، فالضوء يتلألأ داخلها.
أسند فيلياس ظهره للجدار وأغمض عينيه.
الجدار دائمًا في صفه. لا أحد يستطيع الدخول، ولا أحد يستطيع الخروج.
“أراكَ لاحقًا.”
صوتها الذي ردّده في فكره مئات المرات كان يهمس في الظلام كما لو أنه حقيقيٌ تمامًا. وفوق ذلك—أليست الآن في مكان لا يفصل بينهما سوى أن يمد يده إليها؟
وهكذا سيكون الأمر إلى الأبد.
كانت نسائم الليل حلوة. وكان يعلم أنه لن ينام هذه الليلة.
***
استيقظت فانيسا متأخرةً على غير عادتها.
كانت الغرفة التي خصصها لها فيلياس مطلةً على البحر، وكانت الإطلالة جميلة.
ورغم أن النوافذ ضيقة لأن المكان حصنٌ في الأساس، إلا أن النوم على وقع صوت الأمواج لم يكن سيئًا على الإطلاق.
جاءت خادمةٌ تحمل ماء الشرب، وانحنت بصمت. و أعدّت ملابس لتبديلها ثم حاولت الانسحاب بخطواتٍ خلفية بلا صوت.
“لحظة فقط. إن لم تكوني مشغولة…..تعالي واجلسي قليلًا.”
ترددت الخادمة ذات الملامح الهادئة ثم جلست على الكرسي.
“ما اسمكِ؟”
فتحت الخادمة شفتيها ثم نظرت حولها، وكأنها غير متأكدةٍ إن كان مسموحًا لها بالكلام فعلًا.
“لا بأس. قولي اسمكِ.”
“لـ…..ليا يا سيدتي.”
“إذاً ليا. في الحقيقة….كان هناك شيئٌ ما يلفت انتباهي منذ الأمس. لماذا كل الخدم هنا خائفون بهذا الشكل؟”
شحبت ملامح ليا تمامًا.
“مـ…..مستحيل يا سيدتي.”
“حتى أنتِ أمس أسقطتِ الصينية أمامي وجثوتِ على ركبتيكِ تبكين. هل…..إن أخطأ أحدكم يعامل سيد القلعة الخدم بخشونةٍ مثلًا؟”
عندها طرق أحدهم الباب.
“تفضل.”
أطلّت امرأةٌ قصيرة القامة مستديرة الوجه. كانت مديرة الخدم التي قُدمت لها بالأمس.
“صباح الخير يا سيدتي. أنا صوفيا، التي حيّتكِ أمس. دخلت لأطمئن لأن الخادمة تأخرت قليلًا. هل حدث أي تقصير؟”
طرحت فانيسا السؤال ذاته على مديرة الخدم. هل يعامل سيد القلعة مرؤوسيه بقسوة؟
فضحكت مديرة الخدم ضحكةً قصيرة. لم تبدُ مصطنعة.
“يمكن تفهم السبب. على ما يبدو انتشر بين الخدم أنهم إن أغضبوا السيدة الضيفة الجديدة فسيطردهم سيد القلعة في الحال.”
“……أها، يبدو أن شخصًا ما كان يبالغ كثيرًا.”
“عرفتِ فورًا—صحيح. رغم أن سيد القلعة بدا متماسكًا، إلا أنه كان قلقًا للغاية. حتى أنني قبل لقائكِ ظننتكِ امرأةً شديدة الصعوبة.”
حتى ليا ما زالت تنظر إلى فانيسا بحذر.
“لا بأس، لا يمكنني إجبار أحدٍ على ألا يخاف. المهم…..هذا يعني أن سيد القلعة ليس شخصًا صعبًا عادة، صحيح؟”
“مم……طالما لم يثره أحدٌ بسبب أمورٍ تافهة فهو غالبًا……هادئ. صحيحٌ أن الشباب من الخدم كانوا يرتعبون أحيانًا حين يمشي مرتديًا تلك الأشياء على كتفيه، لكنّه ليس صعبًا أبدًا. لو مرت فأرةٌ على المائدة لا يقول سوى ‘أبعدوها، مزعجة.’ وينتهي الأمر.”
“آه، فهمت تقريبًا.”
نهضت فانيسا ومدّت جسدها.
“ومع ذلك، إن كان لديكِ ما تقولينه فقولي كل شيء في حينه قدر الإمكان. ثم…..أنا جائعة، هل الوقت ما يزال مبكرًا جدًا؟”
“لا يمكن. لقد أُعِدّ الإفطار بالفعل.”
آه، فطور الشمال…..شعرت فانيسا بالسرور.
يا ترى ماذا لو اعتادت هذا تمامًا؟ ستسمّن بسرعةٍ بلا شك.
‘وماذا في ذلك.’
“آه، وهل يمكنني التحدث قليلًا مع السيد سوريل؟”
“سأتحقق من ذلك. هل هناك ما تريدين إبلاغه؟”
“أخبِريه أنه يملك شيئًا فقدتُه.”
رمقت فانيسا الدرج الذي تحتفظ فيه بالمنظار الأوبرالي.
كان قد ضاع منها حين دُفعت في دار الأوبرا الربيع الماضي. و قال ولي العهد أن سوريل كان يحتفظ به.
ربما…..مجرد صدفة لا أكثر. ربّما وجده مصادفةً وهو واقعٌ على الأرض.
ففي يوم الحادثة، كان فيلياس هو من أنقذ فانيسا، لذا حتى لو كان مساعده سوريل قريبًا من المكان، فذلك ليس أمرًا غريبًا.
لكن شيئًا ما…..شيئًا ما لم يكن منسجمًا تمامًا.
ولي العهد قال أن “وضعها أصبح حرجًا”. لو كان يعلم شيئًا، لكان من الأفضل لو شرحه بصراحة.
‘كم عدد الأسرار لديهم بحق..…’
تنهدت فانيسا بهدوء.
***
بدا أن تجهيز فريق استكشافٍ لن يكون صعبًا. فأشوكا كانت ميناءً ضخمًا، كما كان الإقليم الوحيد الذي يعمل فعليًا في ذلك الشرق الوعر.
البحّارة، والمرتزقة، وصائدو الجوائز….يمكن العثور عليهم في أي حانة خارج القلعة.
المشكلة كانت المسافة مع موقع حطام السفينة. فمياه المنطقة كانت متقلبة، والمسافة بين أشوكا ومسرح الحادث طويلةٌ للغاية.
ولإنشاء قاعدةٍ قريبة، لا بد من طلب تعاون أسياد أرخبيل القراصنة.
“لحظة.”
توقفت فانيسا فجأة. و كانت تتمشى مع فيلياس حول البركة الاصطناعية في وسط الفناء.
“ألا يستطيع سمو الدوق نفسه انتشال السفينة؟ أعني حطام السفينة. عندها لن نحتاج إلى بعثة استكشاف ولا شيء.”
فبما أنه قادرٌ حتى على إيقاف انهيار جليدي، فلن تكون السفينة كبيرة بما يعجز عن رفعها.
“……ذلك صعب. إن لم أستطع رؤيته بعيني، فلا يمكنني استخدام قدرتي.”
بدا أنها إجابةٌ متأخرة قليلًا…..ربما مجرد وهم.
ثم إن الشخص الذي تشتكين له لن يقول الحقيقة كاملةً أبدًا.
“آنسة لانغ!”
رفعت رأسها فرأت ولي العهد يلوّح بيده تحت أشعة الشمس، ومعه عاملان من المطبخ، يدفعان عربةً تحمل وعاءً كريستاليًا دائريًا.
يبدو أنه صار بين ليلة وضحاها على علاقةٍ ودّية حتى مع الخدم.
قال دعابةً ما للعاملين ثم صرفهما بيده، وبعدها قدّم لفانيسا ما على العربة وسأل،
“هل تحبين المثلجات؟ يقولون أنه يحتوي على الخوخ.”
مثلجات في هذا الموسم رغم أننا لسنا في العاصمة؟ مدّت فانيسا يدها كالمسحورة. و كانت حبات الجليد تتلألأ تحت الشمس.
“……تتباهى بما أخرجته من مطبخ غيركَ؟”
“ولمَ لم تسبقني أنتَ إذًا؟”
سمعتْهما يزمجران بصوتٍ خافت لكنها تجاهلتهما. و جلست تحت ظل شجرة وتناولت المثلجات ببطء.
كان الطقس صافٍ والبركة هادئة. و عائلة من البط ظهرت فجأة، ترفرف بأجنحتها في المياه الضحلة وهي تستحم.
‘آه…..كم هو جميل.’
وفجأة رأت جسمًا غريبًا يتدحرج نزولًا عبر التل الذي يحيط بالفناء. وما إن توقف أمامها وهو يلهث حتى بان أنه رجلٌ أسمر، و عيناه حادتان، يرتدي بدلةً سوداء.
“هـ… هـ….مرحـ….هاه….مرحبًا يا آنسة….فوف….فوف….شان….زكريا….مساعد….هاه….مساعد الدوق.”
ومع ظهوره توقفت مشاحنات الرجلين. و تقدّم فيلياس بخطواتٍ واسعة تاركًا ولي العهد خلفه، ووقف أمام فانيسا محاولًا حجب الشمس عنها.
“تبدو الشمس قويةً اليوم يا آنسة فانيسا. هل نغيّر مكاننا؟”
“ماذا؟ لماذا فجأة..…؟”
“لا، لا يمكن! هل تعلمان كم بحثتُ عنكِ يا آنسة؟ الدرق! الدوق هو من أمر الخدم بالتزام الصمت، أليس كذلك!”
______________________
شان ذاه المساعد الي قال لفيلياس احصر ثلاث حفلات على الاقل😂
فيلياس بدا هوسه يوصل حده الظاهر من بعد يوم شاف ولي العهد يبوس شعرها😂
التعليقات لهذا الفصل " 40"