لقد وافق أمير سيروس على التفاوض، لكننا ما زلنا في شدٍّ حول تحديد مكان اللقاء. وقد عاد باستيان إلى الجبهة، ويبدو أن ذلك سيطيل أمد الأمور أكثر.
أحيانًا يخطر لي أن كل هذا أشبه بلعبة أطفال. هؤلاء الجنرالات والنبلاء العظام يتقاتلون على قطعة أرض صغيرة كهذه، بسبب كائنٍ قديم لا نعلم حتى إن كان موجودًا حقًا.
ما زال لدي الكثير مما أود قوله لك،ِ لكنني لا أعرف كيف أنقل أفكاري كاملةً إليكِ.
كلماتي ركيكةٌ ومشوشة، وأخشى أكثر من أي شيءٍ أن تثير نفوركِ.
المخلص لكِ، فيلياس.]
[فيلياس سايران، دوقي العزيز،
غادرتُ السفينة التي أستقلها في آخر مرفأ لها قبل يومين، ويبدو أنها ستواصل الإبحار بلا توقفٍ حتى نهاية غابات الشرق.
كلما اتجهنا شمالًا شعرت بأن الرياح تزداد برودة. لا أحب البرد، ومع ذلك، يبدو هواء هذه الجهات منعشًا بشكلٍ غريب.
هل أُقلقكَ حقًا، يا دوق؟ رسالتكَ كانت واضحةً وجميلة تمامًا. وإن شعرتُ يومًا بعدم الارتياح، فستكون أول من أخبره، فاطمئن تمامًا.
النجوم واضحةٌ الآن.
فانيسا لانغ.]
[فانيسا كلوديا لانغ، يا نجمتي.
ليالي الجبال هنا داكنة بشكلٍ استثنائي. حين أجلس وحدي في الحراسة، أحدّق إلى الظلام من النافذة، و أشعر أحيانًا كأنني متّ منذ زمن وصرت شبحًا هائمًا.
لكن حينها أفكر فيكِ. و حين أتخيلكِ في البحر البعيد شمالًا، أدرك أنني ما زلت حيًّا على هذه الأرض.
أمس، كسرتُ إصبع باستيان. أتمنى أن يساعد ذلك في تسريع المفاوضات.
احذري البرد.
المخلص لكِ، فيلياس.]
[فيلياس سايران، دوقي العزيز،
سأصل إلى أشوكا بعد أيامٍ قليلة. و أنا نادرًا ما أُصاب بالبرد.
بالمناسبة، كيف كُسر إصبع الدوق باستيان؟
فانيسا لانغ.]
[فانيسا كلوديا لانغ، يا شعلة قلبي.
سنلتقي قريبًا، أليس كذلك؟ أفكر في طريقةٍ للعودة بأسرع ما يمكن.
أما عن إصبع باستيان، فقد انكسر لأنني لويتُه بعكس اتجاه المفصل. وها هو يقترب مني الآن، لذا سأختصر الحديث.
آه، ماذا لو أحرقتُ الغابة؟ سنتمكن حينها من اجتياز الأرض القاحلة مباشرة.
المخلص لكِ، فيلياس.]
[لا، يا دوق، لا تفعل ذلك.
فانيسا لانغ.]
[آسف يا آنسة فانيسا، لكن الأوان قد فات.
أراكِ قريبًا.
المخلص لكِ، فيلياس.]
“مستحيل….لا بد أنه يمزح..…”
تمتمت فانيسا.
“كوو كو.”
و أمال الحمام الزاجل رأسه مستغربًا لا أكثر.
بقيةُ الرحلة مضت بسلاسة.
كانت السواحل الشمالية للقارة تميل أكثر فأكثر نحو الشرق، ومن نهاية الغابة المائية حيث تبدأ الأرض الجرداء، كانت القارة تمتد شمالًا كأنها قوسٌ مفتوح.
وحين بلغوا أقصى الشمال، كان الجو باردًا إلى حدٍ يصعب تصديقه في أوائل الصيف.
“تخيلي كيف يكون الشتاء هنا.”
قال ولي العهد ذلك وهو مسند ذراعيه إلى السور. و وقفت فانيسا إلى جواره عند مقدمة السفينة، تحدق في الأفق الخالي أمامهما.
“سأشتري ملابس دافئة فور وصولنا. لكن ألم تقل يا سموك أنكَ ستعود مباشرةً إلى العاصمة؟”
فحجته بالسفر إلى القارة الشمالية كانت كذبًا، لذا لم يكن هناك ما يُبقيه هنا بعد الآن. ومع ذلك، بدا عازمًا على مرافقتها حتى أشوكا.
“ربما سيكون الأمر جميلًا، أن أقضي الصيف هنا. أليست حرارة العاصمة خانقة؟ آه، انظري، ها هي تظهر!”
أشوكا، مدينةٌ صغيرة نسبيًا، لكنها ازدهرت بسرعة منذ قدوم الحاكم الجديد.
كانت الأسوار القديمة تمتد على طول الساحل لتحيط بالمدينة الداخلية، والمنازل تصعد بتدرجٍ لطيف على التلال.
أما القلعة نفسها، فكانت قائمةً فوق منحدرٍ صخري شاهق مطل على البحر، تحيط بها أسوارٌ عالية وأبراجُ مراقبة، بحيث بدا اقتحامها أمرًا مستحيلًا.
وبعد لحظات، ظهر الميناء الذي كان مخفيًا خلف المنحدر.
كان من المفترض أن يكون الميناء التجاري الوحيد في الشرق، مزدحمًا بالسفن التجارية التي تربط بين القارة الشمالية والشرق الأقصى وسفن الشحن المتجهة إلى العاصمة حتى لا يُرى الأفق من كثرتها…..
“لماذا…..لا توجد أي سفينة؟”
تملّك القلق قلب فانيسا أمام الميناء الخالي، لكن ولي العهد لم يفعل سوى الابتسام. و كان بصره مركزًا على الرصيف الذي بدأ يقترب.
“إذاً تعرف أيضًا كيف تصنع مثل هذا الوجه.”
لمن كان يقول هذا؟ عقدت فانيسا حاجبيها. فعلى الرصيف لم يكن سوى ظلٌ أسود واحد.
“هل ترى شيئًا هناك؟ أنا قصيرة النظر قليلًا..…”
“آه، هل كان ذلك حقيقيًا؟ ظننتها كذبةً أخرى منكِ.”
“بهذا الكلام تجعلني أبدو وكأنني محتالة!”
“وأين سنجد محتالةً لطيفةً مثلكِ؟”
قال ذلك بخفة دمٍ مفرطة.
“بما أننا ذكرنا المحتالين…..ماذا قصد الدوق حين تحدث عن (الخدعة الصغيرة اللطيفة)؟ كنتُ أظن أنه يقصد محاولة اغتيال.”
كانت السفينة تبطئ تدريجيًا استعدادًا للرسو، فالتفت ولي العهد نحو فانيسا، ثم ألقى نظرةً جانبية نحو البرّ وكأنه يقيس المسافة،
“ربما كان يقصد…..شيئًا مثل هذا.”
اقترب منها، ومدّ يده يمرّر أصابعه على شعرها برفق، ثم قبض على خصلاته الخفيفة وقبّل أطرافها بخفة.
وحين رفع عينيه ليلتقي بنظرتها، دفعتْه فانيسا مصدومة بعيدًا عنها.
“آه، آسفة….لقد كان ذلك..…”
لكن قبل أن تكمل، اتسعت عينا ولي العهد فجأة، وارتفع جسده عن الأرض كمن جُرّ إلى الخلف بقوةٍ خفية، ثم سقط من فوق سطح السفينة إلى البحر دون أن يتمكن حتى من الصراخ.
“بلّـب!”
“؟!”
أسرعت فانيسا إلى حافة السفينة ونظرت للأسفل. و كان هناك رأسٌ أشقر يطفو فوق الماء. لحسن الحظ، بدا أنه بخير.
وعلى الرصيف، كان شخصٌ ما يطلّ عليه من الأعلى.
“أخبروهم أن ينظفوا سطح السفينة، يبدو أنه زلِق. وهذا الذي هناك…..التقطوه من البحر أيضًا.”
قال ذلك بصوتٍ يحمل سخريةً خفيفة. ثم هرع العمّال وانتشلوا ولي العهد من الماء.
و جلس على الأرض مبللًا بالكامل، شاحب الوجه، لا يقوى حتى على التركيز من الدوار.
“يا دوق..…؟”
فرفع فيلياس رأسه، وفي وجهه ابتسامةٌ فاتنة يمكن أن تُسحر أي شخص.
“كنت بانتظاركِ يا آنسة فانيسا. تبدين مشرقةً اليوم كأشعة الشمس.”
ما إن رست السفينة تمامًا حتى مدّ فيلياس يده ليُعينها على النزول. ثم، كما لو كان ذلك أمرًا بديهيًا، انحنى وقبّل ظهر يدها.
حاولت فانيسا أن تعترض، لكن حين التقت عيناها بعينيه، غابت الكلمات عن لسانها. فقد نسيته خلال فترة البعد…..
‘آه، هكذا كان وجهه..…’
وفوق ذلك، بدا واضحًا أنه اهتم بمظهره اليوم أكثر من المعتاد.
شعره الذي طال قليلًا انسدل برشاقة على جبهته، وقميصه الأبيض كان ناصعًا يلمع تحت الشمس.
حتى دون أن تلتفت، شعرت بانتباه كل النساء الشابات في المكان متجهًا نحوه. ومع ذلك، لم تستطع فانيسا أن تنظر إليه مباشرة.
“ذاك…..هل صاحب السمو بخير؟ لقد قلتَ أن قوتكَ ليست مخصصةً لاستخدامها على البشر..…”
همست فانيسا، فأومأ فيلياس بلا مبالاة.
“ذلك الرجل صلبٌ كالحديد، سيكون بخير. لكن ألم يكن لديكِ فضولٌ نحوي؟ لقد عدتُ للتو من ساحة الحرب.”
“…..لماذا لا توجد أي سفنٍ في الميناء؟”
“آه، لقد طلبتُ منهم أن يُوقفوا الحركة مؤقتًا. ستُستأنف حالما نغادر.”
قال ذلك دون أن يُفلت يدها.
ثم ظهر عددٌ من الرجال بزيٍّ أسود، أخذوا حقائبها ورتّبوها بعناية. وما إن استعادت وعيها حتى وجدت نفسها تجلس مقابله في عربةٍ فخمة.
“مـ، مهلًا. إلى أين…..إلى أين نحن ذاهبون؟”
“يجب أن تنالي بعض الراحة، أليس كذلك؟ لقد كانت رحلةً طويلة. لكن إن كنتِ تفضلين البدء فورًا بالعمل، يمكنني إرسال مبعوثٍ إلى مقرّ الجيش..…”
“لا، لا، ليس هذا ما أقصده. لقد استأجرتُ منزلًا بالفعل في مركز المدينة، لكن هذا الطريق..…”
“آه.”
ابتسم فيلياس.
“يا آنسة فانيسا، يؤسفني أن أقول أنه لا توجد بيوتٌ خالية في أشوكا.”
“ماذا؟”
“كما تعلمين، المدينة صغيرةٌ جدًا. ولا يوجد أي منزلٍ فارغ يناسب مقامكِ. لذا ستقيمين في القلعة خلال فترة إقامتكِ. سأحرص على راحتكِ قدر المستطاع.”
‘آه، صحيح…..هكذا هو هذا الرجل….’
تنهدت فانيسا بإحباط، ومع ذلك لم تستطع النظر إليه مباشرة.
حتى في آخر لقاء لهما، فكرت بالشيء ذاته: وجهٌ كهذا يستحق أن يُفقد المرء عقله عند رؤيته.
التعليقات لهذا الفصل " 38"