“لا أعلم ما الصفقة التي عقدتها تلك المرأة مع والدي، لكن تحت أي ذريعةٍ كانت، لن يُسمح لها أبدًا بتحريك جيش الإمبراطورية. مجرد أميرةٍ من مملكةٍ آيلة إلى السقوط، ومع ذلك تجرؤ على السير مرفوعة الرأس بكل تلك الوقاحة..…”
“لكن….ذلك ليس خطأها..…”
قالت فانيسا ذلك بصوت واهن، فابتسمت إيفانجلين ابتسامةً باهتة، وتحدثت بنبرةٍ هادئة يصعب تصديق أنها صادرةٌ عن شخص فقد عقله.
“إذاً، ماذا عنا نحن؟ ما الخطأ الذي ارتكبناه لنصبح بؤساء؟”
لم تستطع فانيسا احتمال المزيد، فنهضت من مكانها. وعندما همّت بالمغادرة، أمسكت إيفانجلين بيدها.
كانت يدها هزيلةً بلا قوة، ومع ذلك لم تستطع فانيسا أن تنتزع يدها منها.
“أتذهبين الآن؟ ستتركينني وحدي؟”
“آسفة…..لكن عليّ الذهاب.”
فأفلتت إيفانجلين يدها بوجهٍ متجهم.
“حسنًا، اذهبي إذاً. لا بد أنكِ ذاهبةٌ للرقص. بعد نهاية هذا الموسم الاجتماعي، سأزوركِ أنا. بالمناسبة، ما اسم أرضكِ الريفية؟”
اضطرت فانيسا إلى استرجاع ذكرياتها القديمة.
‘في حياتي السابقة، بعْتُها فور أن ورثتُها…..كنت حتى قد نسيت أنها تقع في الشرق.’
“….لوكْت.”
ثم عانقتها إيفانجلين بقوة وهمست في أذنها،
“بلغيها تحياتي.”
“ماذا؟”
سألتها فانيسا بدهشة، لكن إيفانجلين اكتفت بابتسامةٍ غافلة، كأنها لم تقل شيئًا.
***
بعد قليل، كان الاثنان قد عادا إلى الخليج الشمالي ينتظران الملاح.
و جلست فانيسا على الرمال البيضاء، فجلس ولي العهد إلى جوارها. وبعد ترددٍ طويل، تكلم أخيرًا.
“…..أنتِ غاضبة، أليس كذلك؟”
“مستحيل. كيف أجرؤ، يا صاحب السمو؟”
تنهد ولي العهد بعمق.
“أنا لا ألومكِ، لكن…..أنت أيضًا كذبتِ عليّ. يوم جئتِ لبيع اللوحة. كانت قصةً متقنة جدًا.”
“ذلك لأن..…”
في الحقيقة، لم يُعثر على جثمان إيفانجلين إلا بعد خمس سنواتٍ من الآن، وكان قد تحلل تمامًا. وبناءً على ذلك، كان يفترض أن تكون ميتةً في هذا الوقت.
وفجأة، تذكرت فانيسا أن من أبلغها بخبر وفاتها في تلك الحياة كان ولي العهد نفسه.
لكن كيف كان يمكنها أن تشك؟ من ذا الذي قد يجرؤ على تلفيق أمرٍ كهذا؟
“المثير في الأمر..…”
تحدث وهو يبتسم بمرارة،
“أن الكذبة كانت تشبه شيئًا كنتُ أنا لأختلقه. رسامةٌ فقيرة من الشمال، حرة لكنها معدمة..…”
ثم أضافت بنبرة خاوية،
“إذاً، كنتَ تعرف اللوحة؟”
“كنتُ حاضرًا عندما رُسمت. لا أعلم كيف وصلت إلى هناك، لكن…..إيفانجلين لم تعد قادرةً على الرسم بعد الآن. ولم تعد تؤذي نفسها أيضًا، فربما يكون ذلك أمرًا حسنًا بطريقةٍ ما..…”
“السيدة إيفانجلين…..قلتَ أنها أول ضحاياك، أليس كذلك؟”
“نعم. في البداية ظننت قوتي علاجًا. كانت إيفانجلين غاليةً عليّ جدًا، وشعرتُ بسعادةٍ لأنني استطعتُ أن أجعلها سعيدةً مجددًا. لم أكن أعلم أنني…..كنتُ أدمر عقلها إلى الأبد.”
“وأنتَ من أخفاها في ذلك المكان؟”
“نعم. كان سرّي وحدي…..والآن صار سرّنا معًا.”
“يبدو أن لساني سيُقطع إذاً.”
أدار ولي العهد عينيه ساخرًا.
“من الذي أطلق تلك الإشاعة السخيفة أصلًا؟ منذ متى كانت الإمبراطورية تقطع ألسنة الخونة؟ على كل حال، لن يُقطع لسانك، ولن تُغتالي أيضًا.”
“لكنني قد أبوح بالأمر.”
“هناك دائمًا…..طرقٌ أخرى لمنع ذلك.”
“مثل ماذا؟”
ظل صامتًا طويلًا، ثم رفع رأسه أخيرًا وقد بدا عليه الحسم.
“مثل أن أُبقيكِ إلى الأبد إلى جانبي..…”
لم تفهم فانيسا قصده في البداية. كانت على وشك أن تسأله عن معنى كلماته، لكنها تجمدت فجأة عندما خطر ببالها خاطر مروّع.
“لحظة…..إذاً، ما أصاب السيدة إيفانجلين لم يكن بسبب صدمةٍ نفسية؟”
“آه…..أجل، صحيح. عندما يتعرض المرء لسعادة مفرطة كتلك التي اختبرتِها قبل قليل، لكن بضعفها مرتين أو ثلاث….ولمدة طويلة…..تحدث أشياء لا أحب التحدث عنها.”
“لكن هذا يعني أن السيدة إيفانجلين كانت ما تزال بكامل وعيها حتى قبل نحو عشر سنواتٍ فقط.”
أبدى ولي العهد دهشةً طفيفة، ثم أومأ برأسه.
“صحيح. خاضت أول معركةٍ لي معها. في ذلك الوقت كانت إيفانجلين لا تزال عاقلة. كانت تعاني من نوبات، ومن اكتئابٍ وأرق، لكنها لم تكن…..كما هي الآن.”
بمعنى أنها كانت بكامل وعيها حين علّقت أخاها غير الشقيق بحبلٍ على الستار.
‘لكن…..لماذا؟’
تساءلت فانيسا في داخلها.
كانت إيفانجلين قد قالت أن الإمبراطورة الثانية جلبت معها لعنةً من الشرق، و أن طفلها سيتسبب في خراب الجميع.
هل كان في كلامها شيءٌ من الحقيقة؟
وفجأة—
“أنتم هناك، ابتعدوا عن الحافة!!”
رفعت فانيسا رأسها، و رأت قاربًا صغيرًا في البعيد. كان الملاح يجدف، ومن فوق القارب، واقفًا يحاول موازنة نفسه، كان…..السيد سوريل.
“آه، أليس هذا السيد سوريل؟! يا له من لقاءٍ بعد زمن طويل!”
هتف ولي العهد بفرحٍ وهو ينهض من مكانه.
“مر زمنٌ طويل يا صاحب السمو! لكن أرجوكَ، ابتعد عن الآنسة فورًا!”
“ولِمَ ذلك؟!”
“آه، يمكننا مناقشة ذلك لاحقًا، فقط…..أرجو أن تبتعد أولًا!”
“همم.”
نظر ولي العهد إلى فانيسا بوجهٍ متجهم قليلًا.
“هل تفهمين ما الذي يقصده هذا الرجل؟”
“لقد طلبتُ منه حمايتي. ظننتُ أن سموك تحاول اغتيالي.”
“آه، هكذا إذًا.…”
لوّحت فانيسا بيدها مطمئنة له لتوضح أنها بخير، لكن سوريل أساء الفهم تمامًا، فظن أنها تطلب النجدة.
“لا تقلقي يا آنسة! سأُنقذكِ حالًا! انتظري هناك قليلًا فقط!”
ثم بدأ يجدّف مع الملاح بقوة.
“لو كان أحد ضبّاطي لفقد راتبه فورًا.”
قال ولي العهد ذلك بنبرة كأنها مزاح، لكن صوته كان لا يزال يقطر حزنًا.
“يا صاحب السمو.”
خلعت فانيسا السوار الذي تلقتْه في السوق قبل قليل، وقدّمته إليه.
“ليس لدي ما أقدّمه سوى هذا…..يوم ميلادٍ سعيد.”
نظر ولي العهد إلى السوار لحظة، ثم مدّ ذراعه نحوها بصمت.
“…….”
فربطت فانيسا السوار حول معصمه. و كانت بشرته السمراء قليلاً تبرز جمال العقدة الحمراء فبدت ملائمةً له على نحوٍ غير متوقع.
“شكرًا لكِ. سأعتزّ به.”
قال ذلك وهو يحدّق بالسوار بصوتٍ خافت. و تساءلت فانيسا للحظة إن كانت قد تجاوزت حدودها، لكنها رغبت على الأقل أن تقدّم له عزاءً صغيرًا.
و تمنت فقط ألا يكون هذا أسوأ يوم ميلادٍ في حياته.
***
بعد خمس ساعات، دوّى بوق السفينة الأميرة إيفانجلين معلنًا موعد الإبحار.
كانت فانيسا واقفةً على السطح تستقبل نسيم البحر، حين لمحَت رجلًا بثيابٍ بيضاء يمر مسرعًا عند حافة نظرها.
وحين التقت عيناهما، حاول الرجل على عجل النزول عبر الدرج.
التعليقات لهذا الفصل " 37"