في الجهة الشمالية من الجزيرة التي كانت محطة التوقف، كان هناك خليجٌ محاطٌ بجروفٍ شاهقة يصعب الوصول إليه برًا.
بعد تبديلهم إلى قاربٍ أصغر، واصلوا السير بمحاذاة الساحل نحو ثلاثين دقيقةٍ أخرى. وكان ولي العهد هو من يجدف بنفسه هذه المرة.
وأخيرًا وصلوا إلى جزيرةٍ صغيرة مخفيةٍ بين المنحدرات، فوق تل منخفض قامت في أعلاه فيلا صغيرة لكنها جميلةٌ وعريقة الطراز.
حينها فقط، بعد صمتٍ طويل خلال الرحلة، تكلم ولي العهد.
“قبل أن ندخل، أريد أن أريكِ…..ما يُسمّى بقوتي الخاصة.”
تلفتت فانيسا حولها.
“هنا؟ هل هذا آمن؟”
“لا تقلقي. ليست قوةً فوضوية مثل بعضهم.”
نزع ولي العهد قفازيه.
“لن يحدث لكِ أي مكروه. هذا فقط…..تفاعلٌ جسدي. إذاً، اسمحي لي للحظة.”
لامست أطراف أصابعه جبينها، وفي اللحظة نفسها انفجرت الدموع من عيني فانيسا.
“…..ما هذا؟”
وفجأة اجتاحها طوفانٌ من المشاعر، عارم، عميق، حزن لا يوصف. اكتئاب لا يمكن الخروج منه بقوة الإرادة، إحساسٌ كامل بالعجز.
اختنقت أنفاس فانيسا.
كانت متأكدةً أنها في كابوس. أحست بأن حواسها تتلاشى، وبأن نبض قلبها يتباطأ. و فقدت الألوان من حولها، والدموع لم تتوقف.
“كفى..…”
عندما بدأت تتنفس بصعوبة، سحب ولي العهد يده على عجل، فتوقفت دموعها كما لو أن شيئًا لم يكن.
وحين مدّ يده مجددًا، تراجعت فانيسا لا إراديًا.
“لا تقلقي.”
قال ذلك بصوتٍ مرتجف وكأنه على وشك البكاء.
عندما لمسها للمرة الثانية، غمرها إحساسٌ بالسكينة لم تختبره من قبل. كأنها استيقظت للتو من نومٍ طويل وعذب. كأنها تقف وسط دفء الشمس. و شعرت بسعادة عميقة في قلبها.
كل شيء…..بدا بخير.
وحين سحب ولي العهد يده أخيرًا، سقطت فانيسا على الرمال البيضاء منهارة.
“آه، آسف.”
ساعدها ولي العهد على النهوض.
“ما الذي كان هذا؟ ماذا فعلتَ؟”
“عقل الإنسان…..في الحقيقة من السهل جدًا خداعه. ومع الوقت الكافي، يمكنني أن أزرع هذا في رأس أحدهم. مشاعر خارجةٌ عن السيطرة تستمر بلا نهاية. لكنها ليست قوةً مفيدة جدًا لي. لا يمكنني مثلاً أن أمسك بيد قائد العدو في ساحة الحرب.”
“إذاً…..يمكنكَ أن تجعل أي شخص ينتحر.”
تمتمت فانيسا وهي تمسح وجهها المبلل بمنديلها. و كان ولي العهد قد ارتدى قفازيه ثانيةً بوجه كئيب.
“أعتذر مجددًا. من الصعب شرح الأمر بالكلام فقط…..لأنها ليست قوةً تُرى بالعين، واستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى أتقنتها. والنتيجة..…”
تنهد بعمق، ونظر نحو الفيلا.
“الشخص الذي سنقابله الآن…..هو أول ضحاياي.”
عندما طرق الباب، استقبلتهما خادمةٌ عجوز، أحنَت رأسها مألوفةً لهما، ثم قادتهما إلى غرفة الاستقبال.
في الغرفة جلست امرأتان؛ إحداهما سيدةٌ في منتصف العمر ترتدي ثوبًا أسود، والأخرى كانت في مقعد متأرجح تلمس شيئًا بين يديها مرارًا.
“مستحيل..…”
فكرت فانيسا.
“إيفانجلين.”
ابتسم ولي العهد ومد ذراعيه. و تقدم نحو المرأة التي رمقته بنظرةٍ غاضبة، ثم احتضنها بودّ.
“كيف حالكِ؟ تبدين أضعف قليلًا.”
كان شعرها الذهبي المجعد يشبه تمامًا شعر ولي العهد. كانت على الأرجح جميلةً جدًا في شبابها، لكنها الآن نحيلةٌ وشاحبة.
بدت في الأربعين تقريبًا، لكن إن كانت هي نفسها إيفانجلين التي تعرفها فانيسا، فلا بد أنها أصغر قليلًا.
نظرت المرأة إليه بوجهٍ عبوس و تحدّثت بصوتٍ طفولي.
“ماذا؟ إنه أنتَ يا آرثر. ولماذا جئتَ هذه المرة؟”
أدركت فانيسا أن عقلها لم يعد سليمًا. لقد خلطت بين ابن أخيها وأخيها الحقيقي.
تحدّث ولي العهد مبتسمًا كأن شيئًا لم يكن، وهو يمسح شعرها برفق.
“هذا مؤسف، جئت بعد طول غياب. ألا يمكنكِ أن تستقبليني بابتسامة؟”
قدمت السيدة ذات الثوب الأسود مقعدًا لولي العهد، ثم قادت فانيسا لتجلس على الأريكة الطويلة.
عندها فقط، اتسعت عيناها وهي تهمس.
“كريستال؟!”
قفزت إيفانجلين من على الكرسي الهزاز، وسقطت الوسادة التي كانت تمسح عليها كما لو كانت قطة إلى الأرض.
“آه، كريستال العزيزة! لقد جئتِ لرؤيتي!”
كانت ملامحها تفيض بالانفعال.
فتحت ذراعيها على مصراعيهما محاولةً التقدم نحو فانيسا، لكن ولي العهد أسرع واعترض طريقها بارتباك.
“ما الذي تفعله يا آرثر؟! كم أنتَ وقح! صديقتي جاءت لزيارتي! أحقًا تنوي أن تحتجزني في هذا المكان وتمنعني حتى من استقبال ضيوفي؟!”
“اهدئي، سيدتي.”
اقتربت فانيسا من إيفانجلين التي كانت تحاول الفكاك، ومدّت يدها نحوها. فابتسمت إيفانجلين ابتسامةً رقيقة وأمسكت بيدها بخفة وأناقة.
رمشت إيفانجلين بعينيها ثم انفجرت ضاحكةً بصوت عالٍ.
“لانغ؟! لا تقولي أنكِ ما زلتِ تنوين الزواج من ذلك المستهتر! حقًا، ذوقكِ في الرجال لم يتحسن أبدًا! تعالي، مر وقتٌ طويل، علينا أن نتحدث بأسرارنا. آه، لكن احذري، آرثر يخبر والده بكل شيء!”
رمقتهه إيفانجلين بنظرةٍ طفولية مازحة، ثم أخذت بيد فانيسا وجعلتها تجلس بجانبها على الأريكة الطويلة.
عندها فهمت فانيسا أن الشخص الذي أراد ولي العهد قضاء يوم ميلاده معه لم يكن سوى إيفانجلين نفسها.
إيفانجلين لم تمت. فقط فقدت عقلها. والآن كانت تظن أن فانيسا هي أمها، كريستال لانغ.
“سيدة إيفانجلين، هل تذكرين متى أصبحنا صديقتين؟”
سألت فانيسا بحذر.
“بالطبع. دعيني أرى…..كان ذلك في حفل ميلادي الرابع عشر. كنتِ قد وصلتِ لتوكِ إلى العاصمة من الشرق….آه، كم كنتِ جميلة! رغم أنك كنتِ ريفيةً بشكل مدهش!”
لم تستطع فانيسا أن تمنع نفسها من الابتسام إزاء هذا الجواب المفعم بالحيوية.
كانت كريستال لانغ قد غادرت قصر الكونت لانغ قبل أن تبلغ فانيسا العاشرة من عمرها. ومنذ ذلك الحين حاولت فانيسا بجهد أن تنساها.
فلم تكن تملك ترف الحنين إلى أم غادرت منزلها وهي صغيرة. ولم يبقَ في ذاكرتها الآن سوى شيء واحد…..أنها كانت جميلةً بحق.
“كما تعلمين، أنا دائمًا أجعل كل الجميلات صديقاتي…..ما عدا واحدة.”
تغير وجه إيفانجلين فجأة وكأن الحياة انسحبت منه.
“ما الأمر؟”
“تلك المرأة. يبدو أنها قد حملت أخيرًا.”
“…..تلك المرأة؟”
أدارت إيفانجلين عينيها بضيق.
“المرأة الأجنبية طبعًا. تلك التي أحضرها أبي.”
‘المرأة الأجنبية.’
عرفت فانيسا فورًا عمَّ تتحدث. حتى عندما كانت تعيش في القصر كزوجة للأمير، كان الجميع لا يزالون يسمونها بذلك الاسم.
المرأة الأجنبية — الإمبراطورة الثانية للإمبراطور الراحل، وأم فيلياس.
كانت قد جاءت إلى الإمبراطورية قبل أكثر من عشرين عامًا، في زمنٍ كانت فيه مشاعر الكراهية تجاه الأجانب لا تزال قوية، بعد سقوط إمبراطورية سانت، العدوة القديمة.
فتاةٌ من الشرق البعيد، ابنة نبيل من دولة ضعيفة، تصبح الإمبراطورة الجديدة…..لم يكن من الغريب أن يواجه هذا بالكثير من الاستياء في ذلك الحين.
‘ومع ذلك…..لم أتوقع هذا القدر من الحقد.’
كان صوت إيفانجلين مليئًا بالازدراء.
“أتنبأ بأننا سنهلك جميعًا بسبب ذلك الطفل. إن كانت أنثى فربما يكون الأمر أهون، لكن من يدري ما اللعنة التي جلبتها تلك المرأة من الشرق..…”
ظهر القلق واضحًا على وجه ولي العهد.
“آنسة لانغ، هل من اللائق أن نسمع مثل هذا الحديث.…”
“آرثر! كيف تتجسس على أحاديث السيدات؟! حقًا…..يا له من ولي عهد يفتقر إلى اللباقة!”
تذمرت إيفانجلين بصوتٍ عالٍ وهي تلوّح بمروحةٍ خيالية في يدها. بينما لم تستطع فانيسا قول أي شيء.
في أي زمن حبست إيفانجلين نفسها داخل عقلها يا ترى؟ وهل تتذكر ما فعلته بذلك “الطفل”؟
كان الشعور بالقهر لا يُحتمل.
_________________________
اوتش صدق ايفانجلين كل العالم يحسبونها فاطسه ولا هي هنا؟ وموقف عقلها في زمن وهم شباب؟
قوة ولي العهد غريبه ومجنونه زيه ماينفهم بس شقصده ايفانجلين اول ضحاياه؟ لايكون عقلها كذا بسبته؟
وش العائلة الامبراطوريه ذي الي مافيهم شي طبيعي حتى فيلياس مب طبيعي😭
التعليقات لهذا الفصل " 36"