ركض نحو مرافقيه، ثم التفت فجأة. و عندما التقت عيناه بعيني فانيسا، ابتسم ولوّح بيده.
‘أن يعيش شخصٌ مفعمٌ بالحياة مثله ويموت بعد ثماني سنواتٍ فقط…..’
فكرت فانيسا وهي ترد له ابتسامةً متكلّفة.
كانت وفاته مفاجئةً وغامضة، ولم تعرف حقيقتها أبدًا — فبعدها بوقتٍ قصير كانت هي نفسها قد أُغتيلت.
في حياتها السابقة، لم يُرزق ولي العهد بوريثٍ حتى تجاوز الثلاثين. كانت زوجته من أصولٍ شمالية، ضعيفة الجسد، وقد أجهضت مرتين، ولم يعد من الممكن أن تحمل ثانيةً.
رغم أن هذا كان سببًا مشروعًا للطلاق، فإن ولي العهد ظلّ يؤجل الأمر متذرعًا بحججٍ شتى، رافضًا اتخاذ زوجةٍ جديدة.
ومع ذلك، لم يكن أحدٌ يقلق كثيرًا بشأن الوريث، فهو لا يزال شابًا معافى، وفي أرجاء الإمبراطورية نساءٌ كثيرات يتمنين أن يصبحن أمًّا لولي العهد المنتظر.
لكن موته المفاجئ قلب البلاد رأسًا على عقب — ولا سيما أن شقيقه الأصغر، الذي كان الوريث التالي، كان مشهورًا بطيشه ولهوه.
لو أمكن منع موت ولي العهد، لكان ذلك مثاليًا، لكن هل يمكن حقًا التنبؤ بمثل ذلك الحادث المفاجئ؟
وإن كان فريدريش سيُقتل بعد ثماني سنوات كما قدّر له، فهل سيخلفه كونراد على العرش هذه المرة؟ أم أنه هو الآخر سيلقى حتفه؟
‘وإذا مات كلا الأميرين…..فماذا سيحلّ بالإمبراطورية؟’
لكن فانيسا سرعان ما هزت رأسها.
التفكير في أمورٍ بعيدة كهذه ترفٌ لا تملكه الآن. فكل ما تستطيع فعله هو ما يقع بين يديها في الحاضر.
***
حلّ الليل على المناطق الجبلية. الجبال التي تحيط بالجبهة الجنوبية كانت لا تعرف ذوبانًا للثلوج، فالبرد فيها يدوم عامًا كاملًا.
تحت الثلج المتراكم، كانت خيام الحراسة في المعسكر الإمبراطوري مغطاةً بطبقةٍ بيضاء جديدة.
وفي زمنٍ لم تكن فانيسا تعرفه — المستقبل الذي أعقب مقتلها في حياتها السابقة — جلس رجلٌ يرتدي عباءةً سوداء بغطاء رأسٍ عميق أمام موقدٍ تتطاير منه الشرارات.
“سيدي، خبرٌ عاجل من العاصمة!”
اندفع مبعوثٌ مكسوّ بزيٍّ شتويٍّ ثقيل إلى داخل الخيمة، يرتجف من البرد بعد أن اخترق العاصفة الثلجية.
“تكلّم.”
“نعم، سيدي. وصلت للتوّ أخبارٌ مؤكدة — الأمير كونراد، صاحب السمو، اغتيل على يد مجهولين قبل يومين. و لم يُقبض بعد على المحرّض.”
رفع الرجل رأسه عن النار. و لم يُرَ وجهه من خلف الظلال تحت الغطاء.
وبصوتٍ خافتٍ عميقٍ سأل،
“…..وماذا عنها؟”
“عفوًا؟”
“زوجة ولي العهد. ما مصيرها؟”
لم يصدق المبعوث ما سمع. كان الخبر عن مقتل وريث العرش الأول — نبأً يهزّ الإمبراطورية — فكيف يهتم هذا الرجل بزوجته الضعيفة، ابنة السكير الذي لا سلطة له؟
“يُقال أنها كانت برفقته، يا سيدي.”
قال ذلك بتردّد.
“أي أنها ماتت.”
فجأةً، انطفأت النار، وغرقت الخيمة في ظلامٍ دامس.
“يا…..يا سمو الدوق؟ هل أنتَ بخير؟”
لم يأتِ جواب.
كانت الحرب طويلة…..ومملة — تمامًا كحياته. ومع ذلك، كان ثَمّة أشياء قليلة، نادرة، تُبقيه على قيد الحياة.
شرارة النار المتوهجة، نجوم الجبال البعيدة، وتلك المرأة ذات الشعر الأحمر التي رآها قبل ثمانية أعوام.
كان يعرف أن يومًا كهذا سيأتي — واليوم، قرّر أن يُنهي كل شيء.
“استدعوا سوريـل.”
انطفأت النار. فكل الجمال قد مات.
والآن…..ما أثمن ما يمكن أن يُنال بالقتال؟ الحرية.
بالنسبة لفيلياس، كانت هي الحرية.
***
طَقطَقَ طَقطَقَ-
“…..همم؟”
في صباح اليوم التالي، فتحت فانيسا عينيها فوق سرير مقصورتها في السفينة. كان أحدهم يطرق النافذة.
“أشعر وكأنني كنتُ أحلم للتو..…”
طَقطَق، طَقطَق طَقطَق-
استمر الطرق حتى وهي تتثاءب وتتمدد استعدادًا للنهوض.
فتحت فانيسا عينيها نصف نائمة، وحدّقت من النافذة. و كانت هناك حمامةٌ بيضاء تجثم على حافتها وتنقر الزجاج.
“حمامة..…؟”
“غُررُك.”
من خلف الزجاج، كانت الحمامة تحدّق فيها بثبات، وفي عينيها نظرةٌ مريبة تثير الانزعاج.
“أشعر…..بعدم الارتياح.”
ظنّت أنها ستطير بعيدًا إن تركتها وشأنها، فحاولت تجاهل نظراتها اللجوجة، وغسلت وجهها وبدّلت ثيابها.
بسبب وجبات الإفطار الشمالية الثقيلة التي اعتادت عليها في الأشهر الماضية، كانت معدتها تضطرب ما إن تفتح عينيها.
وحين خرجت من مقصورتها، كان الصباح بالكاد قد لاح. و النسيم البارد كان يهبّ على سطح السفينة الخالي.
عندها—
“غُررُك.”
“آه!”
الحمامة البيضاء نفسها انطلقت نحو قدميها بخفقانٍ مفاجئ.
“ما…..ما هذا؟”
“إنها حمامة مراسلة.”
أجاب الأمير وليّ العهد بدلًا منها.
كان يقف عند مقدّمة السفينة مرتديًا قميصًا صيفيًّا أبيض وسروالًا ناصعًا. و كانت خصلات شعره الذهبيّة تتماوج بنعومةٍ أمام خلفية البحر الأزرق المتلألئ.
أطفأ سيجارته التي كانت تحترق نصفها في منفضة حملها بيده اليسرى، ثم مدّ يده اليمنى الفارغة، فهبطت الحمامة فورًا على راحته.
“أهي حمامتكَ يا سموّ الأمير؟”
“همم؟ آه، لا. كما قلت، إنها حمامة مراسلة. وليست في الحقيقة طائرًا عاديًّا. إنها تُستخدم منذ القدم في الحروب…..تبدو كحمامةٍ عادية، لكن انظري.”
قرّبها الأمير من وجه فانيسا.
“غُررُك.”
“معذرة، لكنها ما تزال تبدو لي كحمامةٍ عاديةٍ تمامًا.”
“صحيح، فليس للكثيرين فرصةٌ لمعاينتها عن قرب. على أي حال، خذيها. لقد جاءت إليكِ، وإن لمسي لها قد يحرقها.”
وأشار بأطراف أصابعه إلى كاحل الحمامة. كان هناك بالفعل ورقةٌ صغيرة ملفوفة ومربوطة بخيطٍ رفيع.
“لكن كيف عرفت مكاني بالضبط؟ أهذا نوعٌ من السحر أيضًا؟”
“في الغالب، نعم. لكن ما لم يكن المرسل يعرف مكانكِ مسبقًا، فلن تصل أبدًا.”
ثم أومأ برأسه نحو صارية السفينة.
“لقد كانت تتبعكِ منذ مغادرتكِ مونتئال.”
“…..هاه؟”
التفتت فانيسا إلى الجهة التي أشار إليها، لكنها لم ترَ أحدًا على السطح الخالي.
هل يقصد أنها تخفي آليةً غير مرئية؟
“افتحيها واقرئي ما فيها.”
فكت فانيسا الورقة بعناية من ساق الحمامة.
“يا إلهي.…”
كان من الصعب جدًا قراءة الرسالة، إذ كانت مكتوبةً بخط أسود متشابك أشبه بالخرابيش. ربما يمكن اعتبار هذا النوع من الخط فناً بحد ذاته.
[سوريل لا يتعقبكِ.]
كانت تلك أول جملةٍ تمكنت من فكّها أخيرًا.
‘ما هذا؟ من سوريل هذا؟ هل هي قصةٌ غامضة جديدة؟’
“ماذا تقول الرسالة؟”
“لستُ متأكدة..…”
تابعت فانيسا القراءة.
[سوريل أيضًا في طريقه للعودة إلى أشكارو.
لكن إن احتجتِ إليه فلا تترددي في استغلاله كيفما شئتِ.]
“سمو الدوق..…؟”
نعم، لم يكن هناك شك. هذا الخط الفظيع لا يمكن أن يكون إلا لفيلياس.
و أومأ الأمير كأنه يعرف الأمر مسبقًا.
“أجل، هذا خطه الشهير. عادةً يُملي على كاتبه، لكن يبدو أنه كتبها بنفسه هذه المرة.”
[لدي الكثير لأقوله، لكن يجب أن أختصر. فقد وقع انهيارٌ ثلجي للتو.
إن أرسلتِ ردًا، فسأحفظه كأعزّ ما أملك.
من فيلياس، المخلص لكِ.]
‘انهيارٌ ثلجي؟ هل هو بخير…..؟’
“آه، يبدو أن هناك فقرةٌ تخصّ سموك أيضًا.”
[إن كان فريتز بقربكِ، فذكّريه بما قلتُ في الاجتماع الأخير.]
“حقًا؟ وماذا قال لي؟”
“يقول: ذكّريه بما قلتُ في الاجتماع الأخير. ماذا قال لكَ تحديدًا؟”
نادرًا ما حدث ذلك — فابتسامة ولي العهد اللطيفة المعتادة اختفت عن وجهه تمامًا.
لكن سرعان ما ابتسم مجددًا، كأن شيئًا لم يكن.
“قال لي: إن كنتَ أريد الحفاظ على مكاني، فعليّ أن أكفّ عن ألاعيبي الصغيرة. هاها، كلماتٌ وقحة، أليس كذلك؟”
“ألاعيب..…؟”
“على كل حال، يجدر بكِ أن تردّي سريعًا. فحمامة المراسلة لن تترككِ حتى تتلقى الجواب.”
وكان ذلك صحيحًا. فقد راحت الحمامة تتبع فانيسا أينما ذهبت، تمشي وراءها متمايلةً كالدجاجة، حتى داخل قاعة الطعام.
ولحسن الحظ، لم تحاول سرقة طعامها، واكتفت بالوقوف على الطاولة تطلق بين الحين والآخر صوتًا قصيرًا: “غُررُك.”
“همم، همم.”
ألقى النادل نظرةً غير راضية نحو الطائر وهو يملأ كأس الماء.
عندها قررت فانيسا أن تستعير ورقةً وقلمًا وتكتب ردّها بسرعة، على أمل أن تتخلص من هذه الحمامة المزعجة بأسرع ما يمكن.
_______________________
ياناسسس قاعد يقول انه مايتبعها بس ترا يمكن يلتقون؟ اظن يقصد هو سوريل او فارس خفي لها😂
وبعد مهدد ولي العهد✨ وناسه
وفانيسا خافت عليه يوم قال انهيار ثلجي✨ وناسه
المهم المقطع الصغير ذاه حق وجهة نظر فيلياس يوم فطست فانيسا واو وش سوا يوم درا؟ مافهمت بس كأنه قال استدعوا سوريل؟ منهو سوريل لاتكون الحمامه😭
التعليقات لهذا الفصل " 32"