بدأ التوأمان يتبادلان نظراتٍ مضطربة ويحركان شفاههما دون أن ينبس أحدهما بكلمة.
ثم صدرت طرطقة خفيفة من أصابع فيلياس وهو يطرق يده على مسند الكرسي، فغامت وجوه التوأمين شحوبًا في لحظة.
“لكن، لكننا تلقّينا أوامر مباشرة من سمو ولي العهد بأن نعمل بتنسيقٍ وثيقٍ مع الآنسة لانغ.…”
حاول النقيب التهرَب متلعثمًا وهو يدير عينيه يمينًا ويسارًا، لكن الطَّرطقة نفسها قاطعته ثانيةً.
“هل قال فريتز أن نحضر الآنسة إلى هذا المكان البائس؟”
فتدخّل النائب سريعًا،
“ظننتُ أن لنا قدرًا من حرية التصرف. كما فكّرتُ أن نمنح الآنسة قليلًا من الترويح عن نفسها..…”
“آه، ترويحٌ عن النفس، إذًا.”
نهض فيلياس من مكانه وتقدّم بخطواتٍ هادئةٍ نحو النائب المتجمد، ثم مدّ يده ليمرر أصابعه على شعره الرمادي المبعثر…..ملامسًا إياه كما لو كان يربّت على طفلٍ صغير.
“حقًّا فكرةٌ لطيفة منكَ أن تهتمّ حتى بمزاجها. ولكن يا أوركا..…”
“أوسكار، يا سيدي.”
“نعم، أيها الجرذ الصغير…..من تراكَ لتفعل ذلك؟”
قال ذلك بصوتٍ خافتٍ بالكاد سُمع، موجّهًا كلماته إلى أوسكار وحده، لكن فانيسا، التي كانت أذنها حساسةً كفاية، التقطتها بوضوح.
فسعلت سعالًا خفيفًا لكسر التوتر،
“يبدو أنني سببتُ إزعاجًا من غير قصد. إن أذنتم لي، سأعود الآن.”
تغيّر تعبير فيلياس في لحظةٍ وهو يستدير نحوها.
“إزعاج؟ أبدًا، بل أنا سعيدٌ بلقائنا غير المتوقع هذا. فقط لا تسيئي الفهم، رجاءً. كل ما يخصّ شؤونكِ الشخصية يجب أن يُرفع إليّ مباشرة. كما تعلمين، موظفونا ليسوا دائمًا أكفاء بما يكفي.”
“آه…..نعم، هذا ليس جديدًا عليّ.”
“كنت أعلم أنكِ ستتفهّمين. ثم إنني أشعر بالأسف لأنكِ اضطررتِ إلى السفر إلى هنا في تلك العربة الرسمية الصغيرة، المتواضعة، أظنّها كانت غير مريحةٍ على الإطلاق…..خصوصًا وأنتِ تجلسين قبالة ذلك النقيب طوال الطريق.”
قفز النقيب فزعًا فاصطدمت ركبته بطاولة القهوة بقوةٍ، وكاد وجهه يتلوّى من الألم لكنه تظاهر بالتماسك.
‘يا إلهي…..’
تنهدّت فانيسا في سرّها.
“ليس هناك داعٍ لكل هذا الغضب يا سمو الدوق. في الحقيقة، لم يكن الخروج بهذا السوء.”
“آه…..هل بدا لكِ وكأنني غاضب؟”
“حسنًا….نوعًا ما. بدا الدوق…. شخصًا سيّئ الطبع قليلًا.”
اتسعت عينا فيلياس بدهشةٍ تامة، وارتسم على وجهه تعبير من صُعق بسقوط السماء فوق رأسه.
“ما رأيكما أن تخرجا قليلًا في نزهة؟ الجو جميلٌ للغاية اليوم.”
قال أوسكار ذلك، مستغلًا اللحظة سريعًا.
“لست متأكدةً إن كان يُسمح لي بالخروج أصلًا.”
“ما من حاجةٍ للإذن. ما تريده الآنسة هو القانون.”
فاعترض النقيب بخوفٍ واضح.
“لـ، لا يمكن ذلك. يجب أن أعيدها قبل المساء، وعلينا أن نبقى معًا دومًا..…”
“ماذا قلتَ؟”
التفت فيلياس نحوه بصوتٍ وديٍّ رقيقٍ إلى حدٍّ مخيف، فتلاشى الدم من وجه النقيب تمامًا.
“آه…..لا، لا شيء يا سيدي.”
و ابتسمت فانيسا بخفةٍ مازحة،
“من الطريف أنكَ بكيت البارحة، والآن أنتَ تتحدث بهذا الحماس.”
فردّ فيلياس وهو يفتح لها الباب.
“يكفيني أن أراكِ تبتسمين لي، فذلك أعظم سرور.”
مرّت بجانبه خارجةً من الغرفة، وتبعها في صمتٍ مطبق.
“بـ…..بكى؟”
بينما تمتم النقيب مذهولًا خلف الباب الذي أغلق بعدهما.
***
كان النهار قد ازداد طولًا، والشمس تصبّ ذهبها على الأشجار. و كانت فانيسا تسير برفقة فيلياس وسط الغابة المحيطة بميدان التدريب.
“إذًا جلبوني فقط ليحاولوا تهدئتكَ، أليس كذلك؟”
“يبدو الأمر كذلك. في الآونة الأخيرة كنتُ…..متعبًا قليلًا، وربما تصرّفتُ بحدةٍ زائدة. أظنّهم اعتقدوا أن حضوركِ سيجعلني أتراجع خطوة.”
“ولماذا أنا بالذات؟”
“تعلمين الجواب.”
“لا، لا أعلم.”
“همم…..آه، تذكرت. كان هناك شيءٌ أردتُ أن أقدمه لكَ. كنت أنوي زيارتكَ مساءً، لكن بما أننا التقينا الآن..…”
أخرج فيلياس من جيب معطفه الداخلي علبةً صغيرة مسطحة، مغلّفة بورقةٍ ناعمةٍ وشريطٍ بسيط.
“هدية؟”
“لن أراكِ لبعض الوقت، فأردت أن أتركَ لكِ شيئًا.”
راح يراقبها بعينين متوترتين وهي تفكّ الغلاف برفق.
“…..سوار؟”
كانت السلسلة المعدنية دقيقةً إلى حدٍّ يكاد يُظنّها من خيوط الذهب، تتصل بها أحجارٌ شفافة صغيرة تتلألأ تحت الضوء.
“ليس سوارًا، في الحقيقة. هل لي أن أجثو على ركبتي للحظة؟”
“هنا؟”
نظرت فانيسا حولها بتردّد.
كان المكان خاليًا نسبيًا من الناس، لكنه يطلّ على ساحة التدريب، ومن هناك كان يمكن رؤية الجنود المنهكين يتفرقون بعد انتهاء تمارينهم.
“لن يستغرق الأمر طويلًا.”
وحين أومأت فانيسا بالموافقة، انخفض على إحدى ركبتيه بهدوء.
“هل تسمحين أن ألمس قدمكِ قليلًا؟”
“قدمي..…؟”
“لا تقلقي، لن يكون في الأمر ما يفاجئكِ، أعدكِ بذلك.”
رفعت فانيسا أطراف فستانها بحذر، وما إن مدت قدمها حتى رفعها فيلياس برفقٍ ووضعها على ركبته كما لو كان أمرًا طبيعيًا تمامًا.
“يا إلهي، سمو الدوق! ستتسخ ثيابك!”
“لو رأيتِ حالها بعد المعارك لما قلتِ ذلك. ثم إنه لا يليق أن أخلع حذاء آنسةٍ مثلكِ وهي واقفةٌ هكذا، أليس كذلك؟”
فتح العلبة الصغيرة أمامها.
“إذاً كانت خلخالًا.”
“صحيح. في الإمبراطورية لا يُستخدم كثيرًا، لكنه في الشرق البعيد أحد مكملات زيّ النبيلات الرسمي.”
“الشرق البعيد..…؟”
“نعم، حيث أتى الإمبراطور الراحل بزوجته الثانية.”
“هل…..هل تناديها دائمًا بهذا الشكل؟”
أغلق فيلياس المشبك بصمت،
“انتهى الأمر.”
و تلألأت الجوهرة المثبتة على الخلخال بوهجٍ أبيض حين لامسها ضوء الشمس.
“شكرًا لكَ يا سمو الدوق، لكن…..لماذا بالذات هذا النوع من الهدايا؟”
وقف فيلياس مجيبًا بابتسامة خفيفة،
“الزينة الظاهرة تتبدل مع الثياب، أما هذه فتكاد لا تُرى…..لذا يمكنكِ أن تحتفظي بها دائمًا، إن راقت لكِ بالطبع.”
“بل أعجبتني كثيرًا، بصراحة…..لم أتوقع أن تختار شيئًا بهذا اللطف. ظننتُ ذوقكَ أكثر قسوة.”
“حقًا؟ وما الذي كنتِ تظنين أنني سأختاره؟”
“شيئًا أشبه…..بالأغلال؟”
فانفجر فيلياس ضاحكًا حتى اغرورقت عيناه بالدموع.
‘إنها المرة الأولى التي أراه يضحك هكذا.’
في تلك اللحظة، التفتت فانيسا إثر إحساسها بقدوم أحدهم.
و كانا جنديين شابين بزيّ الحراسة، تعلو وجهيهما علامات الغضب.
“هذه المنطقة محظورةٌ على المدنيين! لقد حذرناكم المرة الماضية أيضًا!”
“المرة الماضية؟”
سألت فانيسا وهي تعقد حاجبيها، فازدادا استياءً.
“تتظاهران بالجهل؟ أنتما من قرية أسفل الجبل، أليس كذلك؟ كم مرةً علينا أن نكرر أن هذا موقعٌ عسكري، لا مكان للغرام والنزهات؟!”
“غرام، إذًا..…”
تمتم فيلياس كمن استوعب فجأة ما يحدث، فيما كانت فانيسا تتفقد ملابسها بارتباك.
كانت ترتدي فستاناً بسيطاً مربوطٌ من الأمام يمكن ارتداؤه دون مساعدة خدم، وشعرٌ مرفوع على عجل…..لم يكن فيها ما يدلّ على أنها من النبلاء.
أما هو، فملابسه الملطخة بالتراب أخفت مكانته تمامًا.
“يبدو أننا…..في موعدٍ غرامي يا آنسة فانيسا؟”
‘يا إلهي…..’
“إذن هذا مكانٌ يقصده العشاق عادةً، صحيح؟”
قال طلك مبتسمًا وهو يلتفت إلى الجنديين.
“آه….نـ، نعم، على ما أظن..…”
“ولهذا حسبتمانا عاشقين؟ نبدو ثنائيًا جميلًا، أليس كذلك؟”
‘لم يقل أحدٌ ذلك أصلًا…..’
“أيها الجرذان الصغيران…..بلّغا قائدكما أن الدوق هو من أرسلكما. آه، وبالمناسبة، بماذا يُكافأ الجنود عادة؟ بالذهب؟ أم بإجازة؟”
“ا…..الدوق؟”
تجمّد الجنديان في مكانيهما، وبدت الصدمة على وجهيهما حين أدركا فجأةً من يقف أمامهما—ذلك الدوق المجنون الذي يسير متخفيًا بعباءةٍ سوداء!
“ما بالكما لا تجيبان؟”
لكن شفاههما لم تنطق سوى همهماتٍ مضطربة بلا صوت.
فتدخّلت فانيسا بسرعة،
“ربما كلا الأمرين أفضل، يا سمو الدوق. فالإجازة لا تُستمتع بها دون ذهب، ولا الذهب دون وقت فراغ.”
“آه، كما تقولين تمامًا يا آنسة فانيسا. سمعتم؟ لا تقفا هناك، انصرفا الآن.”
وبينما كان الجنديان يفران بخطًى متثاقلة، هزّ فيلياس رأسه مبتسمًا.
“هذا رائع، انتهى الأمر بهدوء. كنت أخشى أن تظنيني حقًا رجلًا فظًا سيّئ الطبع.”
“ممم، لستُ متأكدةً إن كان يمكن اعتبار ذلك سوء فهم…..فشخصيتكَ يا سمو الدوق ليست تمامًا مثالًا للفضيلة.”
“بين الطيبة والشرّ مساحةٌ واسعة جدًا…..آه، انظري، الشمس تغرب بالفعل.”
“هل حان وقت العودة إلى السجن إذًا؟”
“سأوصلكُ بنفسي. لا أظن أن في الحديث عن شخصيتي مزيدًا من الفائدة الآن.”
_________________________
فيه شي غلط وهو رايح يوصلها لسجن؟🥰 ماعلينا بس حوارهم فيه كمية عبث لدرجة احس الجمل احياناً ماتركب على بعض😭
المهم ياناس مهديها خلخال😭😭😭😭🤏🏻 يااااااااااااوك كان بست رجلها بالمره يالمغازلي
بس يوجع يسمي امه زوجة الامبراطور الثانيه؟😔
واحد من التوأم سلم براسه يوم قال اطلعوا تمشوا😂
صح بعدين متى بكى فيلياس؟! ليته صدق بكى
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 30"