حين وصلت إلى القصر، كان وقت الظهيرة قد مرّ منذ زمنٍ طويل.
هذا القصر الضخم لم يكن سوى جزءٍ صغير من أراضي فالندورف. فالقلعة العريقة التي تقيم فيها العائلة لم تكن كبيرةً جدًا، لكن رفاهيتها تضاهي فخامة القصر الإمبراطوري من الداخل.
قِيدت فانيسا إلى حديقة القلعة. و كانت ظهيرةً مشرقة، ومع أن المناسبة كانت مسابقة صيد، إلا أن معظم الضيوف ظهروا بملابس خفيفة أشبه بنزهة بسيطة، يتجولون بهدوء، يحتسون الشراب ويتبادلون الأحاديث.
“الآنسة فانيسا من عائلة لانغ، صحيح؟ تسريحة شعركِ جميلةٌ جدًا. أظن أننا التقينا مرةً عندما كنا صغيرتين، لكن لا أعلم إن كنتِ تذكرينني.”
و بادلتها فانيسا الابتسامة.
“بل أذكركِ جيدًا. كانت لحظةً قصيرة، لكنها لا تُنسى. حضرت أيضًا حفل زفافكِ قبل خمس سنوات. آه، كان فستانكِ مذهلًا، أما العقد…..لم أرى ماسةً بذلك الحجم في حياتي.”
كان حديثهما دائمًا هكذا، أشبه بمباراةٍ في المديح اللطيف والخالي من الروح.
قربتت بولينا على كتفها بمودة.
“تعالي، ربما الوقت مبكرٌ قليلًا…..لكننا نجتمع لشرب الشاي مع المقربين. يبدو أن لا أحد مهتمٌ بالصيد اليوم. و يبدو أن هواية الصيد انتهت الموسم الماضي، وأنا وحدي من لم ينتبه.”
شبكت فانيسا ذراعها بذراع بولينا بابتسامة.
“مستحيل! بل هذا أفضل، إن لم يهتم الآخرون، فسأصطاد أنا جميع الطيور!”
ضحكت بولينا بمتعة.
“يا لها من فتاةٍ لطيفة. يجب أن أدعوكِ كثيرًا من الآن فصاعدًا.”
“يشرفني ذلك. بالمناسبة سيدتي، سمعت أن الابن الأكبر للبارون سيري هنا في الأرض…..هل يمكنني مقابلته الآن؟ إنه صديقٌ قريب، لكن لا أخبار تصلني عنه مؤخرًا.”
راقبت فانيسا تعابير بولينا علّها تلتقط أي دليل، لكنها لم تفلح.
“يا للأسف، لم أسمع شيئًا. لكن إن كان شابًا مميزًا كهذا، فأغلب الظن أنه يعمل الآن في مكتب أخي. سأرسل خادمةً لتستعلم عنه لاحقًا. والآن تعالي واجلسي.”
كانت هناك أربع شخصياتٍ حول طاولة الشاي، كونراد، كاليب، فيرونيكا خطيبة كاليب الجديدة، والفيكونت غريم الذي ورث مؤخرًا إحدى المقاطعات المجاورة.
“آمل ألا أكون قد قاطعتكم، عماذا كنتم تتحدثون؟”
هزت فيرونيكا رأسها وخدّاها يحمرّان قليلًا.
“أبدًا! بل يسعدنا وجودكِ. في الحقيقة…..كنا نتحدث عن حفل الظهور الأول. وأنتِ كنتِ نجمة ذلك اليوم يا آنسة فانيسا!”
“مستحيل. لقد جلستُ في الزاوية طوال الحفل.”
“لكن الجميع لم يستطيعوا رفع أنظارهم عنكِ. حتى صاحب السمو الأمير كذلك.”
“وولي العهد أيضًا، والدوق.”
قال كاليب ذلك فجأة، ورمى بنظرةٍ خبيثة نحو كونراد، الذي لا يبدو أنه نسي حتى الآن أن فانيسا رفضت رقصته.
فتنحنح كونراد بانزعاج.
“هذه الأحاديث غير مناسبة قليلًا…..خاصةً أمام أصحاب الشأن أنفسهم.”
احمرّ وجه فيرونيكا وراحت ترفرف بمروحتها توترًا. ثم تدخل الفيكونت غريم ضاحكًا.
“ليس كل يوم يجتمع في الإمبراطورية هذا العدد من النبلاء العُزّاب الشباب، فلا بد أن يصبحوا حديث الفتيات. أضِف إليهم دوق فالندورف، فيصبحون أربعة. واثنان منهم قد بلغا سن الزواج منذ زمن.”
الأربعة المقصودون كانوا: ولي العهد، كونراد، دوق فالندورف، وفيلياس.
وبالطبع، من المعتاد أن يتزوج نبلاء الإمبراطورية قبل الخامسة والعشرين…..لكن هؤلاء الأربعة الأكثر نبلاً لم يخطب واحدٌ منهم بعد، فكيف لا تصبح سيرتهم على الألسنة؟
“لأنهم جميعًا مجانين.”
“كح!”
اختنق الفيكونت غريم بالشاي الذي اندفع من فمه، فسارع بإخراج منديلٍ وتظاهر بالعطاس، بينما تظاهر الجميع بعدم سماع شيء.
كونراد وحده بدا غير واعٍ لما حدث.
التقت عينا فانيسا بـ بولينا، فابتسمت بابتسامتها الراقية المعتادة وكأن شيئًا لم يُقل.
و في تلك اللحظة،
طاخ!
دوى صوت طلقةٍ نارية من عمق الغابة.
“…..هل بدأ أحدهم قبلنا؟”
سألت فانيسا، فضيّقت بولينا عينيها قليلًا.
“أرجّح أنه أليكسي. خرج منذ الصباح الباكر ليتفقد حدود الإقليم على صهوة جواده. أن يدعو الضيوف ثم يختفي تمامًا…..هذا يشبهه جدًا.”
وضع كونراد فنجانه، ونهض من مقعده، ثم مدّ يده إلى فانيسا.
“ما رأيكِ إذاً، آنستي…..هل ننطلق؟”
“إلى أين، سمو الأمير؟”
“إنها مسابقة صيد. ينبغي أن نصطاد. هل تجيدين التصويب؟”
“لدي خبرةٌ متواضعة، سنحت لي فرصةٌ لتعلّمه.”
“حقًا؟ على يد من؟”
أنتَ.
“على يد الكونت لانغ…..الراحل.”
كان الخروج مع كونراد لصيد الطيور واحدًا من الذكريات القليلة الجميلة لديها…..و حتى تلك، لم يعد ممكنًا لها الخروج معه بعد الزواج.
كان هناك اعتباراتٌ تتعلق بالسمعة طبعًا، لكن…..أليس مكانًا مثاليًا لاغتيالٍ يبدو كحادث؟
انطلقت مع كونراد، كاليب، وفيرونيكا.
ساروا على الأقدام حتى الغابة القريبة، فيما تبعهم خادمان من القصر وخادم كونراد يقودون الخيول.
راحت فانيسا تقيس المسافة بين أرض الصيد والقصر بنظرها.
إن أرادت أن تصل إلى مكتب الدوق دون أن تُلاحظ، فعليها أولًا أن تتخلص من كونراد.
و لم تحتج إلى المحاولة أصلًا، فقد اختفى كاليب وفيرونيكا في مكانٍ منعزل، وبدأ الخدم بتثبيت الخيول وتفريغ الأمتعة. فقررت أن تتفقد منطقة الصيد مع كونراد على ظهور الخيل.
وعندما وصلا إلى ضفة بحيرة هادئة، فتح كونراد فمه أخيرًا.
“بصراحة…..كنتُ أنوي إرسال عربةٍ إليكِ اليوم. لكن كل الرسائل تعود، وكل من أرسله يعود ليقول أنكِ غير موجودة. فظننتُ…..أنكِ لن تأتي.”
لا شك أن فيلياس هو الفاعل.
فابتسمت فانيسا بجهد.
“مستحيل. كيف يمكنني أن أفعل ذلك؟ لقد وعدتكَ، سموك.”
“نعم…..لكنني اعتقدت أنكِ رفضتِني. حتى في المسرح حدث شيءٌ مشابه، ولم أتمكن من فعل شيء. وظننت أنكِ ربما خاب أملكِ بي. فسلطات ليون أو…..فريتز تختلف عن سلطاتي..…”
“سلطات؟”
توقف كونراد فجأة كأنه أخطأ.
“لا، لا شيء…..أقصد فقط أنني كنتُ متأكدًا أنكِ ترفضينني.”
نزل كونراد من فوق جواده بخفة، ومد يده نحوها. و نظرَت فانيسا إلى قمة رأسه المستديرة…..وشعرت بشيء يشبه الشفقة.
على الرغم من أنه أكبر منها، إلا أنه بدا لها دائمًا كأخ أصغر طائش يمكنها أن تغفر له بسهولة….وربما لهذا السبب كانت تسامحه دائمًا دون جهد.
أمسكت يده ونزلت من الحصان. لكنه لم يبتعد. فوجدت نفسها محبوسةً بين ذراعيه.
حاولت سحب يدها، لكنه شد قبضته أكثر.
“سمو الأمير….يدي تؤلمني قليلًا..…”
“اسمعي…..فكرت في الأمر، كما تعلمين.”
اقتربت يده اليسرى ببطء نحو خصرها.
يا إلهي….إلى أي مستوى ستهبط الآن.…؟
“أنتِ…..تعجبينني، نوعًا ما.”
“يا له من شرفٍ عظيم. بالمناسبة، أنا أيضًا معجبةٌ جدًا بنفسي.”
أجابت بسخرية، لكنه اكتفى بالضحك دون أن يبدو أنه التقطها.
“لذا إن رغبتِ….أعني….بالتأكيد سترغبين…..فلا مانع عندي أن تكوني…..خليلتي.”
“ماذا؟”
خليلته؟
رمش بعينيه الجميلتين ببراءة.
“لماذا؟ أهناك خطأٌ ما؟”
“همم….سموك، ولكن….كلمة خليلة تعني…..عشيقة خارج إطار الزواج، أليس كذلك؟”
“أجل؟”
“لكن سموك….لست متزوجًا أصلًا. ولا حتى مخطوبًا؟”
“آه….نعم..…”
أثناء ارتباكه، سحبت فانيسا يدها أخيرًا.
كانت الشمس تميل نحو الغروب، تنعكس على خصلات شعره الذهبية اللامعة. حقًا…..وجهٌ يشبه أمراء الحكايات.
لكن المشكلة….في الكلام الذي يخرج من هذا الوجه…..
______________________
يع زفت وش الي اكيد بترغبين؟ 🤡 نص ثقته واهكر العالم
التعليقات لهذا الفصل " 24"