كانت بولينا، التي قيل أنها بعد انفصالها عن آخر عشيق قضت الشتاء كله منزوعةً في فيلاها بالجنوب الغربي، تبدو أكثر حيويةً وجمالًا بكثير مما كانت تتذكره فانيسا.
صحيح، فحتى وإن كانت قد فقدت زوجها وتربي طفلها وحدها، إلا أنها ما زالت في السادسة والعشرين فقط.
حتى في حياتها السابقة، لم تكن تظهر كثيرًا في المجتمع الراقي. لكن بولينا كانت بارعةً في تحريك الناس من وراء الستار. فكل من خرج من دائرة رضاها كان يُدفن بصمتٍ أو يختفي من المجتمع بنفسه.
أما علاقتها بفانيسا…..فكانت أشبه بعلاقة تكافلية.
ما دامت فانيسا لا تطمع في السلطة المركزية، وبولينا لا تعرقل مصدر رزق فانيسا، فالعلاقة بينهما كانت بعيدةً لكنها متينة.
انحنت بولينا لتحيّي كونراد، فقال شيئًا ما بطريقةٍ غير لائقة بعض الشيء، بينما كانت بولينا تنظر إليه مبتسمةً بهدوء.
وحين رأت فانيسا النظرة في عيني بولينا والحمرة الرقيقة التي علت وجنتيها، سرحت في تفكيرها للحظة.
‘آه، إنها نظرة امرأةٍ وقعت في الحب.’
لكن لماذا؟ ولماذا مع ذلك المستهتر الأحمق؟
بالطبع، لا يمكن لوم بولينا. فالعاطفة في النهاية أمرٌ عصيّ على الفهم.
تذكّرت فجأة ما حدث قبل يومين. تلك الليلة المتأخرة حين طلب منها الدوق فجأة أن ترقص معه.
لا تزال تتذكر دفء يده وهو يلامس أصابعها، وحرارة كفه حين لامس وجهها برفق.
“في النهاية، ستفعلين ما تشاءين، وأنا…..سأطيعكِ كما أنتِ تريدين…..”
ترى، هل كان ينظر إليها بتلك النظرة نفسها؟
من المضحك أن تفكر في رجل لا تعرف حتى وجهه. فهزّت فانيسا رأسها بقوة لتطرد أفكارها.
لكن رغم ذلك، لم تستطع منع نفسها من التفكير فيه.
ذلك الرجل الغريب المتكلف، الذي يدور حولها بلا توقف، ويقول النكات الباردة بلهجته الجافة.
قال لها أنه سيتولى أمر مايسون بنفسه، وطلب منها الانتظار، ثم غادر دون أي تفسير ولم يرسل أي خبرٍ منذ أيام.
وفي تلك الأثناء اقترب موعد عرض الأوبرا المتفق عليه. و لم يكن بوسعها الجلوس مكتوفة اليدين.
يُقال أن زوجة البارون سوري بدأت تتناول أدويةً للأعصاب، وأن شقيقات مايسون مُنعن من الخروج. أما إليشيا، فقد أصبحت أكثر صمتًا.
وقبل كل شيء، مايسون نفسه، لا أحد يعلم ما الذي قد يمرّ به في هذه اللحظة.
بعد قليل، انضم كاليب مارتيني إلى حديث كونراد وبولينا. و كانت فانيسا قد زرعت بذور الفكرة في ذهنه من قبل عبر خطيبته الجديدة.
سيحاول إقناع بولينا بإقامة تجمعٍ صغير في القصر. فهو كان متلهفًا أصلًا لبناء علاقة مع عائلة فاليندورف.
ابتسم كونراد وربّت على كتف كاليب، فيما فتحت بولينا مروحتها. غير أن النظرة في عينيها الموجهة نحو كونراد لم تستطع إخفاءها.
“يمكنني اعتبار الدعوة مضمونةً إذاً. والخطوة التالية هي..…”
أنزلتُ نظارة الأوبرا. ثم سمعت صوت خطوات رجل يقترب.
حذاءٌ جلدي بنعل سميك. ليست نيكولا. وآبيل ذهب ليجلب المشروب، فلن يكون قد عاد بعد.
‘يقترب من الخلف؟ يا له من تصرفٍ غير نبيل.’
استدارت فانيسا لتبتعد بهدوء، لكن في تلك اللحظة—
“؟!”
الرجل الواقف خلفها دفعها بعنف. فأمسكت فانيسا بسرعة بدرابزين يصل إلى مستوى خصرها، لكن المعتدي دفعها مجددًا بكل قوته.
انقلبت الرؤية. وفي اللحظة الخاطفة تلك، لمحت فانيسا ظهر رجلٍ يبتعد مسرعًا. كان يرتدي ثوبًا أبيض. وذلك كل ما استطاعت رؤيته.
“آنسة!!”
صوت نيكولا جاء من بعيد، وفي اللحظة التالية كانت فانيسا تسقط من أعلى المدرج.
…..طق.
تعلقت فانيسا بالكاد بدرابزين مقاعد الطابق السفلي، ثم نظرت بخفة إلى الفراغ أسفلها.
لو سقطت من هذا الارتفاع، لانكسرت رقبتها بلا شك.
“فوو…..حسنًا، جيدٌ أني نزعت القفازات..…”
لكن الوضع لم يكن مبشرًا حتى الآن. فهي كانت في ركنٍ بعيد عن الناس عمدًا، ومن الصعب أن تصلها المساعدة.
تجمّع المتفرجون أسفل المسرح. ورأت من بعيد آبيل ونيكولا يركضان نحوها.
“يا لهما من مثابرين…..كم سيستغرقان ليصلا إلى هنا؟”
لو كانا أقرب قليلًا، لقالت لهما ألا يرهقا نفسيهما بلا طائل. فهذا ثالث موقفٍ تكاد تموت فيه تقريبًا، ولم يعد الأمر جديدًا عليها.
نظرت حولها تبحث عن موطئ قدم. و على بعد متر تقريبًا، برز حجرٌ زخرفي مناسب قليلًا.
‘لو استطعت فقط وضع أطراف أصابعي عليه…..ربما يمكنني التسلق مجددًا إلى فوق.’
وبينما كانت تفكر في هذا الأمل الواهي، لمحت في طرف بصرها ظلًا أسود مألوفًا.
“لا يمكن..…”
نظرت فانيسا إلى الأسفل. كان الحشد ينقسم يمينًا ويسارًا. ومن بين الصفوف ظهر فيلياس، رافعًا رأسه نحوها، ثم مدّ ذراعيه.
كما لو كان مستعدًا لالتقاطها بينهما.
“هل يقصد أن أقفز..…؟”
حتى وإن كان فيلياس، فلا يمكنه أن يتلقّى جسد فانيسا وهي تسقط سقوطًا حرًا.
صحيحٌ أنه إن مضى وقتٌ أطول فستسقط رغمًا عنها، لكنها لم تتوقع أن تشعر فجأة بقوةٍ غير مرئية تسند قدميها من الأسفل.
كانت تشبه تيار ماء عاصف، أو ربما مجالًا مغناطيسيًا يدفعها إلى الأعلى. فبدأ جسدها يرتفع تدريجيًا، ثم أحاطها تدفق القوة بالكامل. عندها أرخَت قبضتها عن الدرابزين بحذر.
وفجأة، وجدت نفسها معلقةً في الهواء.
“أوه….أشعر بدوار..…”
بدأ رأسها يدور ومعدتها تنقلب. و حين نظرت للأسفل، رأت وجهي آبيل ونيكولا المصدومين.
أما فيلياس فكان لا يزال في مكانه ينظر إليها بثبات، وكأنها تنجذب نحوه دون إرادة، تطفو في الهواء نحوه ببطء.
وحين استعادت وعيها، كانت بين ذراعيه.
“دوق..…”
“نعم، الآنسة فانيسا.”
“قلتَ أنكَ لا تجيد سوى التدمير…..أو الإحراق.…”
“كل ما يُرفع إلى الهواء ويسقط يتحطم.”
“رجاءً…..لا تدعني أسقط إذًا.”
تنهد فيلياس.
“لابد أنكِ تشعرين بالدوار، كفي عن المزاح وأغمضي عينيكِ.”
وما إن أغمضت عينيها حتى داهمها النعاس، وغرقت في نومٍ عميق كمن فقد الوعي.
***
بعد عدة أيام، تسلّمت فانيسا رسالتين. إحداهما تتعلق بحق انتشال السفينة الغارقة التي فازت بمزادها، مع باقي الوثائق الرسمية.
كانت تلك السفينة القديمة راقدةً منذ مئة عام في شمال الأرخبيل القراصني، على أحد طرق التجارة القديمة. توارثها المالكون جيلًا بعد جيل، حتى صار لا أحد يعرف ما تحمله من بضائع.
في حياتها السابقة، حصلت فانيسا صدفةً على مستندات الشحن المفقودة لتلك السفينة.
لكن بصفتها زوجة الأمير، لم يكن من السهل إرسال بعثة تفتيش إلى أعالي البحار، فبقيت تلك الأوراق بلا فائدة.
أما الآن، فلم تعد تلك القيود تهمّها.
أما الرسالة الثانية…..فكانت دعوةٌ إلى قصر فاليندورف.
يبدو أن بولينا قررت إقامة مهرجان صيد كامل، ولم تقتصر الدعوة على فانيسا وكونراد فحسب، بل شملت معظم نبلاء الجنوب الغربي.
والتاريخ بعد أسبوعٍ واحد فقط.
لكن المشكلة أن فانيسا لم تعد قادرةً على استغلال أيٍّ من هذين الحدثين. فبعد حادثة المسرح، أفاقت لتجد نفسها في سريرها.
باستثناء التواءٍ طفيف في أربطة معصمها، كانت بخير تمامًا. فالطبيب قال أنها وُلدت بجسد قوي وسليم.
“هذا على الأقل شيءٌ يستحق الشكر…..أبي.”
أما من دفعها، فلم يُقبض عليه بعد.
ومع تشديد الحراسة في المسرح بسبب الزيارة المفاجئة لكونراد، لم يكن الهروب بالأمر السهل.
ورغم ذلك، لم يُكشف المجرم بسرعة، مما جعل فانيسا تظن أن هناك من يتعمد إخفاءه.
فيلياس بدوره كان يحقق في الحادث، لكنه لم يخبرها بأي تفاصيل، واكتفى بتكرار أن ما تحتاجه الآن هو الراحة والهدوء.
قال أن قدرته لم تُوجد لاستخدامها على البشر، ولا أحد يعلم ما العواقب التي قد تظهر لاحقًا.
وهذه المرة لم يُستثن أحدٌ من أوامره: فقد أُبلغ الخدم بعدم السماح للآنسة بمغادرة القصر مهما قالت.
ورغم اعتراض فانيسا، إلا أنها لم تستطع الجدال أكثر، لأنه كان حقًا قلقًا عليها، ولأنها بالفعل كادت تفقد حياتها.
“بهذا الشكل، سأفقد كل شيءٍ أمام عيني.”
“ماذا تقصدين؟”
سألتها امرأةٌ في منتصف العمر ذات شعر أسود ونظارات، وهي ترفعها قليلًا على جبهتها.
كانت فانيسا قد انشغلت بقراءة الرسائل حتى نسيت وجودها إلى جانبها.
_____________________
وناسه شخصية جديدة
ومن ذا الحمار الي دفها؟؟ اصلا وش يبون؟ وش بنتي مسويه حتى!
التعليقات لهذا الفصل " 21"