مقابلة كونراد لم تكن صعبة، فهو كان دائمًا ما يجوب ليالي العاصمة كل ربيع باحثًا عن أزهى الحفلات وأفخمها.
وفوق ذلك، كانت فانيسا في الوقت الراهن محط أنظار المجتمع من غير قصدٍ منها. ابنة الكونت التي أجبرت الدوق على الركوع لها ونافست الأمير في مزايدةٍ علنية.
لذا، لم يكن عليها سوى أن تختار من بين الدعوات المتدفقة إليها و تلك الحفلات الجميلة البراقة التي تعجب كونراد.
وما إن وطئت قدماها قصر الكونت حتى أحست بأن أنظار الجميع انصبت عليها دفعةً واحدة.
ذلك الإحساس اللاسع، وكأنها وحدها تحت الأضواء، لم تجربه منذ زمن بعيد.
قاعة الرقص لم تكن كبيرةً جدًا، وكان الشبان والفتيات المدعوون متقاربين يتبادلون الهمسات الخفية.
جلست فانيسا في مقعد يواجه المدخل مباشرة، وهي في أبهى زينتها تنتظر ظهور كونراد، ومع الانتظار تسللت إلى ذهنها ذكريات الحياة السابقة رغمًا عنها.
كان كونراد حبيبًا لا بأس به، وسيمًا، مرحًا، والأهم أنه لم يصرخ في وجهها أو يمد يده عليها.
وخلال زواجٍ لم يكن قصيرًا خانها ثلاث أو أربع مرات بالكاد، وإذا أخذت في الحسبان أنه أميرٌ من العائلة الإمبراطورية، فهو يُعد زوجًا وفيًّا إلى حدٍ ما.
كما أن عشيقاته كن جميعًا سيدات نبيلات ذوات مكانة، لذا لم تحدث فضيحةٌ تذكر.
الناس نظروا إلى فانيسا باعتبارها الزوجة الشرعية المسكينة، لكن في الحقيقة كانت فانيسا تفضل الأوقات التي ينشغل فيها كونراد بعلاقاته الجديدة.
فعندما كان يقضي وقته مع سيدات المجتمع في الفيلات البعيدة كانت فانيسا حرة، واليوم كله ملكٌ لها وحدها. وهذا القدر من الراحة هو ما جعلها تبقى إلى جانبه في النهاية.
بعد برهة بدأ العازفون يعزفون مقطوعة رقص قاتمة كانت رائجةً آنذاك. وفي اللحظة نفسها دخل كونراد كأنه بطل مسرحية، وألقى نظرةً فاترة حول القاعة حتى وقعت عيناه على فانيسا.
وحين احتدم الرقص وبدأ الخدم بتقديم الأطعمة، كان كونراد قد وقف بجانبها دون أن تشعر.
“هل وصلتكِ اللوحة التي أرسلتُها؟”
“نعم، يا سمو الأمير. أشكركَ على لطفكَ واهتمامكَ.”
“لم أتوقع أنكِ تحبين الأشياء العنيفة رغم مظهركِ الهادئ.”
يبدو أنه لم يكن يعلم شيئًا عن حقيقة تلك اللوحة، ولم يكن غريبًا، فهو لطالما كان يُعامل كطفلٍ مدلل في القصر.
“من يدري، ربما يكون الأمر كذلك..…”
غطت فانيسا فمها بمروحتها وابتسمت بعينيها.
ثم مد كونراد يده فجأة، فتظاهرت بالخجل وأمسكت بها، ولامست يده الطويلة البيضاء موضعًا منخفضًا من خصرها.
الرقص مع كونراد كان أشبه بارتداء ثوبٍ قديمٍ اعتادت عليه.
“غريب…..هذه أول رقصةٍ بيننا يا آنسة، فلماذا أشعر وكأنني رقصت معكِ من قبل؟”
ضحكت فانيسا بصوتٍ خافت.
“أليست تلك جملةً تقليدية جدًا يا سمو الأمير؟”
“لكن انظري، الجميع يراقبنا.”
“وهل هناك من يستطيع أن يبعد نظره عن سموكَ؟”
تظاهرت بالتواضع وهي تتفقد نظرات الحاضرين، وبالفعل، كانت كل الأنظار موجهةً نحوهما.
كانا، من حيث المظهر، ثنائيًا متناسقًا تمامًا، كما أن فانيسا كانت تعرف خطواته القديمة عن ظهر قلب. وهذا وحده كان كافيًا لإرضاء غرور كونراد المحب للظهور.
ولم يطل الوقت حتى أصبح حديثهما أكثر دفئًا وقربًا.
بل إن فانيسا طرحت موضوع أرض فالندورف قبل أن تبدأ الرقصة الثانية حتى.
“حقًا؟ إذاً لا تزال هناك طيور الرعد في الغرب يمكن صيدها؟”
“يبدو أنهم فشلوا في ضبط أعدادها العام الماضي، مؤسفٌ حقًا. لو كان هناك أحدٌ من أصحاب الأراضي الغربية لكان الأمر ممتعًا…..سمعت أن مهارة سموكَ في الرماية مشهورةٌ جدًا.”
سكت كونراد قليلًا، لكن لم يكن صعبًا تخمين ما يدور في رأس هذا الشاب المتحمس ذي الاثنين والعشرين عامًا.
طلقات بنادق، وصيحات إعجاب السيدات.
“حسنًا، يمكنني أن آخذكِ معي، إلى أوسع ساحات الصيد في أرضي الغربية.”
“حقًا؟ أتقول الصدق؟”
استدارت فانيسا وهي تمسك بيده في حركة راقصة أنيقة.
“أنا؟ أكذب؟ مستحيل.”
‘ما هذا الهراء؟ لم يفتح فمه يومًا إلا ليتباهى ويتفاخر!’
على أية حال، بدا أنها قد كسبت نصف الجولة، لكن لتضمن الأمر كان عليها أن تلتقي بولينا شخصيًا.
“بالمناسبة يا سمو الأمير، سمعت أن دار الأوبرا الجديدة افتُتحت مؤخرًا، فلا بد أن بإمكانكَ دخولها وقتما شئتَ؟ يقولون أن الحصول على تذكرة هناك أصعب من التقاط نجمة من السماء.”
“هاه؟ الأوبرا؟ آه…..نعم، صحيح.”
قطّب كونراد حاجبيه؛ فلطالما كره الأوبرا واعتبرها مملة، لكنه بلا شك سيحتملها إن كان ذلك وسيلةً لاصطياد امرأةٍ جديدة.
“سأحجز مقعدًا في المقصورة الملكية. لكن ماذا سأنال في المقابل؟”
“يا سمو الأمير، أنتَ حقًا..…”
خفضت فانيسا عينيها بخفة،
“سأكون برفقتكَ طوال العرض، ألن يحدث شيءٌ ممتعٌ حينها؟”
اقشعر بدن فانيسا من جرأة كلماتها، لكنها سرعان ما تماسكت. فهذا النوع من اللهو كان مألوفًا تمامًا لكونراد، وحتى لو استغلته قليلًا فلن يتضرر أحدٌ من ذلك.
و لم يستطع كونراد حتى أن يخفي ابتسامته التي تسللت إلى وجهه.
‘يا للعجب، الأمر سهل أكثر مما توقعت.’
ومع ذلك، لم تشعر بسعادةٍ حقيقية كما كان ينبغي.
***
حين عادت فانيسا إلى القصر، خلعت قفازها وحذاءها وألقت بهما أرضًا، ثم ارتمت على السرير.
كانت متعبة.
‘وفوق ذلك…..لم يكن هناك أي متعة.’
بمجرد أن خطرت لها هذه الفكرة، فوجئت بنفسها.
‘متعة؟ منذ متى أصبحتُ أبحث عن ذلك؟’
لطالما رأت في مناسبات المجتمع معركةً لا أكثر. ولكن في وقتٍ ما…..تغيّر شيءٌ ما.
فتحت فانيسا علبة الموسيقى الموضوعة بجانب السرير. و دارت الآلية السحرية في داخلها لتطلق أنغامًا خفيفة راقصة. و سرعان ما خفَّ مزاجها، وأسندت ذقنها إلى كفها مبتسمةً بخفة.
‘لكن…..لمن يليق هذا النوع من الموسيقى أصلًا؟’
في تلك اللحظة طرق أحدهم الباب.
“نعم، تفضل بالدخول.”
ظنت أنه نيكولا، لكن الذي أطل من خلال فتحة الباب كان فيلياس.
فأسرعت فانيسا تنهض لتعدّل تنورتها التي ارتفعت قليلاً.
“أعتذر يا آنسة فانيسا، لا بد أنكِ كنتِ ترتاحين. لم أقصد إزعاجكِ.”
“أي إزعاج؟ تفضل بالدخول. لكن ما الأمر؟ لم تعتد البقاء في القصر حتى هذه الساعة.”
أغلق فيلياس الباب خلفه، لكنه لم يتقدم أكثر، واكتفى بالوقوف واضعًا يديه خلف ظهره.
“يا يموّ الدوق؟ هل حدث ما يُقلق؟”
“لا، لم يحدث شيء. سمعت أنكِ ستعودين متأخرةً هذا المساء، وأردتُ فقط التأكد من عودتكِ بسلام. والآن…..سأدعكِ ترتاحين.”
كان صوته أكثر جمودًا من المعتاد.
“انتظر لحظة، يا سمو الدوق، تصرفكَ اليوم غريب.”
وقفت فانيسا حافية القدمين وتقدمت نحوه، ولاحظت أنه يزداد تصلبًا كلما اقتربت.
“هل أنتَ مريض؟”
“لا، لستُ مريضًا.”
حاولت أن تتأمل وجهه لتتحقق من حرارته، لكنها لم تعرف حتى أين تضع يدها وأين جبينه.
أدار وجهه متجنبًا نظراتها.
“فقط…..أشعر بالتعب هذا المساء.”
“تعب؟ من ماذا؟”
“ذلك…..الفستان.”
نظرت فانيسا إلى ثوبها، فكان من قماشٍ رقيق ينساب برقة، من أحدث صيحات الموسم.
لم يكن مختلفًا عما ارتدته عند خروجها، سوى أن مظهرها بدا أكثر ارتخاءً قليلًا.
“يا إلهي، أعذرني.”
استدارت لتعدل الزينة الحريرية عند صدرها.
لكنها تساءلت في نفسها: هل مجرد انكشاف بسيط للبشرة يستحق كل هذا الارتباك؟
“ألا يعجبك الفستان؟ إنه من الهدايا التي أرسلها سموك. أعلم أنكَ لم تختره بنفسكَ، لكن..…”
“لا، بالطبع ليس هذا هو السبب.”
ربما بدا على وجهها شيء من الخيبة، فسارع فيلياس لتوضيح كلامه.
التعليقات لهذا الفصل " 19"