لو أردنا الدقة، فالأمر لم يكن عسير التصديق. فدوق فاليندورف، كما كان يصفه المرابون، رجلٌ “لا دم في عروقه ولا دموع في عينيه.”
لكن، هل يمكن حقًا أن يكون ذلك صحيحًا؟
“أيعقل أن يكون الدوق النبيل قاتلًا…..ولا أحد يعلم بذلك؟”
“في البلاد التي تخوض حربًا، تُغتفر كل الأشياء يا آنسة فانيسا. معظم الغرب الإمبراطوري يقع ضمن أراضي فاليندورف، وجيشه الخاص يقارب في قوته جيش ولي العهد نفسه. إن تمت معاقبته فستتضرر قوة الإمبراطورية، ولهذا تسعى العائلة المالكة جاهدةً لإبعادي عنه.”
لو كان ذلك صحيحًا، فالأمر مروّعٌ حقًا. وربما كان مايسون في خطر أعظم مما ظنّت.
منذ أيامٍ قليلة فقط، أنهى الدوق فاليندورف أعماله في العاصمة وعاد إلى قصره الريفي.
ومنذ تلك الرسالة المريبة، انقطعت أخبار مايسون تمامًا. لا ردّ على الرسائل، ولا أحد ممن أُرسلوا للسؤال استطاع دخول قصر الدوق.
و قالت إليشيا أنها لا تصدق أن مايسون كتب تلك الرسالة بنفسه.
“أنتِ تعرفين أصحاب النفوذ يا أختي، أرجوكِ…..أنا قلقة جدًّا على مايسون..…”
ولم يكن أمام فانيسا سوى خيارٍ واحد: إن أرادت لقاء مايسون أو حتى التأكد من سلامته، فعليها أن تدخل قصر فاليندورف بنفسها.
والطريقة الوحيدة لذلك هي أن تتلقى دعوةً رسمية.
‘السؤال هو…..من سيُرسل الدعوة؟’
عادةً ما تكون النساء النبيلات هن من يُقِمن الحفلات ويوجهن الدعوات. غير أن الدوق غير متزوج، ولا خطيبة له.
لكن هناك شخصٌ واحد مناسبٌ لذلك الدور.
الماركيزة بولينا موروزوف. واسمها قبل الزواج بولينا فاليندورف — شقيقة الدوق الكبرى.
“لم أكن أريد لقاءها بهذه السرعة..…”
تنهدت فانيسا بقلق.
لم تكن بولينا من السهل التعامل معها. ولإقناعها بالعودة إلى قصرها القديم للقاء أخيها، لا بد من أن تقدم لها شيئًا يستثير اهتمامها.
تحدّث فيلياس وهو يضع قطعة “الحصان” أمام “الملكة” الخاصة بفانيسا،
“قلتُ أنني سأساعدكِ، آنسة فانيسا، لكني ما زلت أظن أن خطتكِ محفوفةٌ بالمخاطر. دوق فاليندورف…..رجلٌ خبيث الطبع. لا بد أن هناك طريقةً لإنقاذ مايسون دون أن تذهبي بنفسكِ.”
و أجابت وهي تُسقط قطعة حصانه،
“ربما، لكني سأستخدم كل وسيلةٍ متاحة. والآن، يبدو أن تحركي بنفسي هو الخيار الأسرع.”
بدأ فيلياس يعيد ترتيب قطعه على الرقعة في صف مستقيم.
“كن صريحاً معي يا سموّ الدوق..…”
“بشأن ماذا؟”
“أنتَ لا تعرف قواعد الشطرنج، أليس كذلك؟”
ضحك فيلياس وهو يمسك بالملك والملكة معًا.
“هل انكشف أمري؟ كما توقعت، لا يفوتكِ شيء يا آنسة فانيسا.”
‘بل أنت من لم تحاول إخفاءه أصلًا….’
فكّرت في نفسها.
“آه، أشعر بالجوع. لننزل لتناول الطعام أولًا. هل يمكننا أن نلعب مجددًا في المرة القادمة يا آنسة فانيسا؟”
“ظننتكَ لا تحب الشطرنج؟”
“إن كنتِ تقصدين اللعبة نفسها، فلا، ليست من هواياتي. لكن منظركِ وأنت تمسكين بالقطع…..جميلٌ للغاية.”
“أتعني قطع الشطرنج؟”
“نعم، وأنتِ تسقطينها بتلك الثقة…..تبدين كفاتحة بلاد. ليتكِ تسقطينني أنا أيضًا بهذا الشكل يومًا ما.”
أصدرت نيكولا صوتًا غريبًا بين السعال والاختناق، ثم انسحبت مسرعةً من الغرفة.
“يا سموّ الدوق…..هذا تعليقٌ يساء فهمه بسهولة.”
“أيّ سوء فهم تعنين؟”
“أقصد…..أنكَ قلتها بمعنى بريء، أليس كذلك؟”
“هل هناك طريقةٌ أخرى لفهم كلامي؟”
“يعتمد على وجهة النظر..…”
“وجهة النظر، إذاً.”
أومأ فيلياس ببطء ثم فتح لها الباب،
“سأنتبه في المرات القادمة…..حتى لا يُساء فهمي.”
لكنه كان يبدو في مزاجٍ جيد بشكل غريب.
***
الماركيزة بولينا موروزوف فقدت زوجها بعد عامين فقط من زواجها. و كانت حينها حاملًا، وأنجبت ابنًا بعد وفاته.
غير أن الطفل الأشقر لم يشبه الماركيز موروزوف في شيء.
وسرعان ما أصبحت موضوع القيل والقال في الأوساط الراقية، لكن لم يجرؤ أحدٌ على مواجهتها مباشرة. حتى عشاقها الكثيرون الذين كانت تبدلهم بوتيرة سريعة، لم يفتح أحدهم فمه بكلمةٍ واحدة.
كانت بولينا دائمًا تنال ما تريد. فقد كانت تملك الوسائل لذلك.
‘باستثناء شيءٍ واحد فقط..…’
كانت فانيسا قد لاحظت منذ زمن أن جميع عشاق بولينا يتشاركون صفاتٍ واحدة: شعرٌ أشقر، أجسامٌ ممشوقة، وملامح وسيمة تحمل شيئًا من العصبية.
وكان يمكنها أن تستنتج ذلك من نظرات بولينا إليها في حياتها السابقة، فكل عشاق بولينا الكثيرين كانوا يشبهون كونراد بدرجةٍ أو بأخرى.
“سيدتي، لكن الدوق فاليندورف…..إنه من سلالة العائلة الإمبراطورية، أليس كذلك؟”
سألت نيكولا وهي تمشط شعر فانيسا بعناية.
“نعم، لكنه فرعٌ جانبي من العائلة، ومع ذلك فإن نفوذه داخل القصر كبير. كانت جدة جدّه قد نصّبت نفسها وصيةً على العرش لسنواتٍ طويلة.”
ولهذا السبب لا تزال عائلة سايران يتوجسون من اختلاط دمائهم بدماء عائلة فاليندورف، وهذا وحده ما منع بولينا من الحصول على كونراد.
نظرت فانيسا إلى انعكاسها في المرآة.
كان عليها اليوم أن تكون أكثر جمالًا من أي أحد. فحيث يوجد كونراد، تتجمّع جميلات الإمبراطورية كلّهن.
“آه، سيدتي، هلّا تفتحين الدرج الأيمن لحظة؟”
وعندما فتحته، فوجئت فانيسا بما رأت داخله.
كان خنجرًا رفيعًا يشبه المِثقب، بمقبض خشبي منحوت بخطوطٍ حلزونية.
“جميل، أليس كذلك؟ الدوق تركه لكِ فجر اليوم. قال أن المسدس يحتاج تدريبًا طويلًا، لكن هذا سيكون أنسب في حال الطوارئ…..رغم أنه يأمل ألا تحتاجيه أبدًا.”
“لكنني ذاهبةٌ فقط إلى حفلةٍ تنكّرية، ما الذي يخيفه إلى هذا الحد؟ ثم إن آبيل سيرافقني هذه المرة.”
“ربما ما زال متوترًا بعد ما حدث مع قطاع الطرق في بيروز. فقط خذيه، سيدتي، ولا تفكّري كثيرًا. إن اضطررتِ لاستخدامه، فذلك يعني أن آبيل صار في عداد الأموات.”
ارتدت فانيسا فستانًا أبيض من متجر موسلين.
كانت فساتين هذا الموسم عالية الخصر وضيقة الذيل، مصنوعةٌ من أقمشة رقيقة خفيفة تُبرز منحنيات الخصر والورك، مع صدرٍ مفتوح يكشف العنق وخط الكتفين.
ومن خلفها في المرآة، شبكت نيكولا كفّيها على خديها واستدارت بإعجاب.
“آه، يا إلهي…..سيدتي، لقد وُلدتِ بكل ما تتمنى النساء امتلاكه. القوام، التناسق، والأنوثة…..لقد خدمتُ كثيرات، لكن لم أشعر بمثل هذه المتعة وأنا أزيّن إحداهن من قبل.”
فضحكت فانيسا بهدوء،
“لسانكِ لا يهدأ بالمجاملات.”
“هذه ليست مجاملة! من وضع موضة الموسم بالتأكيد استلهمها منكِ!”
‘منذ متى أصبحتُ سيدتكِ يا نيكولا…..’
تأملت فانيسا وجهها في المرآة وهي تعقد ذراعيها. شعرها المتموج بلون النبيذ، وعيناها بلون الفستق، كما كانا دائمًا، لكن ثمة شيءٌ بدا مختلفًا.
ملامحها تغيّرت قليلًا…..
‘كنت أظن أنني أبدو أكثر برودةً من هذا…..’
“نيكولا، ألا تلاحظين أن نظراتي أصبحت أكثر…..غموضًا مؤخرًا؟”
فشهقت نيكولا ورفعت قبضتها بحماس.
“سيدتي، لا تسمحي لي أن أسمعكِ تقولين ذلك مجددًا! أيّ غموض؟! تلك النظرات البريئة الساحرة لا مثيل لها في الإمبراطورية!”
“حسنًا، حسنًا، فهمت.”
جلبت نيكولا صندوق المجوهرات وهي تهمهم.
“لكن سمو الدوق عجيبٌ فعلاً. أول هديةٌ يقدمها لكِ هي خنجر! لو كان منحكِ شيئًا أكبر ولمّاعًا لكان أفضل بكثير، لكنه ليس من هذا النوع على ما يبدو.”
“مجرد تخيله يثير السخرية.”
حقًا، من الصعب تخيّل فيلياس وهو يقدم مجوهراتٍ لامرأة. حتى الفساتين التي تصلها أسبوعيًا لم يخترها بنفسه، بل يكتفي بإعطاء الأوامر فقط.
‘والآن عندما أفكر بالأمر…..لم يمدح فستاني ولا مرةً واحدة…..’
توقف ذهنها فجأة عند فكرةٍ غير متوقعة.
‘بل في الحقيقة…..لم يمدح مظهري أبدًا، أليس كذلك؟ باستثناء مزحته عن لساني الجميل…..لم يقل لي يومًا أنني جميلة…..’
حسنًا، ربما هذا طبيعي. يا لي من مغرورة فعلاً…..
ابتسمت فانيسا في المرآة بخجلٍ خفيف وهي تهز رأسها على نفسها.
التعليقات لهذا الفصل " 18"