خلف جبال الجنوب، كانت دولة سايروس — التي انفصلت عن الإمبراطورية في عهدها المبكر — بمثابة دولةٍ شقيقة للإمبراطورية.
لكن النزاعات على الحدود الجنوبية لم تتوقف منذ زمنٍ بعيد.
كان جوهر الصراع هو النزاع على الأراضي؛ إذ يُقال أن في أعلى قمة من تلك الجبال تكمن قوةٌ قديمة، وكان البلدان يتنازعان على حق امتلاكها دون أي تراجعٍ من أي طرف.
“أتذكر، قبل خمس سنوات كانت هناك معركةٌ كبيرة أيضًا. لكن ما علاقة هذا بموضوع حديثنا؟”
“كما تعلمين، وحدهم أبناء الدم الإمبراطوري هم القادرون على استخدام السحر. ولهذا فكل أبناء سايران مُلزَمون بالمشاركة في الحرب. عادةً ما يُرسلون إلى الجبهة بعد بلوغهم سنّ الرشد…..لكن قبل ولادتي بوقتٍ طويل، حدث أن ضعفت الإمبراطورية كثيرًا، حتى اضطُرّ الجميع — من الفروع الرئيسية والفرعية — إلى التوجه إلى الجبهة.”
“إذاً، كانت السيدة إيفانجلين بينهم أيضًا؟”
“نعم. كانت آنذاك في الثانية عشرة من عمرها فقط، وكانت الأصغر سنًّا في تاريخ المشاركين. ولم يُكسر هذا الرقم حتى اليوم. ومع ذلك، يبدو أنها حققت إنجازاتٍ باهرة…..لكنها بعد ذلك بدأت تعاني من صدمةٍ نفسية شديدة. وأغلب الظن أن مرضها العقلي بدأ من هناك.”
أن تشارك فتاةٌ في الثانية عشرة في الحرب…..يا له من أمرٍ فظيع. شعرت فانيسا بالأسى العميق تجاه تلك الأميرة التي لم تلتقِ بها قط.
تساءلت في نفسها: عندما رسمت لوحاتها بدمها، بماذا كانت تفكر؟ ربما كان ذلك البورتريه وجهها الذي رأته في كوابيسها.
“لكن سمعتُ أن الأمراء كانوا يحبونها كثيرًا.”
“ظاهريًا فقط…..فقد كانت ذكيةً وبلا شائبةٍ واحدة في نظر الناس. حتى في الدوائر الاجتماعية، نادرًا ما لاحظ أحد اضطرابها. لكن داخل القصر، كان ذلك سرًّا مكشوفًا. لم يكن الأمراء صغار السن يذكرون شيئًا، لكنها كانت تُظهر سلوكياتٍ…..مثيرة للمشاكل.”
“مثل ماذا؟”
أومأ فيلياس ببطءٍ وهو يسترجع ذكرياته.
“على سبيل المثال…..ذات مرة، وضعت حبلًا حول عنق أخيها غير الشقيق ذو الست سنوات، وعلّقته بإطار النافذة.”
“…..ماذا؟!”
كان وقع كلماته كصفعةٍ على رأسها، وشعرت فانيسا بالبرودة تسري في جسدها كله.
ثم تابع فيلياس حديثه ببرودٍ غريب.
“يقول الناس أنني صرتُ غريب الأطوار بعد ذلك اليوم. لكنني كنتُ طفلًا غبيًّا قبلها وبعدها، لذا لا أعلم إن كان ذلك صحيحًا فعلًا. آه، تذكرت..…”
“نعم؟”
“ما قلته لكِ الآن يُعد من أسرار العائلة الإمبراطورية. إن تسرب، فسيُقطع لسانانا معًا.”
“….…”
“كنتُ أمزح.”
ابتسم فيلياس.
“لن أسمح أبدًا لأحدٍ بأن يمسّ لسانكِ الجميل يا آنسة فانيسا.”
أخفضت فانيسا رأسها، غير قادرةٍ على كبح دموعها التي اندفعت فجأة. فاقترب منها فيلياس مرتبكًا وجثا على ركبتيه أمامها.
“هل كان كلامي السبب؟ أنا آسف…..أرجوكِ، لا تبكي، فانيسا.”
لكن مهما حاولت، لم تستطع طرد الصورة المروعة من ذهنها.
طفلٌ في السادسة من عمره يتدلّى من حبلٍ صنعته يد أخته غير الشقيقة…..لا بد أن تلك الحادثة لم تكن الوحيدة.
العنف…..لا بد أنه استمر طويلًا، متكررًا حتى خنقه بالكامل.
فالعنف المستمر يقيّد الإنسان مدى الحياة، يُحطّمه ويجعله عاجزًا — كما حدث معها هي.
ظلّ فيلياس ينظر إليها في ارتباك، لا يعرف ما يفعل. و لم تستطع فانيسا التماسك أكثر، فمدّت ذراعيها واحتضنت عنقه متحدثةً بصوتٍ متقطع،
“الدوق ليس غريبًا…..أبدًا، أبدًا أنتَ لست غريبًا.”
لم يقل فيلياس شيئًا، بينما كان جسده يحمل رائحة من قضى وقتًا طويلًا في البرد والضياع في الخارج.
***
بعد ثلاثة أيام، عند الساعة الرابعة عصرًا، كانت فانيسا في قصر الماركيز بلاكوود. و كان هذا أول حفل اجتماعي تحضره برفقة فيلياس.
حين رأت زوجة الماركيز الدوق يدخل بنفسه، بقيت عاجزةً عن الكلام لوهلة؛ فعلى الرغم من أنها هي من أرسلت الدعوة بنفسها، لم تكن تتوقع أن يلبيها حقًا.
“يا إلهي، سموّ الدوق! لم أتخيل أبدًا أنكَ ستتكرم بالمجيء…..أعني، شكراً لك على تشريفكَ لنا.”
فتمتم فيلياس بكلماتٍ غير مفهومة، وكأنه جاء على مضض. عندها، شدّت فانيسا طرف كمّه بلطف.
“آه…..نعم، مرّ وقتٌ طويل يا ماركيزة. كما سمعتُ، قصركم….همم.…”
ويبدو أنه فشل في إيجاد الكلمة المناسبة، لكن لحسن الحظ، ضحكت زوجة الماركيز بودٍّ واضح، ثم وجهت نظرها إلى فانيسا.
“وهذه الشابة الجميلة، أليست المرة الأولى التي ألتقي بها؟”
“بلى، ماركيزة. اسمي فانيسا لانغ. أشكركِ على دعوتكِ الكريمة. إن قصرَكم آيةٌ في الجمال حقاً.”
وسرعان ما أُخِذا إلى مقعديهما؛ إذ كان قد أُعدّت حفلةٌ موسيقية صغيرة، وكانت ابنة الماركيز الصغرى — التي ظهرت لأول مرة هذا الموسم — ستعزف على البيانو.
“أحيانًا أتمنى لو أن الشتاء لا ينتهي أبدًا.”
قال فيلياس ذلك وهو يهوي على مقعده بتعب. و لا بد أنه يقصد أنه يتمنى لو لم يعد موسم المجتمع الأرستقراطي أبداً.
فابتسمت فانيسا وجلست بجواره،
“ويا للأسف، فأنا الآن بدأتُ للتوّ أحبّ الربيع.”
“إذاً لا بد من جعل الربيع أبديًّا، فالفصول ليست سوى اكتشافٍ بشري في النهاية.”
“كفّ عن هذا الكلام.”
أدارت فانيسا نظرها في أرجاء القاعة.
و كان أوضح ما في الأمر أن الضيف الأعلى مقامًا في الحفل هو فيلياس، ووفقًا لأعراف الإمبراطورية، كان على بقية النبلاء أن يحيّوه أولًا.
لكن الغريب أن أحدًا لم يجرؤ على الاقتراب؛ فقد كانت وجوههم جميعًا مشدودة بالتوتر، يرمقونه خلسةً دون أن يخطو أيٌّ منهم نحوه.
حتى حين تجرّأ ضابطٌ شاب واقترب، لم يكد يفتح فمه حتى تحدّث فيلياس دون أن يرفع رأسه،
“لا تكلّمني.”
فارتبك الضابط واعتذر على عجل قبل أن ينسحب.
‘حقًا، هذا الرجل حتى ولي العهد نفسه لا يأبه بتحيته…..’
لكنها لم تُبالِ. فقد كانت فانيسا اليوم في مزاجٍ رائع. لقد باعت لتوّها فستان “ديڤا” الذي فازت به في المزاد إلى أحد أمراء القارة الشمالية، بخمسة أضعاف ثمنه الأصلي.
كانت تعرف الأمير من حياتها السابقة، وتذكّرت أنه كان من كبار معجبي المغنية جولييت ديڤا، فاحتفظت بالفستان خصيصًا له — لكنها لم تتوقع أن تجني من الصفقة هذا الربح الخيالي.
‘منذ متى لم أحضر حفلةً اجتماعية بهذا القدر من الارتياح؟’
كانت ترتدي اليوم فستان الموسم الجديد، يكشف عن كتفيها. ومن الغريب أنه تم تسليمه إلى غرفتها في الصباح نفسه، بعد أن اكتمل تمامًا.
كان ملائمًا لجسدها بشكلٍ مدهش، لكنها فضّلت ألا تفكر كثيرًا في السبب.
وبفضل مرهم الطبيب الإمبراطوري اختفت الكدمات تمامًا، أما الفستان بلون زهرة البنفسج فكان ينسجم ببراعة مع لون شعرها.
ثم اقترب أحد الخدم حاملاً صينية عليها زجاجة وكأس.
“إنه ويسكي من معمل تقطير بلاكوود. هل أقدّم لكِ كأسًا، آنستي؟”
ذلك الويسكي الشهير من بلاكوود. فأضاءت عينا فانيسا فجأة.
“بالطبع! وإن أمكن، أودّ أن تملأ الكأس كلما فرغت.”
“بكل سرور، آنستي.”
فنظر إليها فيلياس من الأعلى، وكأنه يودّ قول شيء لكنه تراجع.
“ما الأمر؟ ألست راضيًا عن اختياري؟”
“أبدًا، كل ما فيكِ يبعث فيّ سرورًا لا يوصف. فقط..…”
“فقط ماذا؟”
“يُقال أن ويسكي بلاكوود لهذا العام أقوى من المعتاد. أعلم أن لدى الآنسة فانيسا ذوقًا راقيًا في الشراب، لكن..…”
“دوق!”
“نعم، آنسة فانيسا؟”
“لا تستخفّ بقدرتي على الشرب مرةً أخرى.”
“… ..مفهوم. يبدو أن مزاجكِ رائعٌ اليوم.”
و ابتسمت فانيسا برقة وهي تتحدث في نفسها،
‘آه، إنه الربيع فعلًا.’
ثم ارتشفت الشراب، تاركةً مذاقه الحارق يداعب طرف لسانها.
وبعد قليل، بدأت ابنة الماركيز تعزف على البيانو، وكان العزف…..
‘فظيع.’
لقد بذلت الفتاة كل ما بوسعها، غير أن أصابعها ببساطة لم تُخلق للعزف.
ارتشفت فانيسا الويسكي مرةً أخرى. ودكان من أجود أنواع الإمبراطورية، يحرق الحلق والصدر بحرارته القوية، وسرعان ما بدأ الدفء والخمول يتسللان إلى جسدها.
وحين انتهى العزف، دوّى التصفيق في القاعة، فاحمرّ وجه ابنة الماركيز وهي تنحني.
“شكرًا لكم جميعًا! لقد تمرّنتُ كثيرًا على هذه النغمات خصيصًا لهذا اليوم! والآن، سأبدأ المقطوعة التالية!”
وكانت “النغمات” التي تتحدث عنها…..اثنتي عشرة مقطوعة.
جعل الأداء الفظيع الحاضرين يشربون أكثر، والويسكي الممتاز جعلهم يطلبون المزيد. أما الخدم، فكانوا يملأون كأس فانيسا دون ترددٍ لحظة فراغها.
و ما لم تدركه فانيسا هو أن جسدها الآن بالكاد بلغ سنّ الرشد، وأن كبدها النقيّ لا يزال غير معتادٍ على مجاراة قدرتها السابقة على الشرب.
______________________
يسسسسس احسن شي في ذا الكفار مومنت الابطال لا سكروا🙂↕️
فيلياس الفصل الي راح بغا يتمرد لعيونها وذا الفصل ألحد لعيونها😭 يضحك وقعته قويه
المهم الحين هو بيكمل على ذا الرتم من الحب لين الهوس 🤏🏻
التعليقات لهذا الفصل " 14"