هذا الرجل هو نفسه الـ“وسيط”. لم يكن هناك في عالم السياسة أو المال مكانٌ لا تمتد إليه علاقاته، كما كان على درايةٍ بأسرار كبار الشخصيات والنبلاء.
حتى فانيسا في حياتها السابقة كانت تتعامل معه كثيرًا، وإنْ كان عبر وكلاءٍ لا بشكلٍ مباشر، لذا فهذه هي المرة الأولى التي ترى فيها مكتبه بعينيها.
لم يكن في الغرفة ما يلفت النظر؛ كانت أشعة الشمس تتسلل عبر النافذة المفتوحة وتغمر الأثاث العادي بضوءٍ ناعم، غير أنّ الجدران المكسوة بخزائن الملفات لا شكّ أنها تخفي بداخلها بحرًا من الأسرار.
“لديّ غرضٌ أودّ أن تُلقي عليه نظرة.”
وضعت فانيسا تاجًا ملفوفًا بقطعة قماشٍ على الطاولة المصنوعة من خشب الماهوجني.
مال الوسيط برأسه قليلًا، وأخرج من جيب قميصه نظّارةً أحادية وعدّسةً صغيرة، ثم بدأ يفحص التاج بيديه المغلّفتين بالقفازين.
“هذا……”
تجمّدت الكلمات على لسانه وهو يتناوب النظر بين فانيسا والتاج.
“منذ بدأتُ عملي في هذا المجال لم أرَ شيئًا كهذا من قبل……ما هذا بحق؟”
“أتستطيع أن تخمّن؟”
“أفضل تخمينٍ يمكنني قوله هو أنه يشبه تحف الحقبة الأولى من الإمبراطورية……لكن المشكلة تكمن في هذه الخامة……”
“أنا لستُ خبيرةً في الآثار، صحيح، لكنني أعلم أنّ لهذه القطعة قيمةً كبيرة. وأريد بيعها لمن سيدفع أعلى سعر، فأنا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى المال.”
تنهد الوسيط بعمق، ثم شبك ذراعيه وفكّر طويلاً قبل أن يجيب،
“حسنًا، فلنفعل هذا. اتركي القطعة هنا وسأمنحكِ إيصالًا بحفظها. وسأُرسل إليكِ شخصًا خلال أسبوعين ليخبركِ بالنتيجة.”
بدأ يسجّل ملاحظاتٍ دقيقة عن كل تفصيلة في التاج، ثم مزّق بطاقة تعريفٍ خاصة إلى نصفين — نصفها ثبّته على التاج، والنصف الآخر سلّمه إلى فانيسا.
“هناك أمرٌ آخر. لقد فزتُ مؤخرًا في مزادٍ بلوحة……”
تلألأت عينا الوسيط باهتمام.
“هل تقصدين لوحة الدم؟ إذاً أنتِ هي الشابة التي نافست الأمير في المزايدة!”
“هل وصلت الشائعات إلى هنا بهذه السرعة؟”
“أي إشاعةٍ تتعلق بالأمير كونراد تثير ضجة، واسمكِ بات جزءًا من القصة. هل ترغبين في بيع اللوحة أيضًا؟”
“صحيح. هل يثير ذلك اهتمامكَ؟”
“ليس في الوقت الراهن……لكن من نظرة وجهكِ، أظن أنكِ تملكين شيئًا قد يغيّر رأيي.”
‘حسنًا……ماذا أفعل الآن؟’
كان التاج ذا قيمةٍ في حدّ ذاته، أما اللوحة فالأمر مختلف.
تعرف فانيسا مَن رسم لوحة الدم، لكنها لا تملك أي دليلٍ يثبت ذلك، ومن دون دليلٍ لا يمكن لأيّ أحدٍ تقدير قيمتها الحقيقية.
مهما حسبت الأمر من جميع الجوانب، فلن تكون الصفقة مجدية. و لم يكن لديها من يمكنه التحرّك نيابةً عنها، وحتى إن نجحت في جمع الأدلة، فذلك سيستغرق وقتًا طويلًا.
لكي تشرح له قصة هذه اللوحة المشؤومة، لم يكن هناك بدّ من التطرّق إلى حياة السيدة إيفانجلين.
كانت الابنة الوحيدة للإمبراطور، محطّ أنظار الإمبراطورية منذ ولادتها، لكنها في طفولتها نادرًا ما ظهرت في أيّ مناسبةٍ رسمية.
لم تُقم حفل ظهورٍ في المجتمع مثل سائر النبيلات، ولم تكن على صلةٍ إلا بعددٍ محدودٍ من الناس.
ثم ذات يومٍ، ظهرت فجأة في عالم النبلاء كزائرةٍ من عالمٍ آخر، وسرعان ما أسرَت قلوب الجميع في ذلك العام ذاته.
وعندما رحلت إلى القارّة الشمالية، شعر الناس وكأن جنّيةً سلبت عقولهم واختفت.
في حياتها السابقة، كانت فانيسا تُقارن بها باستمرار، فاضطرت إلى معرفة كلّ صغيرةٍ عنها رغم أنفها.
و على عكس الإمبراطورة خافتة الحضور، كانت إيفانجلين امرأةً فاتنة، ذكية اللسان، بارعة الحديث، حتى الأمراء أنفسهم كانوا يميلون إلى عمتهم أكثر من أمهم الإمبراطورة.
غير أن ما لم يكن معروفًا للعامة هو أنها عانت طويلًا من اضطرابٍ نفسيٍ خطير.
و لو تبيّن أن إيفانجلين هي من رسمت لوحة الدم، فستبلغ قيمتها عنان السماء.
أولًا، لأن الفنانة هي “ملكة المجتمع المفقودة” إيفانجلين نفسها، وثانيًا، لأنها الآن راحلة منذ زمن بعيد.
لكن كيف يمكن لفانيسا إثبات ذلك؟
في حياتها السابقة كانت سترسل أحدهم إلى الشمال لتتبع مرسمها، أما الآن فلا تملك لا الرجال ولا الوقت.
“ما يمكنني قوله بيقين، هو أن الدم المستخدم في هذه اللوحة لم يُخلط بأي مكوّنٍ آخر.”
لم تكن بحاجةٍ إلى شرحٍ أكثر؛ فالوسيط يعلم يقينًا أن دماء العائلة الإمبراطورية الممهورة بالقوة السحرية لا يتغيّر لونها مهما مرّ الزمن.
“هذا……طرحٌ منطقيّ بالفعل. لكن حتى مع ذلك، لا شيء يمكنكِ إثباته الآن. وتحليل المواد دون إتلاف اللوحة سيكون صعبًا للغاية.”
“صحيح، لكن إن كان ما أقوله حقيقيًا……فلن يكون هناك عرضٌ أكثر جرأةً من هذا.”
فابتسم الوسيط ابتسامةً محرجة.
“حسنًا، لنجرب ونسمع ما عندكِ.”
“أولًا، أود أن أقدم لكَ طلبًا. التحقيق في خلفية اللوحة والرسام لا بد أنه أمرٌ يسيرٌ على وسيطٍ مثلك، أليس كذلك؟ وإن تبيّن أن اللوحة هي فعلًا من أعمال السيدة إيفانجلين، فيمكننا إقامة مزادٍ ضخم. بعد بيع اللوحة، و سأمنحكَ ثلاثين بالمئة من الأرباح، أما العمولة فستكون منفصلةً طبعًا.”
“هذا……”
بدا الوسيط وقد فقد الكلمات للحظة. فحدّق في فانيسا بنظرةٍ يصعب تفسيرها، ثم تكلّم بعد برهة.
“كان يمكنني أن أجادلكِ الآن بشأن هذه النسبة الجنونية……همم……لكن لا بأس. أعتقد أنكِ ستكونين من الزبائن الدائمين، لذا سأمنحكِ نصيحة، مجانًا.”
طوى الوسيط إيصال الأمانة ومدّه نحوها.
“ناقشي هذه المسألة مباشرةً مع القصر الإمبراطوري. تحديدًا……سمو ولي العهد نفسه سيجد في الأمر اهتمامًا.”
و ترددت فانيسا للحظة قبل أن تأخذ الإيصال.
أن تناقش ولي العهد؟ لم يكن ذلك أمرًا لم يخطر ببالها. فالإمبراطورية بالتأكيد لا ترغب في أن تتداول الأسواق لوحةً كهذه.
“لكن كيف لي أن أفعل ذلك؟ إن ادعيتُ أنها من رسم الأميرة، فسأُتهم بإهانة العائلة الإمبراطورية!”
“كلا. إن كنتِ بالفعل من أظنّ، فلستِ بحاجةٍ إلى القلق حيال ذلك.”
“……؟”
“سمعت أن طهاة الحلويات في قصر ولي العهد باتوا يتذمّرون كثيرًا……يقولون أنهم سئموا من صناعة معجناتكِ الملعونة.”
“معجنات؟”
ومضت ذكرى في ذهن فانيسا.
‘إن لم يزعجكِ الأمر……فهل يمكننا أحيانًا احتساء الشاي سويًا؟ سأطلب من الطاهي إعداد معجناتٍ أكثر طبقاتٍ هذه المرة……’
حقًا، كان ولي العهد قد قال ذلك أثناء الدعوة السابقة. لكنها ظنّت أنها مجرد مجاملةٍ لا أكثر.
‘لكن……كيف يعرف هذا الرجل ما دار حينها؟’
وبينما كانت الشكوك تملأ وجهها، فاكتفى الوسيط بابتسامةٍ غامضة.
جمعت فانيسا إيصال الأمانة وغادرت المكتب. بينما تمتمت العجوز خلفها بكلمات لم تسمعها، ثم خرجت من متجر الكتب القديم ودخلت زقاقًا ضيقًا مجددًا—فإذا بشخصٍ يعترض طريقها.
رجل ذو شاربين كثّين كالأشرار، يرافقه اثنان ضخما الجثة بدت عليهما ملامح الحراسة.
التعليقات لهذا الفصل " 12"