كان كونراد يسند خده إلى كفه متأملًا وجه فانيسا بتأنٍ.
“أجل، الرحمة كما تقولين……لا أدري إن كان ذلك الرجل يملك شيئًا من الرحمة فعلًا، لكن فلنفرض أنه كذلك. على أي حال، في المجتمع المخملي مثل هذه الشائعات تنتشر في لحظة، من الأفضل أن تحفظي هذا الدرس جيدًا.”
‘على الأقل أنا أفهم هذه الأمور أكثر منكَ أيها الغِر الصغير.’
“سأضع ذلك في الحسبان، سموّ الأمير.”
“……آنسة، لا بد أنكِ ترغبين في اللوحة التي اشتريتُها، أليس كذلك؟”
“هل تسخر مني يا سموّ الأمير؟”
“ليس تمامًا……همم، إن كنتِ ترغبين بها، فقد أُعطيكِ إياها.”
“حقًا؟ أهذا صحيح؟”
اتسعت عينا فانيسا بدهشةٍ مصطنعة، وأمالت رأسها قليلًا وهي تنظر إليه بنظرةٍ حزينةٍ خفيفة. لطالما كان كونراد ضعيفًا أمام تلك النظرة منها.
فارتسمت على وجهه ابتسامةٌ ماكرة.
“قلت لكِ، نعم. لكن قولي لي، ألم تسمعي من الدوق شيئًا ممتعًا؟ كأن يحدّثكِ عن بطولاته أو مآثره مثلًا.”
“لا أظن ذلك، سموّ الأمير.”
مدّ كونراد عنقه ليتأكد من خلو المكان من المستمعين، ثم همس،
“أعني، ألم يُخبركِ كيف حلّ مشكلة المياه عندما أخضع جزر القراصنة؟”
‘آه، تذكرتُ الآن.’
في تلك الفترة بالذات، كان نهر آردن، المصدر الوحيد للمياه في مقاطعة فلوريس — وهي الإقطاعية الوحيدة التي ولاّه الإمبراطور عليها — قد جفّ تمامًا.
بدأت القصة بخلافٍ بين كونراد و الكونت مارتيني، حاكم المقاطعة المجاورة لوران.
كان خلافًا تافهًا في الأصل، جعلهما يتبادلان الضغائن لوقتٍ طويل، حتى أهان كونراد الكونت علنًا خلال مأدبة غداءٍ قبل فترة قصيرة.
عاد الكونت غاضبًا إلى لوران، وسدّ مجرى النهر بذريعة الاستعداد لموسم الجفاف. وبما أن لوران تقع في أعالي النهر، فقد جفّ الماء في فلوريس الواقعة أسفله بطبيعة الحال.
“لستُ متأكدةً تمامًا، سموّ الأمير، لكن……ألعلكَ تحتاج إلى مساعدة الدوق؟ ربما يجدر بكَ التحدث إليه مباشرة.”
“أي مساعدة؟ ذلك الرجل لا يصغي إلى كلمةٍ أقولها! يتعامل معي كأني غير موجودٍ أصلًا!”
‘همم……يبدو أن الأمور قد تسير أسهل مما توقعت.’
“سموّ الأمير، هل لي أن أسأل……هل ما يشغلكَ يتعلق بخلافكَ مع الكونت مارتيني؟”
“هاه؟ وكيف عرفتِ؟”
“الشائعات في المجتمع تنتشر بسرعةٍ يا سموّ الأمير. على أي حال، لعل بوسعي المساعدة في هذا الأمر. ففي الواقع، أصبحت مؤخرًا على صلةٍ طيبة بابن الكونت.”
“حقًا؟!”
‘لا.’
“أيمكنني أن أجازف بالكذب على سموّ الأمير؟ امنحني أسبوعًا واحدًا فقط، وسأقنع الكونت مارتيني بنفسي.”
نظر إليها كونراد بشيءٍ من الشك، فابتسمت فانيسا بثقةٍ أكبر.
“أسبوعٌ واحد يا سموّ الأمير. وإن أوفيتُ بوعدي، فهل لي بنصيبي من المكافأة التي وعدتَ بها؟”
“حسنًا، لا أرى مانعًا، فلن أخسر شيئًا على أي حال.”
انحنت فانيسا تحيةً له وغادرت قاعة المزاد بخطىٍ خفيفة. فسألها آيبل من خلفها،
“هل آمر بإعداد عربةٍ للسفر البعيد؟”
“هاه؟ ولماذا؟”
“ألن تذهبين إلى لوران لمقابلة الكونت مارتيني……؟”
“لا حاجة لذلك.”
ضحكت فانيسا خافتةً خلف مروحتها.
‘لن أفعل شيئًا على الإطلاق.’
***
بعد أسبوعٍ تمامًا، وصلت لوحة “صورة الدم” إلى غرفة فانيسا.
“كيف فعلتِ ذلك يا آنستي؟ ألن تخبرينني بسرّكِ؟”
فسألتها نيكولا، وهي تزر أزرار فستانها من الخلف.
“ليس بالأمر الكبير. فقط كنت أعلم أن الكونت مارتيني يحب التفاخر.”
“لكن كيف؟ لم تقابليه في حياتكِ!”
“سبق أن زرتُ لوران مرةً لأمرٍ شخصي. نهر آردن محاطٌ بغاباتٍ من الأرز العتيق، وتلك الأشجار ثمينةٌ جدًا. فإذا سدّ مجرى الماء، ألن تغمر المياه تلك الغابات؟”
تلألأت عينا نيكولا بإعجاب.
بالطبع، لم يسبق لفانيسا أن زارت لوران من قبل. ثم إنّ الكونت مارتيني الذي عرفته في حياتها السابقة لم يكن من النوع الذي يحنِي كبرياءه حتى لو غمرت المياه غابة أرزٍ بأكملها.
‘كان ذلك في الأيام العادية فقط……’
لكن قبل نحو أسبوع، لا بد أنّ الكونت تلقّى خبرًا لم يُسعده إطلاقًا.
ابنه الثاني كاليب، الذي سيشتهر لاحقًا، فرّ ليلًا مع ابنة أحد كبار مُلاك الأراضي بعد أن أغواها.
والأدهى من ذلك أن كاليب كان له خطيبةٌ منذ طفولته. فطالبت الخطيبة المهانة ووالدها بتعويضٍ ضخم.
عاد كاليب بعد ثلاثة أيامٍ مفلسًا تمامًا، لكن الوضع لم يتحسّن. ولإرضاء مالك الأراضي الغاضب، اضطر الكونت إلى التحضير لحفل خطوبةٍ رسمي بين كاليب وخطيبته.
وبما أنه أنفق كل أمواله في بناء السد، لم يبق أمامه سوى بيع حقوق قطع أشجار الأرز، ولأجل ذلك كان عليه أن يهدم السد بأسرع وقتٍ ممكن.
‘طبعًا، لن يُكشف عن هذه التفاصيل إلا بعد انتهاء موسم المجتمع الراهن.’
بفضل ذلك، حصلت فانيسا على اللوحة كمكافأةٍ دون أن تفعل شيئًا……بل مجانًا تمامًا!
“على أي حال، سيبقى الدوق في القصر اليوم، أليس كذلك؟”
“نعم، لديه اجتماعٌ بشأن ترميم الحصن الجنوبي……لكن هل أنتِ متأكدةٌ من أنكِ ستكونين بخير وحدكِ؟”
“لا تقلقي. إنها جولة تسوّقٍ قصيرة فحسب. أحتاج لشراء شيءٍ سري، ولا أريد لفت الأنظار.”
“ولكن……سيدات الطبقة الرفيعة لا يتجوّلن وحدهن إطلاقًا……”
ابتسمت فانيسا وهي تسدل فوق رأسها حجابًا أسود.
“إذاً فأنا لستُ سيدة من سيدات الطبقة الرفيعة.”
كلما طال مكوثها في جناح الضيوف، ازداد إفراط الدوق في حمايتها. لكنّه ارتكب خطأً واحدًا: فقد أوصى خدمه بأن يُطيعوا أوامر آنستهم قبل أوامره هو.
خرجت فانيسا اليوم مرتديةً ثوب الحِداد الحقيقي. فالسيدة الثرية لا تمشي وحدها، كما لا تتحرك الخادمات إلا اثنتين اثنتين، لكن الأرملة المتشحة بالسواد تُعفى من تلك القواعد.
كان لا بدّ أن تبتعد عن نيكولا وآيبل، لأن الشخص الذي ستلتقيه اليوم هو “الوسيط”.
حين صعدت إلى العربة التي حجزتها مسبقًا، تحسّست شيئًا بين طيّات ملابسها.
كانت نيكولا قد نجحت في شراء “تاج دوقة الدوق” في المزاد. و المبلغ؟ أربعمئة كراون مذهلة — إذ بالغ كونراد في تقدير السعر إلى الضعف حين أخبرها.
‘هاه، لم يبقَ ما يمكن أن يهبط أكثر من ذلك.’
لكن لم يكن بوسعها أن تذهب إلى أي جامعةٍ أو تاجر تحفٍ عادي لتعرض عليه قطعةً بهذه القيمة الفلكية.
فلكي تجد من يُدرك القيمة الحقيقية للتاج — أو بالأحرى، من يدفع أغلى ثمنٍ ممكن — لم يكن أمامها سوى اللجوء إلى “الوسيط”.
ليس أي وسيط……بل ذلك الوسيط تحديدًا.
توقفت العربة في شارع فيروز، حيث تصطف مكتباتٌ هادئة متخصصة بالكتب القديمة.
التعليقات لهذا الفصل " 11"